لماذا نختار المهن الأقل ربحًا؟

28 يوليو 2025 بواسطة زهــراء #العدد 8 عرض في المتصفح

أمام كل مبدع اليوم خيارات لم تكن متاحة للأجيال السابقة. فهاوي الطبخ يمكنه التخصص في الطهي للمطاعم، أو تطوير الوصفات، أو تصوير الأطعمة، أو حتى تقديم استشارات في مجال التغذية. والكاتب يستطيع كتابة المحتوى التسويقي، أو السيناريوهات، أو المقالات التقنية، أو حتى الكتب الفلسفية.

وداخل كل مجال، توجد تخصصات فرعية، يحقق بعضها عائدًا ماليًا أسرع وأكبر من غيره. فمثلًا، الرسام الرقمي قد يجني في شهر واحد ما يحققه رسام البورتريه في عام كامل، ومهندس البترول قد يتلقى طلبات تفوق ما يحصل عليه مهندس البيئة.

إذن، المنطق يفترض أن الجميع سيتجهون نحو التخصصات الأكثر ربحًا والأقل مخاطرة. لكن هناك فئة بارزة ولو قلّ عددها لا تفعل..

في الحقيقة، إنها قرارات معقدة!

عندما نتعمق في دوافع الاختيار المهني، نكتشف أن الحسابات أعقد بكثير مما تبدو عليه، فالعائد المالي هو عامل واحد فقط ضمن معادلة متشابكة تشمل عوامل أخرى قد تكون أقوى تأثيراً.

فمثلًا، هناك ما يسمّى بـ "التكلفة النفسية" لأي عمل.

وبعض التخصصات، رغم ربحيتها العالية، تتطلب من الشخص أن يتنازل عن جزء من هويته أو قيمه أو رؤيته للعالم. والسؤال هنا: ما الثمن النفسي الذي نحن مستعدون لدفعه مقابل الاستقرار المالي؟

وقد شهدتُ بنفسي أشخاصًا يتخلّون عن مناصبهم – رغم ربحيتها – لأنهم لا يشعرون بالأمان النفسي... بل على العكس، يشعرون بالتآكل!

كذلك هناك مفهوم "التشبع السوقي". التخصصات الأكثر ربحية تجذب أعداداً كبيرة من الممارسين، مما يؤدي إلى منافسة شديدة وتراجع تدريجي في الأسعار. بينما التخصصات الأصعب أو الأكثر تخصصاً قد تحتفظ بندرتها لفترة أطول.

فخ الوضوح المؤقت

من الأخطاء الشائعة في التفكير المهني أننا نقيم الخيارات بناءً على وضعها الحالي، متجاهلين أن السوق في حالة تغير مستمر.

ما يبدو "مربحاً" اليوم قد يصبح مشبعاً أو قديماً بعد بضع سنوات.

تخيل من اختار تصميم مواقع فلاش في عام 2005، أو من تخصص في إدارة صفحات فيسبوك في 2012. في وقتها، كانت هذه تخصصات مربحة ومطلوبة. لكن التقنيات تطورت والسوق تغير، وأصبح هؤلاء مضطرين لإعادة تعلم مهارات جديدة أو تغيير مسارهم كليًا.

في المقابل، من اختار البحث في التسويق الشخصي وتطوير العلامات أو تجارب المستخدم وسلوك المستهلك، رغم أن هذه المجالات كانت تبدو هامشية وقتها، يجدون أنفسهم اليوم في مقدمة الطلب.

المشكلة أننا نميل لاختيار ما يبدو "آمناً" ومضمون العائد، دون أن ندرك أن الأمان الحقيقي قد يكمن في اختيار ما نجيده ونؤمن به، حتى لو بدا محفوفاً بالمخاطر في البداية.

الطاقة والإبداع

هناك عامل آخر نادراً ما نحسبه: العلاقة بين نوع العمل ومستوى طاقتنا الإبداعية.

