مندوب الشحن يعرف موقعك :)

                                                            "يا حبيبي

                                                            الله يعينك"

آخر رسالتين من أمه ردًا على تصويره للأواني التي عليه غسلها، أطفأ محمد هاتفه واشتعلت مخيلته. منذ انتقاله لمدينة أخرى وأمه تخاف عليه من كل شيء (ليس من الأواني، ولكن أشياء لا تقل وداعةً). في أيام طفولته لم تسمح له المبيت عند أحد، أو البقاء حتى الفجر، أو السهر مع بقية الأطفال إن لم تكن هي في نفس البيت، واليوم وقد انتقل لمدينة أخرى بسبب الوظيفة أصبح يرى الحاجز الذي يردع انهيارها يتشقق ويتشقق حتى يخر مهزومًا ويترك سيول انفجاراتها تغرقه كل نهاية نهاية أسبوع. لمساء السبت من كل أسبوع نفس الطعم الطفولي المليء بالتعلق والحنية الذي يليق بفتىً في التاسعة لا موظفًا اشتد عوده.

                                                             "ستتعود"

طمأنوه رفقاء سكنه. كانوا في شهرهم السابع في "الغربة" عندما أخبروه أن التعود سنة الحياة، وهو الآن في شهره التاسع، وما زالت الأم ترفض ترك كيس مائها يُفقأ ليخرج جنينها (الذي أصبح رجلًا) من رحم الخوف. أما هو فقد دار الموضوع في عقله من زاويةٍ مختلفة.

لماذا لا تحمل لي نفس المشاعر عندما أكون معها في المنزل؟

فكّر بينه وبين نفسه، اقتنع منذ فترةٍ طويلة أن هذه تصرفات شخصٍ يتوق لسيطرةٍ فقدها. حدّث نفسه وهو ينظر إلى ما وراء مطبخ (الخدمة) الصغير المتصل بصالة شقة العزّاب الصغيرة.

كل أسبوع، رسائل اشتياق وملاحظات صوتية حزينة.

كل نهاية أسبوع، مجادلات وأعصابًا مشدودة تكاد تتقطع.                                                                                                                         (2)

منذ قدومه لمدينة جدة ليباشر عمله وهو يسرف بالتفكير. اكتشف فجأة أن فكرة (يومك لك بالكامل) ليست بذاك الإغراء إن لم تكن مستعدًا لتحمل مسؤليتها. أعتاد على الأسئلة الدرامية نحو "كيف أتعامل مع الوحدة؟" و"هل سأتقبل فكرة الموت؟" منذ السابعة عشر، أول لحظات تزعزع إيمانه. لم يعد إيمانه متزعزعًا كما كان، إلا أن ذلك لم يطفئ جمرة مخاوف ما بعد هذه الحياة. لكن عندما تكون وحدك، بلا اتصالٍ من أم تخبرك أن تأخذهم إلى نزهةٍ ما، وبلا أبٍ يطرق على النتوءات اللينة اللزجة تحت جمجمتك بطرقه للباب بعنف، بلا كل تلك المقاطعات التي تجعلك تفرغ غضب جهلك بدهاليز الحياة المظلمة على طلب شراء لبن زبادي من الدكان أو رحلةٍ للمجمع التجاري لاحتساء كأس قهوة مبالغ في سعره. تكتشف أن البقاء وحدك، ككل الأشياء في الحياة له ثمن. لاحظ -أخيرًا- المجلى نصف ممتلئ بالماء، والحنفية بنفس العنفوان تصب كشاحنة دفاعٍ مدني، والصحون طافية والملاعق غارقة في بحرٍ من بقايا الفطور والغداء والقهوة المصفّاة.

ماذا لو رأى أبي هذا التبذير بالماء؟

كلغمٍ جيد، في مكانٍ استراتيجي، تفجّرت أعصابه فجأة.

الرجال في الثالثة والعشرين لا يفكرون بما يظنه آبائهم!

