أين نحن من أخلاقيات الدعاية والإعلان؟

15 يوليو 2025 بواسطة زهــراء #العدد 7 عرض في المتصفح

الفجوة بين ما نملك وما نريد تتسع يوماً بعد يوم، وتَضخُّم هذه الرغبة (في الزيادة)، باستماتة نسميها في مجتمعاتنا الاسلامية بـ "الطمع/ عدم الرضى". ورغم إدراكنا ومعرفتنا المسبقة بخطورة هذا الوضع، إلا أن هذه الرغبة تستمر بالتفاقم والنمو، ولم يحدث هذا صُدفةً.

شركات تُصنّع منتجات التجميل تنفق مليارات الدولارات لتقنعك أن بشرتك ليست بيضاء بما فيه الكفاية ومليئة بالعيوب، وتطبيق للياقة البدنية يستثمر في أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي ليحلل بنيتك ويخبرك بكل التفاصيل التي يجب أن تصلحها في جسدك.

هذا الاستثمار الضخم في صناعة "عدم الرضى" و "خلق المشكلة" لا يحدث عبثاً، بل لأن مشاعر النقص تحولت إلى أكبر محرك اقتصادي في العالم.

لكن: أين يقف الرّيادي المسلم من هذا الإقناع اللامتناهي؟ وكيف يمكن أن نوازن بين الدعوة للرضى والقناعة التي يحثنا عليها ديننا، وبين التسويق المبني على استغلال مشاكل العميل لإنجاح البيع وجني الأرباح؟

سلعة النّقص

قرأت كثيرًا كمسوقة كون الإعلانات الناجحة لا تبيع منتجات، بل تبيع مشاعر. وهذا صحيح!

تبيع الخوف من الفشل، والقلق من عدم الكمال، والرغبة في الانتماء. تصنع أولاً الألم النفسي، ثم تقدم الدواء مقابل ثمن.

هذه الآلية أصبحت أكثر تطوراً مع وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تستخدم خوارزميات معقدة لتحليل سلوكنا وتقديم الرسالة المناسبة في الوقت المناسب.

وللأسف نرى أعدادًا لا يمكن الاستخفاف بها من المستهلكين يشعرون بعدم الرضى عن أنفسهم وحياتهم بعد مشاهدة الإعلانات، خاصة تلك التي تركز على المظهر الخارجي أو النجاح المادي.

والأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فالتسويق الحديث يخلق دورة لا تنتهي من عدم الرضى، فنجد أن كل منتج أو خدمة جديدة تحمل وعداً بالسعادة، وعندما نحصل عليها ولا نجد السعادة الموعودة، نبحث عن التالي.

ولهذا السبب بالتحديد، نتخبط نحن المسلمين باستمرار بين الحاجة لهذه الاستراتيجيات "الناجحة" من أجل تجميع الفوائد، وبين الحاجة للالتزام بتعاليم الاسلام.

فهو يدعو إلى المفهوم المناقض لـ "خلق المشكلة" أي: الرضا والقناعة. فيقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:

"مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا".

هذا الحديث يضع معايير مختلفة لنمط شراء الزبون المسلم، معايير لا تعتمد على الاستهلاك بل على الشعور بالأمان والصحة والكفاف.

لكن هل هذا يعني أن نرفض كل شكل من أشكال التطوير والتحسين؟

بالطبع لا. الإسلام يحث على السعي والعمل والتطوير، لكن من منطلق مختلف عن الرغبة في الكمالية الزائفة التي يرّوج لها المجتمع الغربي، فنحن نعلم أن الكمال لله وحده سبحانه وتعالىٰ.

فالفرق بيننا هو أن الإسلام يدعونا للسعي من مكان الامتلاء، لا من مكان النقص.

نسعى لأننا نريد أن نعطي أكثر، وأملًا في الاستفادة الكاملة من النعم التي رزقنا بها، لا لأننا نشعر بالنقص أو الغيرة أو الطمع.

فعندما نشعر بالرضا عن ما نملك، نصبح أقل عرضة للتلاعب النفسي الذي تمارسه الإعلانات الصاخبة.

وقادرين على التمييز بين الحاجة الحقيقية والحاجة المصطنعة، بين ما نحتاجه فعلاً وما يُقال لنا أننا نحتاجه. وهذه بالضبط أخلاقيات المسلم!

فبدلاً من خلق المشكلة وتضخيمها، ثم بيع الحل الوهمي بالاتباع الحرفي للاستراتيجيات الغربية المحفزة على البيع السريع. يمكن للتسويق الأخلاقي أن يحدد المشاكل الحقيقية ويقدم حلولاً فعلية.

كما نمنح العميل الوفرة الكافية من المعلومات لاتخاذ قرار واعي بدلاً من إثارة مشاعر النقص واستعجال الشراء، فنخاطب بهذا الصدد الحاجات الحقيقية للناس.

كمسلمين، نتمنى أن نكون جزءاً من هذا التغيير. أن نطور أساليب تسويقية تحترم عقلية القارئ وتقدم قيمة حقيقية دون تعمّد إثارة مشاعر النقص. أن نروج لثقافة استهلاكية واعية، تعتمد على الحاجة الحقيقية وليس على الرغبة المصطنعة.

فالتسويق الأخلاقي لا يعني التخلي عن الفعالية، بل يعني إعادة تعريف النجاح. بدلاً من قياس النجاح بعدد المبيعات فقط، يمكن قياسه بمدى الرضا الحقيقي للعميل، وبمدى إضافة قيمة حقيقية لحياته.

وأرجو أن تفهم أيها القارئ، أن قضيتي ليست ضد التسويق كمفهوم، بل ضد ثقافة الاستهلاك التي تجعل من السعادة سلعة تُشترى وتُباع. ولا أعني بهذا أن الرضا يعني أن نقبل ونكتفي بالقليل، بل أن الرضا يجعلنا أحرارًا من الحاجة الكاذبة. وعندما نتحرر، نختار ونشتري ونتطور بوعي وعن قناعة راسخة، لا من النقص ورغبة مؤقتة. وهذه هي القيمة الحقيقية التي نستحق أن نمنحها لعميلنا.

***

وحين تنضج الفكرة القادمة.. سأعود بعدد جديد.

زهراء عشيري | من الفكرة إلى الأثر

م. طارق الموصلليABDELLAH LAHMER2 أعجبهم العدد
مشاركة
أثَـر | نشرة زهــراء البريدية

أثَـر | نشرة زهــراء البريدية

أكتب عن كلّ ما يعنيه أن نصنع أثرًا حقيقيًا من خلال مشاريعنا، تسويقنا، وقصصنا...

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من أثَـر | نشرة زهــراء البريدية