قصة قصيرة يموت بطلها في النهاية

بواسطة محمد الأحمدي #العدد 3 عرض في المتصفح

"هل أنت مرتاح في الخلف؟"

حلّقت المركبة طائرة في جنح الليل وكأنها تهرب من الظلمة.

الساعة قبل أذان الفجر هي ساعةٌ يتيمة، ومُساء إليها في العادة؛ لا ترى فيها أحد فالجميع نائم، والمستيقظين منهم لن ترغب برؤيتهم.

"أعرف أن المكان ضيّق، ولكن لا تقلق، وجهتنا قريبة"

كالساعة، كان المكان منعزلًا؛ فالخط الرئيسي الخارج من المدينة ورغم سعة مساراته الخمسة لم تسلِّ وحدته أي مركبة غير السيارة التي تكاد تسابق سرعة الصوت.

"لا بأس، لا بأس، لا تقلق.. ستكون بخير أعدك، لا تقاوم فقط وسأنتهي في أقل من دقيقة"

رد صوت خلخلة من خلفه، لم يكن في السيارة غيره، ليس فوق الكراسي على أقل تقدير. أما شنطة المركبة، فكانت هي مصدر الصوت.

"ششششششششش، إن سمعتنا عمتك ستحدث مصائب"

أخرج عصًا تكاد تخترق سقف المركبة وأمالها ثم بدأ يوكز في الفراغ عبر فتحةٍ في المقاعد الخلفية. لم تُسكِت العصا الصوت بل استفزته فتحولت أصوات الخلخلة إلى ضرباتٍ متكررة وصيحاتٍ مكتومة.

داس على البنزين، السرعة الآن تجاوزت المئة وستين، وبحركةٍ سريعةٍ لا تخلو من عصبية قذف كأس قهوة تحطم جهة الخلخلة والضربات والصيحات. لوى عنقه للخلف وقال:

"أملك كؤوسًا أخرى"

ران السكون على المركبة، ورانت الظلمة في الطريق؛ في هذه الليلة كانت السماء بلا نجوم، وأختبئ القمر في استحياء خلف سحابةٍ سوداء وبدت السماء كمرآة تعيسة للأرض عند هرب ملامحها الساحرة عنها.

مرّوا بمبنىً مُشِّع بأنوارٍ برتقالية، كان أشبه بمدينة، يمتد لكيلو أو أكثر، وكله مُضاء. من النظرة الأولى قد تعتقد أنه سرق ضوء السماء.

"أنظر.. هذه المدينة الجامعية، كان من المفترض أن أذهب لها السنة القادمة، لكن كيف أفعل الآن؟ كيف أعيش الآن؟ أنا لن أعيش! أنا لست أعيش! كيف أعيش وهذه الذكرى حية؟ هذه الذكرى لا تفارقني!"

فجأةً توسّعت حدقتيه، وثُقِب أوزونه وهطلت مياهه مع ارتفاع حرارة جسده. أراد الادعاء بأنه لم يرتكب خطأً كالخطف تحت تهديد السلاح، لكن ماذا يعرف عن التمثيل فتى في السابعة عشر؟ ناهيك عن فتًى في السابعة عشرة يحمل رجلًا مكبلًا في مؤخرة سيارته.

رفع رجل الشرطة كفه فتوقف في التفتيش الذي لم يره في هذا المكان مسبقًا، وأنزل زجاج مركبته.

"مساء الخير"

"مساء النور"

"هل جربت الطائرة؟"

"ماذا؟"

"ما شاء الله طاير، كان طلعت طائرة بدل السيارة"

"آسف، أنا فقط متحمس لمقابلة أهلي، تعرف.. أنا موظف في مدينة أخرى"

"لا، ما أعرف. وهل عائلتك عندها أجنحة؟"

"آسف، ما سمعت؟"

"بلى، سمعت"

"أجنحة؟"

"نعم، عائلتك عندها أجنحة؟"

"لا!"

"إذن، لن يطيروا ولا داعي للاستعجال. قد بهدوء لا تذبح أحد"

"أبشر، طال عمرك"

أغلق النافذة وساوى دواسة البنزين بالأرض وهمس في المركبة الفارغة.

"أسجنّي، سأسرع مثل ما أريد"

التف للجسد المكبّل، أنزل الحاجز الذي رفعه في آخر لحظةٍ قبل التوقف في التفتيش وصرخ:

"وأفعل بك ما أريد!"

رفع نظره للمرآة، عيناه ناعستين، مليئتين بالدموع، لم يكن من النوع الباكي، ولن يبكي الآن، لكن عيناه كانتا دائمًا تغرق في دموعٍ لن تذرف. تقول أمه أن السبب هو أنه رهيف الإحساس وقلبه حنون وأنه لا يستطيع إيذاء ذبابة. حدّق في الفراغ لثواني، كمن يستعيد لحظات من الماضي ونخر نخرةً قبل أن يقول:

"ماذا؟ ألست مرتاحًا؟ أتسمعين؟ يقول أنه ليس مرتاحًا، كلام فاضي..."

بعد خمس دقائق من القيادة الصامتة وحينما لاح طيفٌ أرجواني يغازل السماء التي توردّت في خجل، انعطف يمينًا عن الطريق الرئيسي.

بعد عشر دقائق من آخر انعطاف دار نصف دورةٍ حول الطريق ليختبئ ومركبته وأسيره خلف جبل غطى كل ما خلفه. احتد تورد السماء وكأن الشمس بدأت تقنعها بما تريد.

