الموتة الصغرى

بواسطة محمد الأحمدي #العدد 5 عرض في المتصفح

في غرفة انسل ضوءها كله إلى ثقبٍ أسود إلا نور مصباحٍ ذهبيٍ مقفر فوق طاولةٍ بنية ذابت حوافها في الظلمة غار رأس امرأة في صدرها، منكبة تلتهم كتابًا ما (صفحاته بيضاء وتخطه خطوطٌ سوداء بلا أي حرف مكتوبٌ عليها، هل تكتبه؟) واضعةً أقدامها فوق دعّامات الطاولة ونصفها العلوي مائلٌ إلى الكتاب كبرجٍ شاهق على وشك الانهيار. تمتمت المرأة كما يتمتم أصم حينما يقرأ، أو كمن أراد قراءة كتاب امتصه إلى عالمه. وحينها، سمعت صوتًا.

صوتٌ يشبه صوتها. صوتٌ هو صوتها.

في قوته بدى مكتومًا كضربة عصًا لسجادة، آتٍ من مجرةٍ أخرى ومن خلف أذنيها في الوقت ذاته. لم يكن نداءً ولا صراخًا، بل حديثٌ ما تعطيه أذنيك حين تكون نصف نائم، يكاد يكون هلوساتٌ وتمتماتٌ سحرية، ولكنه أخفت وأبعد، وقد يكون همسًا، ولكنه أقرب وأعلى. صرخت:

"من هناك؟"

وكأنه يشغل حيزًا من الفراغ، غرق صوتها في مكانٍ سحيق. أنزلت رأسها، عاد الصوت.

أقفلت الكتاب وأطرقت، لم يعد الصوت. وضعت راحة يديها على الطاولة ووقفت بهوان، ارتعشت يديها، والطاولة، وسقط المصباح دون كسر، فسقط على رأسه وأنطلق نوره مقلوبًا لينير نصف وجهها. وقفت أخيرًا رغم كل محاولاتها للجلوس.

الصمت محسوس، حي، وكأنك حبيس غرفة زجاجية بلا فتحة هواءٍ واحدة أو تختبئ في خزانة ضيقة من قاتلٍ في نفس الغرفة. حتى وقع أقدامها العاريتين على السجّاد أحدث خشخشة خفيفة، بدى الصمت فضائيًا.

أمسكت بقبضة الباب وأدارتها ببطء من يريد التسلل ليفاجئ العدو، عصا الباب رغبتها مطلقًا أنينًا محذرًا تضاعف وقعه بفضل الصمت الفضائي، فتحته مرةً واحدة، وقبل أن تخرج، لمحت في زاوية عينيها ظلًا منكبًا على كتابها. انكبابًا مختلفًا، غاضبًا، كمجرمٍ يقرأ قائمة اتهام، أو محامٍ اكتشف أن مهمة دفاعه عن هذا المجرم أصبحت معقدة. أدارت وجهها ببطءٍ شديد لتتأكد من التقاطة نظرها (راجيةً أن تكذّب عينها).

لفت رأسها، ورفع الظل رأسه، طلّت امرأة تُشبهها جدًا؛ الوجه الدائري مكتنز الوجنات، الشعر الأسود الحريري الطويل، الأنف الحاد، العينين الغائرتين وحتى الأكياس تحتهما، هل كانت تنظر لنفسها؟

قبل أن تستوعب المرأة القارئة/الكاتبة، بل عند وصولها لذاك المكان الحالم التجريدي بين الاستيعاب والجهل، ذاب الجلد في وجه الظل وسقط كاشفًا عن صبغةٍ حمراء ملطخة من اللحم والدم. وقبل أن تجفل عن المنظر، خرجت صرخةٌ لا آدمية من الظل، صرخةٌ رجت الغرفة فضائية الصمت، كانت الصرخة تشبه صرير حوتٍ وحيد، رغم أن اللحم لم ينتأ منه فم، أو حتى شق. سقوط الجلد أحرق الكتاب والطاولة واخترقهما وأذاب في الأرض حفرةً سوداء تحترق.

تعرفت المرأة إلى صاحبة الوجه الذائب؛ كانت أمها.

سقطت في حضنها وأجهشت باكية بينما طبطب الظل على ظهرها وهو يقطّع الورق.

