تـلاقِـي - العدد #46

17 يوليو 2025 بواسطة عهد #العدد 46 عرض في المتصفح
هل نحن وحدنا؟

يقول الماعز للطائر المحلّق: هنيئًا لك جناحان ترفرف ومنقارًا طويلًا يصطاد. ليرد الطائر: لازالت عنز الشعيب تحب غير المتاح. 

فضيلة التشكيك

في الترم الدراسي الأخير من الجامعة والأسابيع الأولى التي سبقت بحث التخرج، كنت وصديقاتي نجتمع باستمرارٍ مع مشرفة البحث لنتباحث ونعصف ذهنيًا موضوع مشروع تخرجنا. وفي إحدى صباحات الأحد، في قاعة الاجتماعات التي تفوح منها رائحة القهوة قالت لي الدكتورة في خضم نقاشنا «تحبين تناقشين يا عهد» وذلك عندما اعترضت على أحد المواضيع المطروحة بحجة أن مجالنا منها متشبع. والحقيقة أنها لم تقلها من باب الذم أو التحبيط، لكنها بدورها تثير نشرة اليوم

اقرأ منذ أسبوع كتاب «عشت سعيدًا: من الدراجة إلى الطائرة» والذي يروي فيه اللواء عبدالله السعدون سيرته الذاتية وفصول حياته الشيقة من طفلٍ شقي يسكن الغاط ويداوم حافي القدمين، إلى انتقاله للرياض لاستكمال دراسته لاحقًآ. أحد الفصول ناقش اللواء فيها تمكين العقول وكيف يبدأ في قاعات المدرسة أولًا، وأن جمّ الأفواه فيما بعد والاعتماد على التلقين والتحفيظ أنتج عقولًا تحفظ وتردد دون أن تعي وتعقل. مشيرًا إلى أهمية طرح الحوارات البنّاءة! 

في تجربتي الشخصية وعودةً لملاحظة مشرفتي في مطلع النشرة، حظيت بطفولةٍ شاركت فيها أفكاري بوضوح. بدأ ذلك من والدي الذي كان يحاورني باستمرار، يُجلسني بجانبه أينما كنّا، ثم يطرح اسئلته ويمنحني الضوء الأخضر للتغريد. هذا ما جعلني طفلةً جريئة تعشق المدرسة والإذاعة الصباحية والفعاليات المقامة التي لا تخلو من مشاركتي. واليوم، بعد مرور الأعوام، لازلت ألمس أثر تلك النقاشات البسيطة والمفتوحة. 

ولكننا وبطبيعة الحال، نكبر ويكبرنا من يحاول إلجام العقول الواعدة التي يخجلها صغر عمرها وقلة خبرها. سواءً بالمناهج التي تُلقن العقول الصغيرة بأكوامٍ هائلة من المعلومات، أو نصطدم بجدار المجتمع القاسي، حيث يرأس المجالس سليط اللسان الذي يخشى لذعه الآخرين، وبجانبه حفنة من الحمقى الذين يخافونه. ولو أمعنت النظر ستجد أنها صورٌ مكبرة لبعض الفصول الدراسية التي تغيب عنها العين المُربية، حيث يترأس الفصل عصابةً كسولة ومعززين جبناء يخافون أن يكونوا الضحية المقبلة.. أليس الأبناء انعكاسًا لأهاليهم على أية حال؟ 

وتضمر الأسئلة البنّاءة لم ترَ النور، وتنكمش العقول التي كانت بالأمس واعدة، ونظل أزمنةً طويلة نتداول ذات الأفكار العتيقة في ظل غياب المساحات الملهمة. يشير اللواء في كتابه عن تلك الحقبة، عندما توسع التعليم وفتحت الأبواب أمام المعلمين من دولٍ مختلفة، أتت بعض العقول وهي تحمل في دواخلها نوايا مغبشة تجاه قضايا بالية، لكنها وجدت طريقها لتعكير صفو العقول الشابة التي حفظتها ولقنتها ما لا يخدم أحد سوى أصحاب الشعارات والمحسوبيات. في مشاهد زمنية تكرر سهولة غسل العقول طالما لم يتح لها التساؤل والمناقشة وحتى فضيلة التشكيك بصحة الأفكار. 

يحزنني مثلًا عندما أرى مراهق في مطلع شبابه يحمل ذات أفكار والده السبعيني التي تقتضي بطمر هوُية زوجته وبناته، وأتخيل لو أتيح لهذا العقل الواعد مناقشة أفكارٍ مضادة لبيئته، كيف كان سيهدم الأفكار المنغلقة وينقذ جيلًا آخر لم يلد بعد في عائلته؟ هذا ما يجعل فضيلة الحوار مرفوضة في المجتمعات المغلقة التي ترى في كل رأيٍ مختلف تهديد للذات، هذه الذات التي خبئت نفسها تحت مظلة الآخرين وما يرونه صائبًا. 

