وباء المبالغة

23 أغسطس 2025 بواسطة توّاق #العدد 12 عرض في المتصفح
بين صدق الشعور وخيانة التوصيف

يا سادة يا كرام… نحن في عصرٍ إذا سعل فيه أحدهم قالوا: "تنحنح الفكر في حنجرته!"، وإذا أعدّ محاضرةً عن فن النوم المبكر، قيل: قد وضع لبنات الإصلاح الأممي وبدأ بإصلاح الوسادة! وإذا عطس أحدهم في بثٍ مباشر، قالت الجماهير: "ما شاء الله! هذا زفير الإلهام!"، وثالثٌ كتب تغريدة عن الصدق، فقامت الدنيا ولم تقعد: "لا بد أن يُترجم كلامه لـ12 لغة ويُعلّق في صالات المطارات!" فثمّة طائفة لا ترضى بالبشر إلا أنبياء أو شياطين، وإن أعجبهم صاحبهم، نفخوا فيه حتى صار بين الناس "ملهم الجيل"، وإن خالفهم في جملةٍ أو مزاج، رموه في غياهب النسيان بوصفه "السطحي الساذج".

هذا الزمن استُبدلت فيه المقاييس بالعواطف، وغشي على بصائر القوم ببريق اللحظة، نشأ صنفٌ من الناس لا يُطربهم إلا المبالغة، ولا يشبعون إلا من تهويل القول وتضخيم الوصف، حتى غدت الكلمة عندهم سفينة ضخمة لماء ضحل، والحدث اليومي عندهم معراجًا للأمم، تراهم إذا عرضوا فكرةً جزئية، جعلوها كشفًا إلهيًّا، وإذا استحسنوا رأيًا آنيًّا، رفعوه إلى مقام الفتوحات، وإذا أحبّوا شخصًا، جعلوه مزيجًا من الزهد النبويّ والعبقرية المعاصرة، وهكذا تترادف الأوصاف وتتضخم، حتى لا يعود للتمييز موطئ قدم، وتختلط مراتب الأشياء، فيعمى الناس عن الحقائق، ويغرقون في زبد الوهْم، فنحن أمام وباء من المبالغة الفكرية، حيث كلّ موعظةٍ تُروى كأنها نزلت من سِجِلٍّ مسطور، وكلّ منشورٍ يُرفَع كما تُرفع رايات الفتح، وكلّ إنسانٍ مُلهم، وكلّ مشروعٍ تغييري، وكلّ صوتٍ فرديٍّ له صدى المجامع! ولقد أصبحنا في عصر "التضخيم الممنهج"، حيث تُعرض القضايا كما تُعرض البضائع في واجهات الأسواق: مزركشة، منتفخة، تلمع أكثر مما تضيء.

وهذه الطائفةٌ من الناس غلبت عليهم المبالغة حتى غدت سجيّة، يفرشون سجّاد التهويل في كل شيء، ويضربون على وتر العظمة، حتى إنّ السطر البسيط من الكلام لا يجوز عندهم إلا أن يكون متوشحاً بعبارات الجلال، محمولًا على أكتاف "الانبهار المُعلّب" كل فكرةٍ عندهم ملهمة، كل منشور "يخترق القلوب"، كل محاضرة "تُحدث زلزالًا في الوعي".

فمنهم من إذا رأى تغريدةً عن تنظيم الوقت، صاح قائلاً: "هذا الكلام سيُغيّر وجه الأمة!" وإذا سمع حديثًا عن فضل الوتر، قال: "هذا أعظم اكتشافٍ روحي بعد الهجرة النبوية!"  وإذا رأى مقطعًا مصورًا لطفلٍ يلعب، بكى وقال: "فيه تجلٍّ ربّاني ما رأيته في كتب التفسير "بل إنّ أحدهم وصف زميله في العمل بأنه "نُسخة مصغرة من الخليفة عمر بن الخطاب، مع لمحة إدارية من ستيف جوبز!" وإذا رأى شابًا مهذبًا، قال: "هو من سلالة النور، لا يُشبه أهل هذا الزمان!"

وفي مدارات البيان، حين تتخلّق العبارة من رحم الشعور، وتنبثق من دفائن النفس، تندفع الكلمات أحيانًا إلى شُرفة الغلوّ، متحرّرة من رُشد الميزان، مُحمّلة بأثقال المبالغة، لا طلبًا للزيف، بل اندفاعًا خلف وجدانٍ تهيّج، أو عاطفةٍ طغت على ملامح العقل، وهنا تتبدّى المبالغة، لا بوصفها خطأً لغويًا، بل كظاهرة لغوية ونفسية وفكرية، تستحق أن تُقرأ قراءةً فاحصةً، تلامس أصلها، وتُحدّد مجالها المشروع، ومضمارها المنبوذ.

