يقين الـ🕊️ - العدد #43

«فِلّ الحِجاج وخَلّ عنك الهواجيس.. كلٍ يموت وحاجته ما قضاها

واعلم تـرى الدنيـا تجـارب وتقييـس.. مالك ومـال الخلـق تطلـب رضاهـا» 

- سبيل بن سند الحربي

يقين العصفور  

أتذكر أحد أقرب النشرات لقلبي موعد غرامي حينما ناقشت الخوف كضيفٍ يقابلني، وشاركت تجربتي في التعامل مع غثاثته. كانت إحدى أبرز الطرق تقسيم المخاوف .. 

«انتقلت بدوري لمفهوم واسع يحتضن مخاوفي، وهو تقسيم المخاوف وفقًا لواقعيتها.. فالمخاوف نوعين لا ثالث لهما، مخاوف لك فيها يد وحيلة، ومخاوف خارج إرادتك وإدارتك» وأردفت «ووعيك لما يمكنك تغييره من عدمه يقطع لك شوطًا كبيرًا في التعامل مع مخاوفك وفق جديتها، ويعطيك خيار تجاهلها على طبقٍ من ذهب.» 

هذا التجاهل ليس في حقيقته تجاهل الفكرة فحسب، بل أنه بابٌ آخر يهيض نشرة اليوم، باب التوكّل.

يقول المثل «لم أعد أغبط أحدًا إلا الطير في توكله.» هذا الطائر الصغير يغادر عٍشه الدافئ في البكور، لا يعلم ما إن كانت ستصمد الشجرة ويبقى الجذع ثابتًا تحت عشه، ولا يعرف ما اذا كانت وجهته تحوي دودةً لجوعه أو طعامًا لحويصلته، إلا أنه في كل يوم، ومع كل شروق يبسِط جناحه للهواء وينطلق محلقًا، مويقنًا أن رزقه آتي لا محاله، قريرًا بما مـــنّ الله عليه حتى يومه الحاضر. ولعلّ الطائر يُغبط أكثر على متانة يقينه، فلا يتزعزع هذا اليقين في الأيام العاصفة أو الأوقات العصيبة، ولكنه توكلٌ راسخٌ قوي.

إلا أن قول «توكلت على الله» ليس بتلك البساطة، فالتوكّل أسلوب حياة ومنهجٌ للقلوب. وتستطيع القول أنه «عادة» كـسائر العادات تُكتسب وتُهذّب. فكيف الطريقة؟ 

سربٌ موقن🧡

أسرار التوكّل

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-:

«التوكّل نصف العبادة والنصف الثاني الإنابة؛ فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة.»

ما تستطيع استنتاجه أن التوكّل جملة سلوكيات وعادات، واكتسابه وانتهاجه لا يحدث بين غمضةٍ وومضة، بل رحلةٌ إيمانية عذبة تتعلم فيها كل يوم، وتمر عبرها بتحدياتٍ تصقل حقيقة هذا التوكّل. تعلمك هذه التحديات أكبر أسرار التوكّل على الإطلاق وهي العمل بالأسباب. فلا يقتصر التوكّل على ترديد العبارات وانتظار النتائج، بل العمل الحثيث واقرانه بالاستعانة بالله وحده دون سواه. هذه الاستعانة التي تنشأ في حنايا القلب المرتعش فتمسح على قلقه من صعوبة ونتيجة الرحلة، وتمتد كـتذكيرٍ رسين لإعانة الله لعبده، ثم تتجلى في النهاية التي نجهلها ولكن تجعلنا ندرك ثقتنا اللامتناهية في الكريم الرحيم كيفما أتت. وهذا الإدراك يرسّخ ثاني أسرار التوكّل وهو أنه ثقة رسينة بالعزيز الجبّار وحقيقة الإيمان بالأقدار كيف أتت.

وعلى غرار إحدى النشرات السابقة (متلازمة الحب) ولضرورة تسمية المشاعر بشكلها الصحيح لفهمها، تتجلى ضرورة معرفة أعماق التوكّل. إذ أن التوكّل يرادف الاستعانة، والاستغاثة، والتفويض، وحسن الظن، وحتى التسليم لحكمته.. كلها خالصةً للرفيق الأبقى والمعبود الأحق الله عز وجل. 

وليست المرادفات وحدها التي تتجلى، فللتوكّل جملةٌ من العادات المقرونة، لتؤكد مجددًا على حقيقة أنه أسلوب حياة مختلف. 

مشاعر الرحلة

في رحلة التوكّل تتعلم كل يومٍ صفة تهذب النفس، لتبزغ حينها عاداتٍ -وعبادات- في طريق الرحلة، منها: 

- التوكّل واليقين: فهي علاقة طردية في القلب، كلما زاد اليقين بالقلب النّاص على الإيمان بالله وحده النافع الضار، المعطي المانع، الرازق الخالق، زاد التوكَل عليه.

- التوكّل والتفاؤل: هذا التفاؤل الذي ينشأ من إيمانٍ تام وعميق بلطف الله وكرمه، فلا يقنط المتوكّل ولا ييأس ولا يستسلم، بل مع كل تحدي وصعوبة يستشعر حسن ظنه بالله ويتوكّل عليه، ويعلم أن كل غمةٍ زائلة لا محاله.

- التوكّل والرضا: ربما الرضا أحد المشاعر التي دعتني لكتابة هذه النشرة، لأن التوكّل مقرونًا بالثقة في حكّم الله ومقاديره، هذه الثقة التي تحول النظرة الحياتية الساخطة إلى نظرة رضا تعلم أن الله كفيلٌ بالقلوب وما تمنت. 

ختامًا، وعودةً لطيفة على مطلع النشرة، التوكّل ليس علاقة ثقة وصادق يقين وأسلوب حياة فحسب، بل أحد أجدر وأفضل الطرق لتهدئة المخاوف والقلق، والتركيز على ما بين يدينا للعمل به دون سواه. 

*المرجع

كاتبتكم المعهودة التي ترسل أطيب رجاويها للعام الجديد: عهد🌷

*إذا أعجبتك هذه النشرة أطّلع على أخواتها السابقات(:

سحر البدايات- العدد #٢٩ - نشرة نَجوى عهد | هدهد

لستة الأحلام - العدد #20 - نشرة نَجوى عهد | هدهد