وفي النظر لمن سبقونا بالأيمان، سترى أن كل الرسل بلا استثناء قامت رسائلهم على الحوار كقول سيدنا عيسى عليه السلام ﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ المائدة -٧٦. لم يهاجم أو يسخر أو يهدد، ولكنه حوارٌ يشيرُ لفكرةٍ رئيسية يدعمها حجج قائمة صحيحة، ومعجزاتٌ إلاهية خصّتهم عن غيرهم. ولو لم يُسخر الله المؤمنين للإنصات والتساؤل ربما لم يهتدوا وضلوا مع من ضل. 

ويجدر القول أن ليس كل ما يُدار في الحوارات يقتضي الصحة من عدمها، والحق والباطل، ولكنها نشرة تشيرُ إلى قيمة الحوارات والإنصات والأخذ والرد، وضرورة تقبّل الاختلافات -تلك الاختلافات التي لا تمس جواهر الدين والعقيدة-. 

في حوض الوانيت حيث دار أهم حوارات العصر «هل نحن وحدنا؟» في هذا الكون الفسيح!

في حوض الوانيت حيث دار أهم حوارات العصر «هل نحن وحدنا؟» في هذا الكون الفسيح!

صـلاحـيـة التـحـاور

«ولا تسمّع باهتين الذوق شعرِك .. وأنت شعرك من عروق البرق راضع» مساعد الرشيدي -رحمه الله-.

وعلى قدر أهمية الحوار وخوض النقاشات المثرية، ليست كل الأماكن/الأشخاص صالحين للتحاور، لاسيما تلك المجالس التي تهتز عروشها من أي أراءٍ مخالفة لهم أو حقائق ظلوا يطمرونها سنينًا عدة. ومن قال «لكل مقام مقال» يختصر لك المبدأ الأجدر بالمعرفة. 

ولو ضحكت مشرفتي ومازحتني إلا أنني أعلمُ أنها خير من اناقشه في أي موضوعٍ أكاديمي، ولو استاء مني طبيبي لأهمالي لصحتي إلا أنني أدرك أنه الأجدر في مناقشة أي استفسار صحي، وتطول القائمة بأهل الخبرة العلمية والعملية ممن ينصتون ويثرون حتى بصمتهم. 

وعليه، ليس فحسب من تخاطب، ولكن يقع على عاتقك قياس مدى تقبل الطرف الآخر للحوار حتى ولو أتيحت الفرصة. أراه ضربٌ من الجنون أن اناقش عجوزًا أن وظيفتي لا تهدد مصير الأمة وتفسد الأخلاق، لمَ تُكلّف العناء في تعديل ما خُتم وضعه؟ بعض القناعات وإن لم تعجبنا فهي ملك لأصحابها ولا يتعين علينا تغييرها. وبعبارةٍ أخرى، على قدر تطلعنا لتقبل الآخرين لوجهات نظرنا، فعلينا أن نحترم كذلك تطلعهم في تقبلنا. لا نقول أننا نبحث عمن نحاوره بصدق ونحن مغلقين الباب أمام من يعترض.. دعونا لا ندور في دائرة مغلقة، ونحتفظ بأنفاس اقناع الآخرين خصوصًا الذين يكبروننا أجــيـــــالًا، بل نحفظ الود ونحترم الـــــفــوارق.

ختامًا، تُثار نشرة اليوم لـتحثك -وتحثني- على خوض الحوارات الملهمة ما استطعت، والتشديد على ضرورة التساؤل حول ماهية الأمور وحقائقها. والأهم في المهم أن لا يأخذك الخوف أو الخجل عن التحاور وطرح الأسئلة، وكلما شعرت بالتردد تذكر علماء الفلسفة وهم يناقشون كل شيء في الوجود! 

كاتبتكم المعهودة -التي ظلت تناقش بحث تخرجها حتى أخر رمق-: عهد🌷

*إذا أعجبتك هذه النشرة أطّلع على أخواتها السابقات(:

التفكّر - العدد #33 - نشرة نَجوى عهد | هدهد

عن مدّ النظر في الحياة 3>
gohodhod.com

عذب الكلام- العدد #30 - نشرة نَجوى عهد | هدهد

خميسكم سعيد(:
gohodhod.com
مشاركة
نشرة نَجوى عهد

نشرة نَجوى عهد

نَجوى عهد، نشرة بريدية اسبوعية اشارككم فيها افكاري وتأملاتي وحتى هواجيسي التي ملّت حبس مذكراتي. جسرًا بيننا تغرّد فيه افكاري بحرية!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة نَجوى عهد