أن تكون وحيدًا أو أن تكون مهرجًا |
بواسطة محمد الأحمدي • #العدد 9 • عرض في المتصفح |
|
إن خيرتك بين أن تكون بنفس شخصيتك، مرتاحًا بذاتك ومن هو أنت مع إحساسٍ ساحق بالوحدة أم أن تلهث وراء الناس، ترضي فلان وعلان وكأن إرضاءك لهم هي تذكرة الصداقات في حياتك وكل هذا مقابل ألا تكون وحيدًا، فماذا ستختار؟ |
قد تعتز بخيارك الأول وتعيش بكل كبريائك ووحدتك على ألا تخون نفسك وشخصيتك، وقد تفعل كما فعلت أنا في صباي (وقعها أفضل وأكثر أناقةً من مراهقتي) وتلتصق بكل عابر طريق فيخيل لك أن هذا هو الصديق الذي سيبقى برفقتك حتى عند وصولك إلى نهاية طريقك وعند تفتت رغباتك وضياع عزيمتك وليونة صلابتك يضع كتفك بكتفه ويعطيك من كل ما نقصك وتعطيه من كل ما فاض عندك وشح عنده بل ولا تمانع أن تنقص ليزيد وتشح ليكتفي. |
قد لا تدرك (وكيف لك أن تفعل!) أن الطريقين مجرد نهرين يصبان في نفس المحيط المظلم البارد العميق للوحدة، لذا دعني أقص عليك قصتي. |
الذعر: |
في منتصف المرحلة الثانوي أتذكر كيف أنقض علي الشعور مرةً واحدة وبكل قوةٍ وشدة، مقدماته أصبحت الآن واضحةً أمامي لكنها لم تكن كذلك آنذاك. |
بعد أن فقدت "صديق الطفولة" ابتدأت رحلة البحث عن رفيق الجرائم الجديد الذي سأجد فيه تلك اللذة الصبيانية في السهر أو الذهاب للسوبر ماركت البعيدة بدل البقالة القريبة وتجاوز عدد المترات التي سمحت لي أمي أن أقطعها، أو حتى في الجلسة على كنبة عمارتنا الخضراء المزخرفة بالبني على أطرافها وقماشها ذا رائحة الفرش المشبع بالماء تلك الجلسة المليئة بالأحاديث اللذيذة غير المهمة (وغير الصحيحة حتى، تلك الكنبة كانت مصدر إشاعات أخطر من إشعاعات شيرنوبل!) |
مرت سنة واثنتين وثلاثة، في كل سنة أقول أن الصديق سيأتي، حرفيًا كل أربعاء (قبل أن تصبح الإجازة خميس وجمعة) كنت أطمئن نفسي بأن الأربعاء القادم سيكون هو اليوم الموعود، وحينها بعد صداقاتٍ فاشلة ووحدةٍ أمتلأ بها قلبي بقدر ما فرغت منه كل شيء، حينها شاء البحر أن يفيض والجرح أن ينزف. |
بدأت ألاحظ وحدتي وأقارنها بصداقات أقربائي وزملاء صفي وهذه كانت غلطتي الكبرى، كنت دومًا ما أشعر بغبطة تجاه أقاربي على ولادتهم قريبين جدًا من بعضهم، وأصدقاء الصف على ترعرعهم في نفس الحي، ولم أنتبه أن شيئًا خطيرًا كان ينمو بداخلي، شيئًا لم أنتبه له حتى فات الأوان، فعندما تنبهت له توهمت أن وجوده هو أمرٌ طبيعي مثل وجود أنفي على وجهي أو قلبي داخل صدري وهذا أخطر ما قد يحدث لسلوكياتنا، إن لم نكن واعين بأنفسنا.. السلوكيات المدمرة ستتطور وتتطور حتى تصبح متنكرة أمام أعيننا دون أن نرى أي مشكلةٍ في وجودها. |
ضع قناع المهرج يا محمد: |
طورت في تلك المرحلة الوحيدة عادةً سيئة تجعلني أكون أي شخصٍ أعتقد أن الشخص الذي أمامي يُريدني أن أكونه، أبحث عن نقطة تواصل بيننا، عن حبلٍ أمده له على حسب ما يناسبه من بعدٍ ولون وكأن الحبل حقيقي وحرفي! |
كنت أحمل نفسي ذنب كل لحظة عدم انسجام، كل دقيقة من الصمت هي فرصة للشخص أمامي أن يجدف بزورقه بعيدًا عني ليتركني في بحر الوحدة فأصبحت كثير الكلام قليل المعنى مليء الصفات حسبما تريد، أأنت جاد؟ أنا جاد كأن قسماتي لم تكتشف الضحك بعد. أتبحث عمن يضحكك؟ عندي آلاف النكت كأني منتدى في عام 2008. |
كانت في كل هذه التصرفات خيانة لأعماق أعماق هويتي وشخصيتي، لكن لنهرب من الوحدة نحن نفعل أشياءً لم نتخيل أننا قد نفعلها يومًا! |
لم أعلم -لسذاجتي وصغر سني ربما- أن كل هذه التصرفات لم تكن سجيتي ولا طباعي، بل كنت أستغرب الضيقة التي حدثت لكوني أي شخص، فعندما تكون أي شخص أنت لست شخصًا حتى، ولا أحد يريد أن يبني صداقته مع "ليس شخص" فالتواصل بين إنسان وإنسان لا يقوم على أن تكون القفاز الأيمن لقفازهم الأيسر، وحين يستطيع الآخر أن يمس فيك تلونك حتى بما يناسبه لن يرى فيك صديقًا وإن ضحكتما حتى بكيتما. |
الأخطر من هذا كله أنه لم يكن مرضيًا بقدر ما كان متطبعًا في داخلي، كل ليلة أعود فيها من جمعةٍ مع أصدقائي -حتى أولئك الذين أعدهم حقًا أصدقاء- أشعر بضيقةٍ خانقة وفراغ فسيح ما زال يمتد ويمتد حتى ابتلعني وامتد الشعور إلى وحدةٍ لم تختفِ حتى وأنا وسط عشرات الأصدقاء، رغم وضوح السبب إلا أني لم ألاحظ، أو أني أخترت ألا ألاحظ فماذا سيفعل فتى في السابعة عشرة إزاء شعوره بالضيقة لأنه يحاول أن يملئ فراغ قلبه بأكثر عددٍ ممكن من الأصدقاء؟ |
ضيقةٌ وفراغ ووحدة، بالطبع! فماذا تعتقد أن يحدث حينما تلبس كل ساعةٍ قناعًا ولا تعطي الفرصة لوجهك أن يتنفس؟ |
ألا ترى نفسك في المرآة يا محمد؟ |
أتذكر الموقف وكأنه حدث ليلة الأمس.. في الفصل الدراسي الأول من السنة التحضيرية في الجامعة (والجامعة آخر مرحلةٍ لصنع أصدقاء بدون مسؤوليات الوظيفة أو جديات الأعمال فالضغط كان مضاعف) وجدت أربعة أصدقاء كانوا طيبين كفاية ليدخلوني في دائرتهم الضيقة. تشاركنا الاهتمامات والرغبات والتخصص، حتى أنهم لم يمانعوا أن نشاهد عروض المصارعة من فترة لفترة، وهذا نادر جدًا لأي شخص فوق الـ 12 سنة. |
رغم أني لم أحتاج أن أكون أي شخص غير نفسي إلا أن تعودي على أن تكون كل طلعةٍ هي الأفضل وكل حديثٍ هو الأكثر تشويقًا وكل محادثة يجب أن تفجر عقلك وإلا فأنا خذلتك وخذلت نفسي، جعلني أشعر برفقتهم أني دخيل ولا عجب فمن يضع كل هذا الوزن على كتفيه ولا يشعر بعدم الانسجام؟ |
لسنا الأربعة على نفس مستوى الحميمية.. بل لسنا حتى على نفس مستوى الميانة، أسيت نفسي بأن ما يحدث طبيعي جدًا، فأنا دخيلٌ على المجموعة وهم -على ما يبدو- أصدقاء من مدةٍ طويلة جدًا، فأي مجموعة من أفضل أصدقاء سيملكون "كيمياء" أفضل من شخصٍ دخيل، فتضاعفت محاولاتي لأثبت لهم أني أملك شيئًا أضيفه لهذه المجموعة القديمة ليرضوا بإضافةٍ جديدة. |
بعد هذه الأفكار التي طاردتني ليلًا وفي أثناء وبين المحاضرات دار بيني وبين أكثرهم تقبلًا للحديث هذا الحوار الذي حاولت جهيدًا أن يبدو حوارًا طبيعيًا وليس هاجسًا طاردني طوال الفصل الأول. |
- العيال كانوا دايمًا كذا؟ |
"كذا كيف؟" |
- يعني هذي شخصياتهم من يوم تعرفهم؟ |
"من متى تحسبني أعرفهم؟" |
- ما أدري، خمس سنوات؟ |
-يضحك- |
"تعرفنا على بعض في نفس اليوم اللي تعرفت فيه علينا" |
... |
يعني كل هذه المشاعر بلا أساس؟ لم يكن أيهم صديق طفولة للآخر؟ بل هل شعر أي أحد غيري بانعدام التواصل الغريب الذي كنت أشعر به؟ |
في ذلك اليوم عرفت أن الموضوع أعمق من ملئ فراغ، عرفت أن مطاردتي للقضاء على وحدتي بإرضاء كل العابرين جعلتني أنسى معنى رضى نفسي عني! |
لم تكن الحياة وردية بعد هذا الاكتشاف فتلك السنة كانت من أصعب السنين التي مرت علي، فالمستيقظ من حلمٍ جميل لا يفرح بالواقع القاسي، بل يئن لما فاته وإن كان مجرد سراب سرمدي وثمن الاستيقاظ يبهظ ويبهظ كلما استغرقت في حلمك أكثر. |
لكن الآن وبعد أن صحوت لا يمكن أن أغض الطرف، خصوصًا وقد عرفت أن الحلم ليس بذلك الجمال حتى، فقد كنت أؤجل ما كنت متأكد من حدوثه. |
خاتمة قصيرة جدًا: |
ما زلت أسبح أحيانًا وأغرق وحيدًا أحيانًا، إلا أني أدرك بعد سنينٍ من التجربة أن الوحدة خيرٌ من رفقةٍ مزيفة لا تعرف فيها معنى إرضاء نفسك أو ما هي هويتك لهثًا عن صديقٍ لا يعرف أن كل هذه العاصفة التي تحدث داخلك هي سبب تخبطك أمامه، فلا يراك إلا شخصًا أقل من صديق وفي أفضل الحالات أكثر من غريب، وهذه رفقةٌ لا تؤنس ولا تغني من وحدة. |
تحدّث معي، عن النشرة أو عنك، هُنا: |
التعليقات