صرَخها على نفسه. هو يعلم أن تفكيره بأبوه في هذه اللحظة مربوط -بطريقةٍ فرويدية- بعدم تجاوزه ذاك الخوف الذي طارده منذ الصغر. دايناميكية الخوف والحب بين أبٍ وأبنه تتحول لحنقٍ مكبوت عندما يكبر الإبن دون أن تتغير شخصيات الطرفين. والنتيجة هي أن علاقتهم هي من تغيرت، فطيلة التسعة أشهر وروابط علاقته بأبيه تحتضر، ببطء غير ملاحظ إلا من كاتبٍ درامي يلاحظ كل التفاصيل الصغيرة. ومن حسن الحظ، محمد كاتب.

هل سأسعد إن قدّمت على الوظيفة التي يريدها؟

تفجّر مرةً أخرى، كلغمٍ صديق للبيئة يُعاد تدويره عندما فكّر بالوظيفة المريحة (مدخل بيانات) التي وفرّها أبوه عن طريق أحد أصدقاءه في (مستشفى حكومي)، وكما أخبر أمه يومًا وعرقٍ أخضر ينبض من جبهته.

                                                    "مسجون في سجن"

ومع هذا، ورغم معرفته لما يريد. في أكثر اللحظات يأسًا وضياعًا -وكان يملك كل الوقت ليضيع- تفكّر بمثل هذه الخيارات، خصوصًا حين تتمنطق هذه الخيارات برضى أبٍ وأم، خصوصًا عندما يكون الإبن الأكبر، والعائلة تعوّل عليه -بشكلٍ صامت- أن ينتشلها من غياهب المكان الغريب الذي تعيش فيه، فوق الفقر وتحت الراحة، يأكلون كل يوم لكن ديونهم تزيد. وبّخ نفسه، دون أن ينطق بحرف، على ترددٍ لم يقله بصوتٍ هادر، أو حتى يهمسه، ولكنه كان يعرف أنه موجود.

أنا كاتب، أعمل ككاتب تقني، وفي ساعات فراغي أألف الروايات والقصص القصيرة، قد أكون معدمًا بعد خمس سنوات، قد أصبح متغيرًا يزيد معادلة الديون ديونًا، ولكن اليوم أنا كاتب، وهذا يكفيني.

أمطر ماء الحنفية على قدميه بعد أن أمتلأ المجلى حتى فاهه وغرقت الصحون، أدار المقبض المعدني الصدئ وتمتم والمياه تقطّر على أصابع قدمه.

                                                      "لتحترق الأواني"

                                                                (3)

                                        "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"

                                                            "سلام"

لم تكد الكلمات تخرج من شفتيه.

                                               "محمد.. آه.. محمد خالد؟"

                                                               "نعم"

                                             "معك عبد الله مندوب أرامكس"

عبد الله مندوب شركة الشحن لأن كل ما يملكه هو شهادة ثانوية ورخصة قيادة وسيارة كورولا 2007 بيضاء بصدامٍ أسود وإحدى المرايات الجانبية مُعلقة بلاصقٍ أزرق هو كل ما يحول بينها وبين انفصالها عن جسد المركبة. عصَف اليوم خارج المنزل قبل دوامه بنصف ساعة. لم يعد يطيق الجلوس في المنزل؛ فماذا يفعل الأب في بيتٍ لا يجد أهله ما يؤكل؟

                                                   "أنا عند الموقع يا أبني"

                                                            "طيّب يا أبي"

جعّد عبد الله أرنبة أنفه وحاجبيه تاركًا جبهته بلا خط دفاع، لتحتلها ثلاث خطوطٍ غاضبة غاصبة. لم يلتقط السخرية الودودة في نبرة محمد، أقفل الهاتف وأراد رميه، اليوم ليس اليوم الذي يريد فيه توصيل شحنات لمثل هذا الفتى المتذاكي.

                                                                   (4)

وضع يدًا فوق الأخرى وجعل كرشه المنتفخ نقطة ارتكازهما، أزعجته فكرة انتفاخ معدته، كيف يكون متينًا رغم نومه جائعًا في أغلب الليالي؟ كيف ينتفخ كرشه رغم أنهم عائلة فقيرة منذ أن فتَح عينه للمرة الأولى بين يدي جدته التي ولّدت أمه؟ هل يستطيع السرقة من كرشه ليأكل؟

همهم بهلوسة وهو يفكّر بعائلته كأرضٍ قاحلة تشققت قشرتها تنظر للسماء راجيةً وباكية، كان هو السماء، ولم يقدر إلا أن ينظر بأسى للأرض وبكرهٍ لنفسه، فلم يكن يملك سحابةً يغدق بما فيها عليهم.