توصيف المبالغة

وهنا بيانٌ مختصر من كلام العالم الشامي عبد الرحمن الميداني في التعريف بها عند أهل الفن قال" المبالغة لغةً هي الاجتهاد في الشيء إلى غايته، والبلوغ به إلى منتهى الممكن؛ وهي في أصلها ليست مذمومة، بل من طبيعة الفطرة الإنسانية حين تسعى للإيضاح، أو تشتد بها العاطفة. يُقال: "بالغ في الأمر" أي اجتهد فيه واستقصى، وقد تأتي بمعنى "غالَى"، أي جاوز الحدّ. أما في الاصطلاح البلاغي، فالمبالغة تعني: أن يدّعي المتكلّم لوصفٍ ما أنّه بلغ في القوة أو الضعف حدًا غير مألوف، أو مستبعدًا، أو مستحيلًا.

وقد اختلف البلاغيون في مشروعيتها:

  • ففئة من أهل التحقيق رأوا رفضها مطلقًا، لأنها تخرج عن حدّ الصدق، وتجافي دقة الوصف.
  • وأمّا المتسامحون من الأدباء، فقد قبلوها مطلقًا، تحت ذريعة أنّ "أعذب الشعر أكذبه".
  • لكنّ جماهير البلاغيين واللغويين سلكوا مسلك التوسط، فقَبِلوا من المبالغة ما لم يكن مشينًا ولا مستهجَنًا، بشرط أن يكون المتلقّي واعيًا بأنّ الخطاب ليس تقريرًا لحقائق، بل تصويرًا أدبيًا أو وجدانيًا، يركن إلى ما يُعرف اليوم بـ"الصدق الفني".

والمبالغة - كما صنّفها علماء البديع - على ثلاثة أقسام:

1.     التبليغ: وهي المبالغة الممكنة عقلاً وعادةً.

2.     الإغراق: وهي الممكنة عقلاً دون العادة.

3.     الغلوّ: وهي التي لا تقبلها العادة ولا العقل.

فانظر مثلًا إلى قول امرئ القيس في فرسه:

فَعَادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ وَنَعْجَةٍ

دِرَاكًا فَلَمْ يَنْضَحْ بِمَاءٍ فَيُغْسَلِ

هنا يرسم الشاعر صورة لفرسه يطارد الصيد بين وحشيّتين، دون أن يتصبب منه العرق، فهذه مبالغة من باب التبليغ، لأنّها ممكنة عقلًا وواقعًا.

أما إذا نظرنا إلى قوله في بيتٍ آخر:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًــــا

كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

فهذا من الغلوّ، إذ لا يُعقل أن يجتمع الكرّ والفرّ، والإقبال والإدبار في آن واحد، لكنه يُعد مقبولًا من حيث الفنّ؛ لأنه يُجسّد الصورة الشعورية، لا الواقعية، ويعكس حالة من الاندهاش والرهبة أمام مشهد العدو.

بينما في قول ابن الرومي، يذم البخيل:

لَوْ أَنَّ قَصْرَكَ يَا ابْنَ يُوسُفَ مُمْتــــــــــَلٍ إِبَرًا

يَضِيقُ بِهَا فِنَاءُ الْمَنْــــــــــــــــــزِلِ

وَأَتَاكَ يُوسُفُ يَسْتَعِيــــــرُكَ إِبْرَةً

لِيَخِيطَ قَدَّ قَمِيصِهِ لَمْ تَفْعَــــــــلِ

فهذه من الغلوّ المرفوض، وإن وردت في سياق هجائي، لا يفترض فيه الصدق، بل يُراد به التشنيع والإضحاك.

ومن المبالغات ما بلغ حدّ الطرافة كما في قول أبي نواس في مدحه للرشيد:

وأَخَفْتَ أَهْلَ الشِّرْكِ حَتَّى إِنَّهُ

لَتَخَافُكَ النُّطَفُ الَّتِي لَمْ تُخْلَقِ

فإذا بلغ الخوف ما قبل التكوين، فقد تجاوز العقل والعادة، ودخل ميدان الغلوّ المجازي، بل الساخر."

والمبالغة – حين تُضبط بميزان البصيرة – تصير أداةً فنية رشيقة، يُستعان بها في تصوير المعنى، وتحريك وجدان القارئ، وتكثيف الشعور، حتى تُصبح الصورة اللفظية أكثر نصاعةً من التوصيف المباشر، لكنّها إذا انفلتت من عقال الحكمة، وتحرّرت من وازع البصيرة، استحالت إلى تهويلٍ مُضلِّلٍ للفكر، ومُشوِّهٍ للمعنى، تسوق السامع إلى صورةٍ زائفةٍ لا أصل لها، وتغريه ببهاءٍ لغويٍّ مفارقٍ للواقع.

وقد لامس الباحث Ervic Sejuan  هذا المعنى بدقةٍ في دراسته[2] حين نبّه إلى " أنّ المبالغة في الخطاب وإن كانت تحمل بذور الإبداع – فإنّها إذا لم تُحكم بلجام الإنصاف، تتحوّل إلى أداةٍ لتضليل الفكر، وتشويش الإدراك، وتُسهم في تزييف المعنى بدل توضيحه، داعيًا إلى نهجٍ متوازنٍ يُشبه التأكيد القرآني على العدل في القول، حفاظًا على وضوح الفكر، واستقامة الفهم."

وإنّنا حين نُربّي الذوق على ابتلاع كل مبالغة دون تمحيص، نغرس في العقل قابلية التصديق بلا تثبّت، ونجعل من البيان أداةَ فتنةٍ لا وسيلةَ بيان، فالميثاق القرآني في القول يقوم على الاعتدال، والتوصيف النبوي لا يعرف الغلوّ، والذوق السليم لا يرتاح للمشاهد المتضخّمة.

تورّم العاطفة

هناك في منازل القول، حين تتوهّج العاطفة وتبلغ ذروتها، تخرج الألفاظ عن طورها، وتتماوج المعاني كما لو كانت أمواجًا تلاطِم جدران الوعي، فترتقي الكلمات فوق مقامها، وتتعالى على منازلها، وتُعلّق على جدار الانفعال، لا على رصيف الحقيقة. هناك، تبدأ رحلة المبالغة العاطفية، حيث يتداخل الحب بالغلو، ويختلط الوصف بالتهويل، وتُفقد المعاني اتّزانها، ويُستبدل "الميزان القرآني" الذي يزن بالعدل والبيّنة، بميزان الانطباع والانفعال.

والمحبّة إذا أُفرِطَ في تسييلها دون بصيرة، تُنتج أوصافًا متضخّمة، تُجمِّل الصورة حتى تُفقدها ملامحها، وتُصوّر المُحبّ على هيئة معصومٍ من الزلل، أو كاملٍ من النقصان، والكراهية إذا لم تُقَيَّد بميزان العدل، تغدو مسرحًا للتنقيص الأعمى، حتى تفرغ الصورة من سياقها، وتُقلب المحاسن مثالب، ويغيب التمييز في وصف الأشياء كما هي.

وقد أضاءت دراسة Ina’am A. Abdul-Kadhim  هذا المعنى في ورقتها البحثية[3] حين كشفت – في ضوء تحليل دلالي دقيق – عن "أنّ العاطفة إذا تَحَكَّمَتْ في الإدراك اللغوي أفسدت المعنى، وأزاحت الكلمة عن محطّها، وأنّ اللغة حين تُساق تحت وطأة الشعور تصبح أداةً للتضليل الشعوري لا للتواصل الفكري، مشيرةً إلى أنّ التأثير العاطفي في التأويل اللغوي غالبًا ما يكون سلبيًا ونتائجه عكسية، وهو ما أكّدته نظريتا Affect-as-information وAppraisal Theory  في تفسير أثر الانفعال على المعنى."

وهكذا، تتقافز العبارات – حين تُستثار المشاعر – بين تضخيمٍ يُخرج الشخص من بشريته، وتحطيمٍ يُنزل الإنسان عن إنسانيته، ويغدو المرء في عيون محبّيه سليل النبوّة، وفي ألسنة خصومه سفهيًّا لا يُذكر بين العقلاء!