توقف الشعر في يديه ودق قلبه بضرباتٍ أعنف من طبول معركة، وكأنه لم يسهر الشهر الماضي كاملًا يخطط لعمليته. أوقف المركبة في منتصف الساحة المفروشة بالحصى وخرج.

رأى الشمس صفراء، لم تكن كجُبن القمر لتختبئ خلف سحابةٍ ما. وأضحت السماء سماوية مشعة كيفما اتفق القرص المشع. لم يستطع إطالة النظر للمشهد على أية حال؛ فعينيه تكاد تصل لقاع بحر الدموع التي ما زالت لم تُذرَف.

وكأنه لم يتحمل شيئًا من الهواء المنعش، وكأنه ميت، تضره الحياة. هرَع لمؤخرة المركبة، وحينما بدَأت هيئة الرجل الذي يعرفه جيدًا تظهر أمامه ظهر معها لونٌ أحمر أطلق غضبًا ثوريًا في قلبه، لم يعرف مصدر الضوء الذي فتَر في اللحظة التي لكم فيها الرجل المُقيّد، سمع صوت عظمةٍ كُسِرت ولم يدري إن كانت يده أو فك زوج عمته.

"هذا لم يكن صعبًا جدًا.. صح؟ أرأيت؟ انتهينا، والآن اذهب وألعب مع بقية الأطفال يا بطل"

أنتزع اللاصق الذي أغلق فمه وصفعه بيده الأخرى.

"لماذا لم تجاوبني طيلة الطريق؟"

صرَخ الرجل المُقيّد:

"أرجوك، أنا آسف.. ما فعلته خاطئ..."

غرَق أسف الرجل بغرِق عقل الفتى في ماضيه ليرى ماذا فعل ليتأسف بدموعٍ منهمرة، ليرى فداحة الفعل الذي يجعلك تبكي متأسفًا حتى بعد أن يُكسَر فكك بلكمة. ورأى الفعل، لم تختبئ الذكرى بعيدًا عنه، فقد كان يعيش فعلة زوج عمته كل يوم. حتى اليوم.

"حان وقت التطهير"

تمتم لنفسه، اتسعت حدقتي الرجل المُقيّد، وصرخ وصرخ وصرخ وصرخ.. إلا أن المكان اُختِير بدقة، وصرخات الرجل ستُبدد وإن أُكِلت أمعائه حيًا.

أخرج الفتى علبة بها سائل التطهير، فض غطاه البلاستيكي بفمه وبدأ يسكبه على جسد الرجل بعشوائيةٍ وعنف وإهمال بينما أكمل الرجل كلمات الرجاء التي لم يميز أيها.. إلا جملةً واحدة:

"أرجوك.. أرجوك، لقد حدث ذلك منذ زمنٍ سحيق، لقد كُنت مريض، والله كنت مريض وأنت.. وأنت كنتَ فتًى جميـ..."

أخرج الولاعة، عينيه في عيني الرجل المُكبّل، أنزل إبهامه فخرجت النار من قمة الولاعة وكأن فكرةً خطرت لها توًا، ردد "حان وقت التطهير" بشيءٍ أشبه بالهذيان، ثم ترك الولاعة تسقط فوق جسد الرجل المكبل فاشتعلت المركبة وتعالَت الصرخات وعاد الفتى خطوتين إلى الخلف بانذهالٍ وآلية.

لأول مرةٍ في حياته التي لم تتجاوز السبعة عشر سنة، بكى الفتى وهو يراقب زوج عمته يحترق ويصرخ، تمتم "حان وقت نسيان الذكرى.. أنا متعب جدًا"

لم يخبره أحد بأن الدموع ساخنة لهذه الدرجة، احترقت الدموع على خديه. ولم يخبره أحد أن القلب قد تطهره دموع صادقة في ليلة حزينة، أو صباحًا بديعًا، لم يعرف أيًا من هذا، وفات وقت المعرفة الآن.

كانا نهرين دافئين صامتين، ثم شهقة واثنتين فنشيج فنحيبٍ أوقفه مذهولًا، لا يرى أمامه؛ فلم يكن يعرف أن البكاء أيضًا قد يكون مُطهرًا وشافيًا لهذه الدرجة، غابت عن وعيه الشمس، والصبح، والشرارة الطائشة وبقعة الزيت السوداء الكبيرة على ثوبه الأبيض، اشتعل الصبي.

في أقل من دقيقة سيتحول لهشيمٍ تذره الرياح، إلا أنه وقبل أن ينتهي آخر رمقٍ من حياته، وفي حركةٍ أخيرة مليئة بالصراخ، والعمى، والبكاء هجم على ما تبقى من الجثة أمامه وبدأ بركلها، وضربها، وعضها.

رغم أن النار كانت تأكل جسده أكلًا، إلا أنه وللمرة الأولى لم يفكر في تلك الحادثة، للمرة الأولى منذ أن كان في الثامنة؛ فكلاهما على وشك أن يصبحا رمادًا:

بلا ملامح.

بلا أرواح.

والأهم من ذلك كله:

بلا ذكريات.

مشاركة
- مُحمد ينشر:

- مُحمد ينشر:

نشرة بريدية يشاركك فيها محمد كل يوم إثنين ما كتب بكّل حواسه وجوارحه، وكل بين فتر وفترة ما تعلّم في الكتابة.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من - مُحمد ينشر: