الــبــذل- العدد #47

24 يوليو 2025 بواسطة عهد #العدد 47 عرض في المتصفح
في حب الفنجال الأشقر3>

يقول لي أبن أخي ذو الثلاث سنوات في كل مرة يقابلني «أبي مفاجأة» وأظل أفتّش أدراج المطبخ وحقائب يدي أبحث عن أي شيءٍ يُهدى، الجميل في الأمر أنني لو أهديه موزة رقص فرحًا.. ما أجمل الامتنان في أنقى صورِه!

بين الفناجيل تتجلى المفاهيم

في سلوم القبائل تُصّب القهوة بمقدارٍ محسوب في الفنجان، ففي أبجدياتها معانيٍ مبطنة؛ الإكثارُ يعني استثقال الضيف ووجوب رحيله، والقلّة تساوي بخل المضيّف، وكل هذا يعتمد على الصبّاب الذي «يلقطها وهي طايرة». يعجبني هذا الاتيكيت البدوي، وذلك حتى قرأت لإحداهن تقول أن الأصل في الكمية المحدودة هي حقيقة الفقر النقيع الذي ساورهم خلال عيشهم. وفي روايةٍ أخرى يقول أحدهم -وعلى ذمة الراوي- أنه الأصل في كرم العرب الشديد نتاج الوحشة القاتلة في البادية، تلك الوحدة التي تدفعهم للاحتفاء بالضيف بكل السبل. الحقيقة أن البحث في أصول العادات مُهمةً بالغة الأهمية، تعطي تفسيرًا واضحًا لها. والكرم على وجه الخصوص أحد الخصائل التي تغنى بها العرب منذ فجر تاريخهم، ثم حتى أن الإسلام أتى بدوره منهلًا عذبًا في السخاء والعطاء في سبيل العابرين والمسافرين والمساكين والفقراء، وضرب الصحابة أمثلةً في الجود والإيثار منها ما ذكر في القرآن الكريم﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9] والسيرة النبوية العطرة. لكننا اليوم في عصرنا الحديث ننمو وتكبُر مفاهيم الكرم معنا، ويخرج عن معناه الـــمــادي ليتجلى في معاني أعمق وأرقى. 

وعلى ذكر الكرم، لا يمكن أن يفوتنا ذكر طيّب الذكر حاتم الطائي، رمز الشهامة والكرم. قصصه عديدة ولكن أبرزها وحدة علقت في ذاكرتي عندما عرفتها صغيرة، تلك الحادثة حيث أتاهُ ضيفًا مساءً ولم يكن مع الطائي سوى فرسه فذبحها لإكرام ضيفه.

وظليت أفكر ما الذي بقى معه بعد ذبيحته؟ كيف تصرّف بعد رحيل ضيفه؟ وهل هذا حقًا كرمٌ نتغنى به أم أن الطائي ببساطة يعاني في تحديد أولوياته، بل ويخجل خجلًا مذمومًا فيما ليس في استطاعته؟!  

*فنجاليات* باللام وليس النون

*فنجاليات* باللام وليس النون

هل الطائي عانى؟

أتابع قبل عدة أيام البرنامج الشهير #ABtalk مع أنس بوخش هذا البرنامج المثير عنوانه «الإنسان خلف الألقاب». في أحد حلقاته مع الممثل التركي بوران كوزوم، تطرقا لمفهومٍ أنيق عصري يصون حدود الإنسان النفسية والإجتماعية The Healthy Selfishness أو الأنانية الصحيّة، وهي باختصار وضع أولوياتك في المقدمة. إلا إن الأنانية كمفهوم مذمومة، وفي مجتمعاتنا المعطاءة والمفطورة على المبادرة والجود لا تُصعّب فحسب «الأنانية الصحيّة» بل حتى قد تنبذها وتذمها.

لقاء مثري- YouTube

لقاء مثري- YouTube

فكيف يوازن الشخص بين احتياجاته دون أن يفقد قيمة الكرم المادي/النفسي؟

قسّم أهل الاختصاص العطاء في قسمين رئيسية: 

الأول: الإيثار المرضي أو Pathological altruism وهو العطاء المستمر والمتواصل النابع من الذنب أو البحث عن القبول والرضا أو حتى مبني على مفاهيم خاطئة حول البذل والتي تؤثر سلبًا على الشخص عبر المدى الطويل. 

الثاني: الأنانية الصحيّة أو The Healthy Selfishness وهي العطاء دون فقدان الذات وتحديد أولوياتها بوعي. 