سيارته مركونة أمام بيت الفتى المتذاكي -على الأقل حسب خرائط جوجل- ونوافذ السيارة العجوز مفتوحة، من حسن حظه أن الشمس لم تكن غاضبة اليوم. جلس يحارب دموعه، حالت أمه أصبحت أسوأ الآن، غسيل الكلى شيء والحالة التي وصلت لها شيءٌ آخر. عندما يثور جسدها -بسبب ارتفاع نسبة الفسفور حسب ما قاله الطبيب- تبدأ بالحك، والصراخ، والبكاء، والضرب (ضرب جسدها وجسد من حولها). لا يعرف الكثير من الناس إحساس أن يتلوى شخصٌ أمامك، يطلب من الله مرة ومنك مرة، يطلب من الله حياةً بلا مرض، ثم يسأم الدعاء وينظر إليك ليطلب منك أن تنهي حياته الآن. فكّر بأبيه الذي تركه مع امرأة مقهورة مليئة بالأمراض الجسدية والنفسية. وأسوأ جزء له، هو أنه لم يعرف إن كان يريد أن يعود أباه من الموت أو لا.

إن لم يقدم شخصٌ لك العون في 80 سنة، ما فائدة إعطائه الدهر كله؟

لم يفهم سر غضب أبوه عليه، كانت لعنه وشتائمه وسخطه بمثابة أحجية، لم يعرف سببها ولن يعرف الآن بعد وفاته.

في قائمة الهموم لمطعم عبد الله، الوجبة الرئيسية هي ابنه الكبير أحمد، الابن العاق، الكاتب الأديب الذي قرر الانتقال للرياض لأنها "مليئة بالفرص الأدبية" تاركًا عبد الله وأهله في وحلٍ من الجوع والفقر، ينامون متعرقين صيفًا، منتفضين شتاءً. وداخل عبد الله، ما آلمه أكثر من كل هذا أن أبنه لم يكن في مستقبلٍ آمن حتى فالكتابة وظيفة الفقراء، برأيه.

عندما حاول أحمد أن يحول القليل من المال لمساعدة أباه "أبوي، هذي من أرباح ورشة الكتابة" أخبره، أعادها عبد الله بتفلاتٍ تساوي عدد المئات، ثلاث مئات، ثلاث تفلات. كان نسخة من أبيه، يتصرف بغموض شديد فهو لم يعرف لماذا رفض المال، كل ما عرفه هو أنه شعر بالاحراج وأن شرخًا شق قلبه.

                                                                   (5)

نزل محمد ليأخذ شحنته، غارقًا في حفرة "حبسة الكاتب". مر بفترة ركود لم يعرف سببها، أخبرته حبيبته بأنها حالة طبيعية، فالمزيج المريع من الانتقال ومناوشاته التي لا تنتهي مع أهله والمرحلة الجديدة في حياته ستوأد أي فكرة قبل تكونها، وأنه يجب أن يتعقل ولا يتوقع من نفسه الخوارقية وأن وأن. أخبرها بأنه يكره نفسه. ما لم يفهمه أنه إنسان، وما لم تفهمه أنه لا يرى أي امتداد لذاته خارج الكتابة، ولا سانتي واحد يمتد بعد النقطة في آخر قصصه.

في انتظاره رنّ هاتف عبد الله، كانت زوجته وكان غاضبًا، فقد أخبرها ألا تتصل عليه، ثم تحول كل غضبه لذعر، فهي لم تتصل عليه يومًا من قبل.

مصيبةُ على وشك الحدوث.

عندما اتصلت للمرة الثانية بعد أن تجاهلها في الأولى قرر أن كل سوءٍ قد يحصل سيحصل في الثواني القليلة القادمة. رفع السماعة، ولم يجانب الصواب. بعد دقيقتين من المكالمة فكّر الإثنين (محمد وعبد الله) بنفس الفكرة، بغضبٍ متفاوت يميل بقوةٍ إلى جهة مندوب الشحن.