العمل في مجال لا يتماشى مع ميولنا يستنزف طاقة إضافية مرهقة وسامّة، والتي ستقلل من قدرتنا على الاستمرار والتطور فيه.

الشخص الذي يجبر نفسه على كتابة محتوى تسويقي بينما شغفه الحقيقي في الكتابة الفلسفية، قد يحقق دخلاً أكبر على المدى القصير، لكنه سيواجه صعوبة متزايدة في تطوير مهاراته والتميز في مجاله.

بينما من يختار المجال الذي يتماشى مع طبيعته، حتى لو كان أصعب مالياً، قد يصل إلى مستوى من التميز يجعله نادراً ومطلوباً.

هذا لا يعني تجاهل الاعتبارات المالية بالكامل، بل يعني فهم أن الاستثمار في تطوير مهارات نحبها ونجيدها قد يكون أكثر ربحية على المدى الطويل من السعي وراء المكاسب السريعة.

السوق الخفي

ما نراه من "مهن مربحة" غالباً ما يكون السطح الظاهر من السوق فقط. هناك قطاعات كاملة من العمل لا تحظى بالإعلان والظهور، لكنها تحقق عوائد ممتازة لمن يكتشفها.

فالشركات الكبرى على سبيل المثال تدفع مبالغ طائلة لمن يحل مشاكلها المعقدة التي تؤثر بشكل مباشر على مستقبلها، حتى لو كانت هذه الحلول في مجالات تبدو "غير تجارية".

وفي سبيل إيجاد ذلك النوع من الحلول، قد تلجأ الشركة إلى استشاري مختص بتحسين بيئة العمل أو باحث يساعدها على فهم الخصوصيات الثقافية لأسواق جديدة، و يحصلون في النهاية على أتعاب تفوق مطور التطبيقات العادي، لأنهم يحلون مشكلات أعمق وأكثر تأثيرًا على استراتيجية الشركة.

وللأسف، هذه الأسواق غير مرئية لمن لا يبحث عنها. وتتطلب وقتاً أطول لبنائها، وشبكة علاقات مختلفة، ونوعاً من المصداقية لا تتكون بسرعة. لكن من يستثمر الوقت في تطويرها قد يجد نفسه في مكان لا ينافسه فيه أحد.

في النهاية، المسألة تعود لكيفية تعريفنا لـ"الربح". إذا كنا نقيس الربح بالمال فقط، فالخيارات واضحة ومباشرة. لكن إذا أدخلنا في الحساب عوامل أخرى مثل الرضا الشخصي، والتأثير طويل المدى، والتطور المهني، وإمكانية بناء شيء فريد، فالمعادلة تصبح مختلفة تماماً.

ربما السؤال الأصح ليس "لماذا نختار المهن الأقل ربحاً؟" بل "كيف نعيد تعريف الربح ليشمل ما يهمنا حقاً؟" عندما نجيب على هذا السؤال بوضوح، تصبح اختياراتنا المهنية أكثر منطقية، حتى لو بدت للآخرين غير مفهومة.

وأسئلتي لك، وأختم بهما هذا العدد:

> إن خُيّرت بين الرضا النفسي والحرية المالية، أيّهما تختار؟ وأيّ "ربح" تودّ أن تحصده من نجاحك؟

أما سؤالي الثاني فهو:

> ما المجال الذي، إن كرّست له جهدك وعمرك وحياتك، تعتقد أنك لن تشعر بالندم، حتى لو لم يكن الخيار الأسهل؟

***

وحين تنضج الفكرة القادمة.. سأعود بعدد جديد.

زهراء عشيري | من الفكرة إلى الأثر

م. طارق الموصللي1 أعجبهم العدد
مشاركة
أثَـر | نشرة زهــراء البريدية

أثَـر | نشرة زهــراء البريدية

أكتب عن كلّ ما يعنيه أن نصنع أثرًا حقيقيًا من خلال مشاريعنا، تسويقنا، وقصصنا...

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من أثَـر | نشرة زهــراء البريدية