والخط الفاصل بينهما الدراسات التي تؤكد أن الإيثار المرضي ليس بالضرورة جيد، والأنانية الصحيّة ليست بالضرورة سيئة! 

الأنانية الصحيّة تعني أن تضم طاقتك بما يحفظك ويحفظ جودة عطاءك للآخرين، أن لا تقلع جذور الود والسخاء، ولكن تعلّم أي الأوراق تُسقى لتنمو وأيها يستلزم القص.

إن الأنانية الصحيّة عقلية تتبنى وتستوعب كافة حدود الذات، وتحترم أن «لنفسك عليك حق». لا تتمحور حول الذات لتصل إلى نرجسية مقيتة تضرب مشاعر/حاجات الآخرين عرض الحائط؛ بل تعي احتياجاتها ومشاعرها وأولوياتها، بما يسمح لها أن تتجلى في صورة نقية غير مستنزفة متواجدة لاحبائها عند اللزوم. تخيّل معي صداقةً قيّمة وثمينة في حياتك، متواجدٌ فيها «بالحال والمال» ولكنك منجرفٌ فيها بكل ما فيك، بوقتك حتى أنك لا تجد وقتًا لك، بتفكيرك حتى أنك لا تفكر بمشاكلك أولًا، بمالك حتى أنك لا تجد ما تعبئ بنزين سيارك! شعرةٌ رقيقة تفصل بين المواجيب وقيمة الأحبة وبين نسيان الذات وحتى ظلمها في علاقاتها. قد يصل بعض الإيثار إلى الاستغلال حتى، فعندما تكون دائـــــــــمًـــــــــــــا موجود = دائـــــــــمًـــــــــــــا متاح.

وضع الأولويات في المقدمة قد يُشعر بشيءٍ من الذنب، فنحن -وإن أنكرنا- مجتمعاتٌ قائمة على التآخي والمساعدة والجود؛ لكن عندما يصل الأمر الإرهاق بكل أشكاله تنقلب الموازين ويحدث ما لا يحمد عقباه. 

قضاء بعض الوقت معتزلًا الآخرين لا يعني نفيهم من حياتك ولكنها حاجة فطرية لاستعادة الموازين. الاهتمام بصحتك وغذائك والبحث عما يطورك ذهنيًا وبدنيًا لا يعني التقصير بحق الغالين. احترام ذاتك والانسحاب من العلاقات السامة والمؤذية بهدوء لا يساوي النبذ والجحود. رسم حدودك بالبنط العريض والإفادة عن النفس بشكلٍ واضح وصريح لا يعني الهجومية والتضييق. طلب المساعدة ولو مرة لا يعني بالضرورة الضعف والتكليف. التوقف عن البذل حينما يظن الآخر أنها من المُسلمات والحقوق المفروضة لا يعني البخل أو التقصير. 

وضع حاجاتك في عين اعتبارك هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق غاياتك، والذي قال «جاك يا مهنا ما تمنى» لا يتحقق بالتضحيات المستمرة للآخرين، بل من نفسٍ تعلم قدرها وقدرتها.

ختامًا، وعودة إلى تساؤلي عن استعياب حاتم الطائي لأولوياته، ربما قد كان يخجل من قول «لا عندي/أملك» وربما تعرض للاستغلال ممن ينصاه متعمدًا يدرك حاله ولكن يُقدم على أية حال. وبالرغم من هذا يظل الطائي رمزًا في الشهامة تخلده الكتب ما حيينا.

هل لك تجربة تلمس صميم نشرة اليوم؟ شاركني بالرد على الإيميل أو عبر حسابي في إكس.

إكس

كاتبتكم المعهودة التي تصارع ضميرها كلما اختلت واختفت: عهد🌷

*إذا أعجبتك هذه النشرة أطّلع على أخواتها السابقات(:

تـلاقِـي - العدد #46 - نشرة نَجوى عهد | هدهد

هل نحن وحدنا؟
gohodhod.com

متلازمة الحب🪽 - العدد #41 - نشرة نَجوى عهد | هدهد

لا للرومانسية!
gohodhod.com
م. طارق الموصللي1 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة نَجوى عهد

نشرة نَجوى عهد

نَجوى عهد، نشرة بريدية اسبوعية اشارككم فيها افكاري وتأملاتي وحتى هواجيسي التي ملّت حبس مذكراتي. جسرًا بيننا تغرّد فيه افكاري بحرية!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة نَجوى عهد