                                                           (2)

"أتعرف ما مشكلة الأحلام؟"

كان هذا أول ما سمعه الفتى بعد أن شهد في حلمه ما حدث للمرأة، أستيقظ الآن (أو هكذا ظن) وتنفّس (أو حاول عبثًا أن يلتقط أنفاسًا أبت الدخول لرئتيه). استسلم ورفع رأسه ليرى مصدر الصوت ذا الصدى. الوجه كالأحجية، كلما نظر إليه من جهةٍ تشكّل وتغير، فرك عينيه وعقّد حاجبيه، والنتيجة ذاتها، الصوت بألف وجه. أكمل الشكل الغرائبي حديثه.

"الحلم كالقصة، دائمًا ما يوقعنا الكاتب أو توقعنا عقولنا في منتصفه"

نظر في الظلمة حوله، بدا المكان كالفضاء أو العالم المختبئ خلف أهدابنا، بدا كل شيءٍ موجود ويغرق في الوقت ذاته، لا وجود لأي عالم حوله، ومع هذا ساد شعورٌ داخله بأن هذا الفناء حدث في اللحظة التي نظر فيها فقط. غمغم.

"من أنت؟"

شعر بكلماته تعجز عن التوجه لمصدر الصوت مهما حاول، وكأن كلماته ابن يهاب أباه، تلتف حوله، تحلق فوقه، تصمت عنه، لكن لا تواجهه نهائيًا.

"ماذا تريد؟"

لم يكن الفتى من سأل، بل الصوت صاحب الألف وجه، وجد الفتى نفسه مدركًا لمعنى السؤال وكأنه عاش كل هذا من قبل.

"أريد المستقبل"

غمغم، اهتزت الطاولة، شعر بالظلمة تتوسع لتلتهم أطراف الطاولة الآن. غرق في خجلٍ رهيب، كطفلٍ عارٍ في حضرة أحدٍ غير أمه، فهذه المحادثة رحلة صعد على متنها من قبل.

"الجميع يريد المستقبل، لكن ما هي مشكلتك؟"

مرةً أخرى، عرف بالضبط ما يجب عليه قوله وكأنه يعيش ذكرى.

"لا أريد أن أضحي بالماضي"

ارتجت الطاولة وكادت تسقط، ساد صمتٌ غير مريح. عرف الفتى بالضبط ما يريد أن يخبره الصوت، سالت دمعةٌ يتيمة من عينه اليمنى.

"ما تريدني أن أفعله مستحيل!"

"إذن، أغمض عينيك، من لا تعلمه الدروس سيجعل ماضيه حاضره"

صرخ، وصرخ، وصرخ، فهو يعرف ما يعنيه الطلب المهدد هذا، الفتى على وشك الدخول إلى حلمٍ آخر.                                                                   

                                                               (3)

                                                      فوق الكرة الأرضية

على السرير الأبيض استلقى بسلامٍ وطمأنينة وبلا عقل (ربما غياب الأخير سبب حضور البقية). استلقى بلا حركة كميتٍ لم يعرف قبل نومه أن الموت خرج ليحصّل روحه اليوم. وبينما غاص في عالمٍ من أحلامٍ داخل كوابيس كشبكة عنكبوت من جهنم، جلست عائلته حوله، لا أحد يعرف ماذا حصل له.

الجفون منتفخة، القلوب منفطرة، الأجساد واهنة، الأنوف حمراء، والآذان كذلك. أسوأ من المصائب، هي المصائب الغامضة. لم يصمد أحد، حتى الأب. كابر (أو تصبّر، ما الفرق؟) أول الأمر ولم يذرف دمعة أو ينسى قلبه نبضة ولا رئته شهقة، سرعان ما تلاشى صبره لمنظر فتاه في التاسعة عشر، كقطعة من الخشب الجيد، يتمدد بشكلٍ مستقيم، يديه تحيط بجسده كقوسين لجملة توضيحية، مغمض العينين، ميتًا ينتظر إعلان موته. لم يعرف أنواع العوالم التي سقط فيها ابنه، وكان هذا أفضل لجميع الأطراف. تعالى نشيج الأم، ولحقت بها صدور اخوته، من أعدوه أبًا وأمًا لا يعرفون إلى أين انزلق عقله. ثار الأب الذي ما أنفك يذكر زوجته عن مسؤوليتها كأم تجاه هؤلاء الأطفال، حالت دموعه بينه وبين إطالة عتبه، اختنق بالملامة. عصف خارج الغرفة البيضاء ليقابل الطبيب، الذي كان حائرًا مثلما كانوا.

"يا دكتور!"

صرخ الأب صرخةً واحدة، لم يتبعها أي شيء. صرخة ثم إشارة بيديه للفتى الراقد في الغرفة خلفه، والمستيقظ داخل عقله، بدا الأب كطفلٍ حبسته الدموع، ينتظر أحدًا يشرح له شيئًا لا يفهمه إلا الكبار.

"ابنك حالته مستقرة لكن لا أعرف ماذا اخبرك؛ كل الإشارات تقول غيبوبة"

"لكنه لم يسقط، لم يصرخ، لم يمرض"

نظر لأبنه، وقد امتزجت ملامحه بخليطٍ من الأسى والغضب (من القدر؟ أم من أبنه؟ أم من الطبيب؟)

"لم يمت، هو فقط لم يستيقظ!"

ربت الطبيب كفت الأب مرتين ودعا له عدة دعواتٍ باردة ثم تركه في بحرٍ عميق من البراكين.

                                                                   (4)

بثوبٍ أسود وشماغ "دم الغزال" قاني الحمرة وبنظارةٍ شمسية هي قطعةٌ من السواد تغيّب كل ما ورائها، وقف فتىً بوجهٍ يتسلح في معارك الجمال بلحيةٍ على الموضة وأنف حاد دقيق وجسدٍ ممشوقٍ وقوامٍ طويل، مبتسمًا يمسّد شاربه الكثيف وينظر إلى الفتى بابتسامة شخصٍ كشف سرًا. تعلّك قليلًا وأنزل نظارته السوداء. بدل عينيه، رأى الفتى تجويفًا فارغًا، حفرةٌ مصمتة تمتد إلى روحه، سمع الفتى صوت زحفٍ وخشخشة وإذ بدودٍ لزج (كذلك الذي نراه فقط في أفلام الكرتون) يخرج من عينيه ثم يعود عن طريق أنفه الطويل، لم يتحدث، لم ينبس ببنت شفة، ومع هذا فهم الفتى بالضبط ما أراد قوله الرجل صاحب الأعين المجوفة، أراد تهديده، ودون أن يتحدث فهم ذلك التهديد. لم يكونا في أي مكان أو زمان، شعر بأنه محبوسٌ في صورة فوتوغرافية على جدار قصرٍ ما، تدور حوله الحياة وهو ثابتٌ يراقبهم ولا يراقبونه. ثم فجأة، خرج الرجل صاحب شماغ دم الغزال من الصورة وبقي الفتى معلقًا ينظر إليه، ومهما مشى الرجل، بقي الفتى خلفه بالضبط، يتبعه دونما إرادة، دونما فضول، ولكن أيضًا دونما إجبار.

طرَق الرجل صاحب شماغ دم الغزال الأبواب وفتحِت الأمهات، سأل عن الأبناء وحسب إجابة الأمهات تصرّف، من منهن تخبره بأن أبنها "أراد الهرب" و "فكّر بنفسه فقط" يسحبه إلى غرفةٍ صغيرة وينزل نظارتيه، ثم تسمع صراخًا يليه خروج الفتى بنظارتين تشبه نظارتي الرجل، كان الصراخ بعيدًا جدًا، وكأنك تسمعه في طبقةٍ أخرى من الحياة.

مشى الرجل عندما أنتهى من البيوت في طرقاتٍ تحترق من ضوء الشمس الساطع، وهمس باستمرار.

"الويل الويل الويل"

و

"من تظن نفسك؟ أنا من غسل مؤخرتك وعلّمك الحديث والمشي"

حتى وصل إلى خيمة في منتصف المدينة ثم جلس في حضن رجلٍ هو نسخةٌ منه، لكنه أكبر حجمًا. ذلك كان أباه، بثوبٍ أبيض وعمامةٍ بيضاء، وخنجرٍ في منتصف رأسه وقطع السواد ذاتها تغطي عينيه.

                                                                   (5)

"استيقظت مجددًا"

"كيف تستطيع فعل هذا؟"

"لم أفعل شيئًا، نحن فعلناه سويةً"

وقف ودفع الكرسي خلفه، ثم ركض، وركض، وركض، وركض. التفت خلفه بأنفاسٍ معدومة، همس له الصوت.

"أنت تنظر في الاتجاه الخاطئ"

التف ليجد الطاولة في مكانها والكرسي الذي أسقطه خلفه (ركض في مكانه؟) أخبره الصوت بخيبة أمل.

"هُناك طريقة واحدة للخروج، وأنت تدركها جيدًا"

فكّر وفكّر، لسببٍ ما كانت الأفكار هلامية، تتشكل أمامه وتصغر وتكبر كيفما شاءت.

"يجب أن نحرق الماضي لنتقدم"

في لحظة خاطفة قفز على الصوت، لكنه وجد نفسه في نفس مكانه بالضبط، لم يهلوس فهو شعر بجسده ينهض، ومن المستحيل أن الصوت توقّع هجومه فهو ذاته لم يتوقعه!

"أنت تعرف ما عليك أن تفعله حتى تخرج، وإلا سنعيد هذه الكرة لنهاية الزمان"

لمَع شيءٌ في عيني الفتى، فهو أدرك مصدر الصوت، كان عقله، والهرب بلا فائدة، وكل ما عليه فعله هو مواجهة نفسه وحرق الماضي.

أغمض عينيه لمرةٍ أخيرة، وابتسم.

                                                                   (6)

                                           على الكرة الأرضية، في الليلة السابقة.

الساعة 10:00 مساءً

استلقى لينام، ليلة صاخبة، كانت تلك الليلة التي فقد فيها عقله وعالمه، لم يتحدث بحرفٍ واحد. لكنه فكّر، وفكّر، وفكّر. بكل ما يريد أن يكونه، وما عليه أن يضحي به ليصل إلى ما يريده. أراد إرضاء الجميع. فكّر بالجميع. يريد أن يكون كاتبًا خالدًا ولا يهتم بالمال، ولكنه يريد أن يُرضي حبيبته ويتزوجها، أراد الانتقال إلى مدينةٍ أخرى، ولكنه يريد أن يكون بجانب أباه في حالة احتياجه، أراد أن يفكّر بنفسه، ولكن اخوته متعلقين به وكأنه ولِدهم (ذلك التعلق المحجوز للأمهات، حجزه أخوته له). أراد أن يكون ثوريًا، ومعلمًا، وطيبًا، وقاسيًا (ان استلزِمت القسوة)، أراد أن يكون كل شيء دون أن يضحي بأي شيء.

الساعة 2:00 صباحًا

ما زال مستلقيًا، الأرق أفضل أصدقائه لكن أربع ساعات من السمر معه تجربةٌ لم يعتقد أنه سيخوضها يومًا. نبض رأسه بمعالم الصداع، فاستلقى جهة الألم في رأسه عل ذلك ينفع. مرةً يختار جانب إخوته، والحبيبة، والطيبة، والأب، ومرةً يختار جانب نفسه، والفن، والقسوة، والانتقال. ومرةً يختار مزيجًا من هنا وهناك، تمتم لنفسه ضاحكًا تلك الضحكة الحائرة التي تسبق البكاء "خياراتٌ كثيرة!"

الساعة 4:00 صباحًا

بعينين مفتوحتين على مصراعيهما استلقى على ظهره يحدّق في السقف، فيتخيله سماءً بعيدة في بلادٍ بعيدةٍ تمنى أن يكون جزءً منها دون كل هذه العلاقات والخيارات التي تثقله. ثم حدّق في الباب متمنيًا أن يكون معبرًا لعالمٍ سحري لا يطلب منه الاختيار، أو يجعل خياراته أسهل بكثير مما هي الآن. ذابت كل أفكاره الآن وامتزجت خياراته ليصبح لا يفكر فيها إلا بأكثر الطرق بدائية وأولية، فأصبح يتمتم "هُناك هذا الجانب" ويرد على نفسه "ولكن هُنا هذا الجانب!" دون أن يذكر الجوانب، أو يدركها، أصبح كآلة داخل عقدةٍ برمجية لا تنتهي، أو عقلٌ أصيبت أفكاره بسرطان الوسواس القهري. أراد البكاء، ولكنه حبس دموعه في آخر لحظة. غلطةٌ كبيرة.

الساعة 5:15 صباحًا

لكل عقلٍ طاقته، الفتى لم يعد على الأرض.

مشاركة
- مُحمد ينشر:

- مُحمد ينشر:

نشرة بريدية يشاركك فيها محمد كل يوم إثنين ما كتب بكّل حواسه وجوارحه، وكل بين فتر وفترة ما تعلّم في الكتابة.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من - مُحمد ينشر: