أُكتب حتى بلا جمهور

بواسطة شهد #العدد 14 عرض في المتصفح
«من الطبيعيّ أن الجماهير المسكورة لا تبتغي أو تفهم الإبداعات الفرديّة»


أفكر بأحوال الكُتّاب قديمًا، الذين لم تصيبهم لوثة السوشال ميديا، وبدوافعهم التي جعلتهم يهمّون للكتابة بلا حساب للعواقب التي ستظهر في رحلتهم. 

ثم أدرك أن الجماهيرية هي أقل ما يستهويهم للتفكير، وأن هنالك دوافع أشد وأعمق، مثل مشاركة العالم نهضته، أو تخليد بصمة تكون أقرب للأبد وتقدّم سلوةً أو نشوة أو فكرة، لمن قد يأتي من بعدهم. 

لكن عصرنا هذا يصرخ بسؤاله لكل كاتب: أين جمهورك؟ وكأن على هذا الكاتب المسكين أن يكون شخصيةً إجتماعيةً شهيرة، وهذه الإستراتيجية أسميها «إنحطّ حتى تكبر»

يظهر صاحبها -فرضًا- في السناب شات، ويشارك في مواضيع لا يستسيغها، يخلق شخصيةً إفتراضية يمكن له أن يسوّق لشخصيته الحقيقيّة من خلالها، وبغيةً للظهور وإستغلال الأصداء، يمارس كل تلك الغباوات، ويحاول عبثًا الإحتفاظ بالأنظار المثبّتة عليه؛ حتى تواتيه الفرصة لإستعراض إبداعه وجعله مرئياً من قبلهم. فيُصعق عندما يرى أن لا أحد ممن جمعهم في ظروف المجتمع الإنترنتي العصري، يرغب بتصفح آخر أعماله الأدبية أو ينقلب في أونةٍ إلى متنمر. 

فيجد جميع «المسكورين» يحثّونه على الرجوع إلى التقديم البائس الذي كان يفتعله:

(كلمنا عن فلان، انفضح اخيراً؟) 

(أقول لا تسوي فيها كاتب)

(لن تصبح أسامة المسلم) 

وكم أود أن أقول لهذا المسكين، الذي يسعى عكس التيار ومعه، أن فساد الذوق العام ليست مشكلته، وأنه لن يقبض على جمهوره الصحيح بتكتيكات فردية وعشوائية، وإن كان يرغب بالجماهيرية، عليه أن يستعين بوصلتنا مع العالم.. فن التسويق. -رغم أنه من المؤسف أننا نحتاج إلى وصلة مع العالم غير أنفسنا-

هذا الفن الذي لدي ملاحظات عدّة عليه عندما يُمارس بصفته تسويقًا ذاتيًا. فهل يزيد العناء على كاهلنا أم أنه سبيلنا للإنتصار؟ هل يُفقرنا إنسانيةً، أم أنه يمدنا بعلاقات وطيدة ووفيّة؟

لمن لا يعرف، درست التسويق في سنتين ونصف، وتوظفت في وكالة تسويقية، وكذلك تعاقدت مع جهات تسويقية وإعلامية، لكني وبعد كل تلك التجارب العملية؛ أوصد عليها الأبواب، في الجانب الوظيفي، ولا أعتبر الكتابة وظيفة أكثر مما هي إبداعٌ شخصي خوّلني وأهلني للإرتقاء في أكثر من جانب في حياتي. كما تعرفون الموهبة الواحدة بِركةُ بركات! 

ولأكون صادقة، لم أفكر من قبل بالتسويق المخطط لأعمالي، لكن مؤخرًا، فكرت فيم علي فعله؟ فأبهرُ أعمالي لم ترى الضوء حتى الآن، وأحزن كثيرًا لذلك. فهل أصبحت مجبورة على أن أتّبع طرقًا إرضائية للجماهير؟ وهل في معمعة التسويق سنفقد دوافعنا النقية ونبدأ بكتابة مايستهوي الآخرين لا ما يستهوينا؟ ثم، مانفع الكتابة إذًا إن كانت ستفصّلنا على الأمزجة؟ إن كنّا لا نصدر معها صوتًا جديدًا يصدح بالآفاق ومن هنا يأتي سحره بالنسبة إلى الآخر؟ 

لا شك أن "التأثير" في هذا العالم أصبح مهمة معقدة، فكلمة مؤثر لم تعد تطلق على المبدع وحده، بل على من يملك كثرة المتابعين، ويعرف خبايا عقولهم ورغباتها المنحطة، فيستثيرها بمواضيع قد تكون غير نافعة عليهم، لكنها نافعة عليه.

يتصفحها الناس مرة، ثم يبحثون عن شيء آخر يتصفحونه. والعجيب؛ أنه يستفيد من هذا التركيز القصير للناس، فالجماهير أصبحت غير نوعية، وتركض نحو حتفها بجنون، لذلك، لا تخاف من إلتهام أي شيء تافه وغبي وعقيم في طريقها. 

مازلت أنا وزملائي الكُتّاب نأمل أن نكون مؤثّرين فيما نقدمه، وأبحث عن حلول حقيقية للتخلص من الدُرج الحقير الذي يخنق أعمالي. فنكتب أنا وهم دون أن نصدّق واقعنا، فتزيد كتاباتنا من خيالاتها، ونلتمس عذوبةً فيها نتيجة تمثيلها لصراعاتنا، وأثناء ذلك -أو كثيرًا ما بعده- يبزغ يقين خَجِل، ظلّ للحقيقة، يخبرنا أننا لم نخسر أبدًا، وأننا مجرد ظانّون. مادمنا نحب مانفعل، وأن من يعاكسنا حب مايفعله، لن يلتفت لنا، وهو المُعاب، فلن نلاحقه لنجبره على عكس طبيعته، ولن نرتجي منه سلمًا نصعد عليه. 

وعند اليأس الكلّي من صنع جمهور قارئ لك، تذكّر أن رزقك لا يمر عن طريق البشر، واستعن بالله الذي يرى فراغات عقلك، فيخبئ لك مالن تفكر به ولن تقدر على تبيّنه، حتى يهيئ لك أمرك كاملاً. وفي حلكة الظلام، إن أوشكت على أن تهوي، يُغدق رحمته عليك، ويرزقك نعمة التحليق…

مشاركة
شؤد •

شؤد •

كبسولات معرفيّة من جُعب الإثراء ومواضيعٌ إبداعيّةٌ شيّقة، تأتيكم بشقّين: هزلٌ وجِد، لتُثبت الرسالة قدرتها على اللمعانِ وراء الوسيلة!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شؤد •