كالعادة، متأخر.

لم يتأخر أيهما، فالموقع الذي أرسله العميل ووصل له المندوب، موقعٌ خاطئ.

                                                               (6)

أغلقت زوجته بعد أن أمطرت عليه وابلًا من الحاجيات بنبرة مرعبة، نبرة شخص يقرأ تقرير وفيات في دولةٍ بعيدة، أو يزف خبر هزيمة الإنسان ضد الشيطان، أو شخصًا يودع نفسه مستسلمًا للأبد بعد محاولاتٍ عديدة ليتحسن.

أخبرته بكل ما ينقص البيت ثم أغلقت الهاتف دون انتظار رد، لم تخبره بالطلبات ليلبيها، فهي تعرف أن الراتب ما زال يبعد عشرين يومًا. عشرين يوم، الرقم المزعج الذي بين الراتبين، لا تملك كفايةً من الراتب السابق (فأسبوعٌ قد مضى!) ولا تستطيع تدبر أمرك حتى يأتي الراتب القادم. أخبرته بالطلبات باعتبارها الأسباب التي.. لم يجرؤ على تكملة الجملة.

ألقت علي قائمة الطلبات التي تعرف أني لا أستطيع شرائها لتطلعني على سبب طلبها للطـ...

مجددًا، لم يجرؤ على تكملة الفكرة. التكملة هي الطلاق. ليس دان تورنس ولا يملك بريقًا، لكنه شخصٌ مفرط التفكير ويعرف زوجته، وأفكاره تقول له الآن أن زواجه أنتهى. رن الهاتف.

                                    "وينك؟! وما سبب انشغال هاتفك؟!"

                                            "أنا عند الموقع، أينك أنت؟!"

                                           "وأنا فوق سطح القمر يعني؟!"

                                      "أحفظ لسانك يا فتى أنا بعمر أبوك!"

بعد عدة رشقات رصاصٍ متبادلة من أفواههم اكتشفا أن الموقع خاطئ. أعاد محمد إرسال الموقع وتوجه عبد الله إليه بدمٍ يغلي. لم يصدق المعمعة التي وجد نفسه داخلها، ولم يستطع أن يفكّر إلا بأبنه أحمد، لعنه ولعن والديه -الذي هو أحدهما- ولعن الساعة التي لم يصفعه فيها ويخبره أن يبقى ليساعده في إطعام كل تلك الأفواه الجائعة في المنزل، أن يستحلب السحب برفقته ولتحترق أحلام كتابته في جهنم. كما فعل أباه عندما أتت لعبد الله فرصة الالتحاق بـ (سابك) وأتصل عليه ليرغمه على العودة إلى المنزل ليعتني بأخوانه. يفكّر الآن.

أبوي ميت، وأنا فقير بسبب اختياره. أي حياة هذي؟

ذكره محمد بأبنه أحمد، رغم أن لا شبه بينهما إلا عنفوان الشباب وذلك الصوت الذي يسمع من أسفله بكل تحدٍ "أنا ما زلت أملك الحياة أمامي أيها العجوز" وأن كلاهما يكتب (ولكنه لم يعرف ذلك) لعنهما سويةً مرةً أخرى وتوجه وعجوزه المهترئة إلى الموقع.

                                                               (7)

أوقف عجلات المركبة عند أقدام محمد، رغب من قلب قلبه أن يدوس البنزين عوضًا عن المكابح، ليلقن الفتى الوقح درسًا لن ينساه. عوضًا عن ذلك، داس مكابحه وشنق العصا السوداء لتتوقف عجوزه بالكامل. نزل عبد الله راغبًا أن يضع قدمه على وجه محمد بدلًا من سطح الأرض، لكنه يعرف أن أصغر شكوى من أي عميل تعني فصله، ويومٌ بلا عمل يعني أن مخاوف الطلاق ستصبح حقيقة، والأبناء سيصبحون أيتام فـ "سارة" لن تتركهم مع أباهم، كيف إن كان بلا عمل؟

حينما لم يستطع أن يدوس وجهه قرر أن يسلّح نبرة صوته المتذمرة بسلوكه العدائي.

                                                "الموقع اللي أرسلته خاطئ"

لكن الفتى الذي ما زال يفكّر بمناوشات أمه وأبيه أقسَم ألا يرد الكرم إلا بكرم.

                                         "والرقم المشغول؟ أكان خطأ أيضًا؟"

يا ملعون يا أبن...

إن أمعن النظر، سيرى ابتسامة مختبئة خلف شفتي محمد المزموتين إلى الخلف، يعرف أنه انتصر على العجوز الوقح. عوضًا عن الرد وضع عبد الله قوته في الضغط على زر فتح الشنطة الذي كان نصف معطل. دس رأسه كنعامةٍ في أهداب الكورولا العجوز المليئة بالطلبات، كما فعل عندما أخبره أباه أن يعود ليرعى أخوته. امتدت لحظات البحث لدقيقتين، ثم أربع، ثم خمس دقائق.

رغم أن الفتى لم يتكلم، شعر عبد الله بأعين محمد تحرقان قفاه، وزنٌ ثقيل يُحشر رأسه داخل الطرود. بحث عن أي شيءٍ يحمل حرف الميم، أو أسم محمد، أو لقبه، بلا فائدة. اختفى الطرد كليًا، وزوج الأعين خلفه كان يهزأ، يضحك، يتراقص، يفرح بخيبته، يتجاوز فرحة ضياع الطرد ليفرح بحالة عبد الله وأسرته، يقترب زوج الأعين ويتنفس على رقبته، يخبره بأن ولده أحمد كان معه الحق في تركه. غرَق بعاره وخزيه أكثر كلما "تكّ" العقرب الطويل في ساعة يده.

                                                     "تحتاج مساعدة؟"

لم يعلم محمد سبب التأخير هذا، ولم يفكر بحالة عبد الله ولا بأبنه (الذي لا يعرفه!) بل أراد أخذ طرده ليصعد ويحارب ورقته البيضاء ويتمخض عن قصة، وإن كانت فأرًا. ألتف عبد الله إلى الفتى والشرار يتطاير من عينيه.

من تظن نفسك يا ورع؟!

لم يرى عبد الله عميلًا ينتظر طرده، رأى ابنه أحمد، بشعرٍ ناعمٍ طويل وعينين ناعستين مليئتين بالأحكام، تلك العينين التي تحدّق به عند كل مرآة وتخبره.

أنت. أضعت. حياتك. وأنا. لست. بنفس. جُبنِك.

                                            "لا تستطيع المساعدة حتى إن أردت"

                               "كلها صناديق، وشنطةٌ صغيرة، بالطبع أستطيع المساعدة"

أقترب واضعًا سبابته على بعد سانتي مترات قليلة من أنف العميل، لو قرر محمد أن يشكو، سيودع عبد الله عمله وأبنائه. لكن حتى أبنائك ليسوا مهمين حينما لا ترى إلا الأحمر.

                "كلكم تعتقدون أنكم تستطيعون المساعدة، كلكم عيال كلب أنت وسارة وأحمـ..."

لم يكن ما أسكته هو أنه أخبر عميلًا لم يراه من قبل أنه لم يساعده طيلة حياته مثلما لم تساعده زوجته وابنه البكر، فالمنطق لم يخمد نار الغضب منذ خلقهما الله. لكن عندما نطق اسم ابنه، تذكّر الصندوق المحشور في الخلف الذي كُتِب عليه "أحمد" عوضًا عن محمد، جمع واحد زائد واحد وعاد للشنطة، أخرج الشحنة التي كانت كتاب "طبيب النوم" مغلّف في الألوان الحمراء القبيحة وصفعها على يد محمد وذهب، لم يمسح الباركود ليسجّل الشحنة حتى.

                                                                   (8)

في المساء، انهمك محمد داخل غرفته، عندما يكتب يشكر الله أن عائلته ليست قريبة، فلو كتب للفجر لن يسمع طرقة بابٍ واحدة، لو مات على الورق لن يفرّق شملهما أحد حتى يصبحان كيانًا واحدًا. أنهمك فوق طاولته يكتب ويكتب ويمسح دمعة فرح؛ لم يكتب بهذه الطاقة من أشهر، مقابلته مع المندوب أشعلت إلهامًا غريبًا، لم يعرف لماذا، لكن تحديه للمندوب كان له نفس شعور تحديه لأبيه. كان كل ساعةٍ يمضيها لوحده يشعر بنفسه يذوب مع كتاباته، كقلمٍ وورقة.

أما في الجهة الأخرى من مدينة جدة أضحت هموم مندوب الشحن أكيدة، طلبت سارة زوجته الطلاق في تمام السابعة وفي تمام الثامنة دخلت بيت أهلها. بثلاثية "طالق" ودون ثلاث أسنان، كل طلقةٍ بسِن. فقدت أسنانها بسبب صفعةٍ ما زالت أثارها ورديةٌ على وجهها. جلس في غرفةٍ باردةٍ مظلمة، أذهله كيف أن صراخه، آهاته، ضحكاته وبكائه لم يُقابل بأي ردةٍ فعل، هذه أول مرة يجد نفسه في المنزل لوحده. شعر عبد الله وكأنه بالونة ممتلئة بالهراء والمصائب والحيرة.

يجب أن ألقن الفتى درسًا.

وحده في المنزل، بلا زوجة ولا أطفال (أخذتهم سارة، كما عرف أنها ستفعل). بلا أبٍ ولا أحمد أبنه البكر. بلا شحنةٌ في المركبة العجوز لستنتفد طاقته. وأمه نائمة بعد هيجانٍ عجيب ترك جسدها داميًا قد يكون سببه الفسفور المرتفع أو ررؤيتها لأبنها يصفع زوجته، مثلما صفعها أبوه يومًا. لم يرد تلقين الفتى درسًا حقًا، لكنه لم يجد أي حفرةً أخرى يفرغ فيها غضبه.

                                                                   (9)

خارج عمارة "العزّاب" قرفص عبد الله بقدر ما سمحت له ركبه العجوز، منتظرًا نزول الفتى بعد إقناعه لحارس العمارة أن يتصل عليه، مدعيًا أنه أباه وأنه يريد مفاجأته. حرص أن يذهب الحارس أولًا ثم يتصل على الفتى، ومقابل بعض النقد، لن يسأل أحد الكثير من الأسئلة. نزل محمد بقلبٍ يدق طبول الحرب، خوفًا وليس استعدادًا.

أبي؟

ماذا عساه يريد؟

اليوم إثنين، كنت عندهم السبت.

لم يكن سعيدًا بعودتي، ولا سعيدًا بذهابي، ولا سعيدًا بوظيفتي، ولن يكون سعيدًا إن خرجت منها.

ما عنده موقعي حتى، كيف عرف وين أعيش؟

قبل أن يحل الأحجية، وقبل أن يُغلق باب العمارة الذي فتحه بأصابعٍ مرتعشة انبثقت من الظلمة زوجٌ من الأيادي لتقبض على عنقه، شعر بالهواء يهرب من جسده، للحظةٍ عندما رفع عينيه رأى الأنف المعقوف، والشعر المنحسر في مقدمته، والوجنتين الممتلئتين، واللحية المحلوقة، رأى أباه يعصر روحه. بلا وعي أطبق محمد على يد العجوز ودفعه ببطءٍ إلى الخلف حتى ارتطم ظهر عبد الله في مرآة الكورولا التي انفصلت عن المركبة لتسقط على قدم راعيها، أبعد عبد الله نظره للحظة ليستوعب الخيانة ممن كان يجدر أن تكون في صفه (فكّر بأن هذه تبدو قصة حياته) وهذا كل ما احتاجه محمد. بمقدمة رأسه أندفع على شفتي العجوز فأطفئ المصباحين المعلقين في أعلى وجهه وذهب للنوم. أغمى عليه أمام سيارته وأستيقظ في سيارة الإسعاف، مكبلٌ بأصفادٍ إلى السرير. تسير خلف سيارة الإسعاف سيارة شرطة. وهو يتمتم.

                                                        "أحمد.. أحمد.."