تأمل مثلًا ما يُروى عن يونس بن عبد الأعلى – رحمه الله – في مدحه للإمام الشافعي: "لو جمعت أمة لوسعهم عقل الشافعي" هي عبارة تلمع في كتب التراجم، وتُمرر على الأسماع وكأنها حقيقة راسخة، بينما هي في أصلها قفزة عاطفية تتجاوز حدود المعقول، فالعقل آية فردية، محدوداً في طاقته، لا يُتصور أن يُقسّم على أمة ثم يَسَعها! ولو قُسِم عقل الواحد على ثلاثة لاختلّ التوازن، فكيف بمن ينثره على الملايين؟! ومن الشاكلة ذاتها على الضفة الأخرى، ما نُقل عن حمّاد بن أبي سليمان – وهو من رموز مدرسة الكوفة – حين عاد من الحج بعد رؤيته لأعلام التابعين كعطاء وطاووس ومجاهد، فقال لطلبته: "صبيانكم وصبيان صبيانكم أفقه منهم!" عبارة لا تُحاكي الواقع، بل تُنازعه، ولا تُنصف العلم، بل تستدرج العاطفة، فكيف يُقاس أطفال الكوفة بأئمة الحجاز ممن شهدت لهم الأمة بالتقدّم والفقه والضبط؟ لكن هي نسمات من سلطان المذهب إذا نطق، خفت صوت المعايير، وانظر إلى ما قيل في الإمام أحمد – رحمه الله – على لسان أحد محبّيه: "نظرة إلى وجه الإمام أحمد تعدل عبادة سنة". هكذا، في لحظة وجد، تُسحب العبادة من ميدانها، وتُزاحم بها لحظة بصرية خاطفة، ويُنزّل الصالح منزلة تتجاوز مداركه البشرية، فأي ميزان هذا الذي يُقابل عبادة عام – صيامًا وقيامًا وصدقة – بنظرة إلى عبدٍ من عباد الله؟! المشكلة إذن، ليست في المحبة – فالمحبة ديانة – ولكن في الخروج بها عن جادّة العدل، حتى تُلبِس القلوبَ ثوب التهويل، وتَسِم العقول بسِمة الغلوّ، وإنّنا لا نُنكر مقامات أولئك الأئمة، بل نستمسك بحبهم، ونُكرم تراثهم، ولكننا نأبى أن نُعلي فوق مقامهم ما لم يُنزّله الله، أو أن نصوغ لهم هالةً تُقصي البصيرة، وتُربّي جيلاً على أن التقديس أبلغ من التقدير، وأن التهويل أنفع من الصدق، وإنّ المبالغة – وإن كانت مزيجًا من الحب والدهشة – إلا أنها تظل انحرافًا عن ميزان الفكر، وتجاوزًا عن حقيقة التوصيف، والحقّ، في أرقى تجلياته، لا يحتاج أن يُنفخ فيه، بل يكفي أن يُقال كما هو: خالصًا، متزنًا، جارحًا أحيانًا، لكنه أقرب للعدل من ألف زخرفٍ لفظيّ، فالحق لا يُجبر بالتهويل، ولا تتعافى العقول من الجهل بعبارات التقديس، وإنما تَصحو حين تُعطى الكلمة قدرها، ويُقال للجميل: جميل، وللجليل: جليل، وتُرد كل صورة إلى حجمها، وكل شخص إلى أثره، دون زيادةٍ تُفتن، ولا نقصٍ يُهضم.

شرارة البيان

في فضاءات البيان، حيث ترتحل الكلمة بين شغاف القلوب ومسارب العقول، تلوح المبالغةُ كريحٍ حارقة: قد تُوقظ الجمودَ إذا أُحكمت، وقد تُحرقُ المعنى إذا أُفرِطت، هنا يأتي ميزانٌ بديع: الاقتصاد في الثناء أصدقُ للتعظيم من الإفراط فيه؛ لأن التضخيم—مهما انتشى به الذوقُ للحظة—يُضعف البرهان، ويستبدل الحقيقةَ بالهالة، ولأجل هذا ساق الهسكوري مثالَ سيبويه؛ إذ رام حصر أبنية كلام العرب فأصاب وأحسن، ثم فاتَه قليلٌ استدركه نحويون، فتعصّب بعضهم فردّ كلَّ مستدرَك بتأويلٍ مُتعسِّف، وهنا يقول الهسكوري كاشفًا داءَ الغلو ودواءَ الإنصاف: "وأكثرُ هذه التوجيهات بعيدةٌ ضعيفة… والحاملُ للنحويين على توجيه هذه الفوائتِ التَّعصُّبُ لسيبويه… وهذا تجاوزٌ في التعظيم، والاقتصادُ والإنصافُ يبلغان بصاحبهما من تعظيم سيبويه ما يستحقُّه، إذ الإحاطةُ متعذِّرةٌ على القوى البشرية، وحسبُك تعظيمًا أن علماء العربية—مع جهدهم—لم يجدوا من الفوائت إلا قليلًا[4]." [5]

فالمعنى—لو شئنا تلخيصه—أن «العدل في الثناء» ليس خصمًا للتبجيل، بل حارسُه الأمين؛ وأن الإحاطةَ بالعلم متعذّرةٌ بطبع البشر، فلا يُتمُّ التعظيمُ بالغلوّ، وإنما بإنصافٍ يثبّت الفضائل ويعترف بحدود الإنسان، ومن ثمّ: كلُّ تصويرٍ بيانيٍّ يجاوزُ هذا الميزان يتحوّل من أداة إيقاظ إلى ستار تمويه، وكلُّ مدحٍ يلتزمُ الاقتصادَ يثبت المعنى ويزكّي صاحبه، هكذا نميّز في البلاغة بين حرارةٍ تُنضج الفكرة، ولهبٍ يحرق الحقيقة. والسؤال: كيف نفرّق بين تصويرٍ يقصد الإيقاظَ لا التزييف، وغلوٍّ يخدع السامع بجرسٍ يفوق صدقَ الواقع؟

يجيب الباحث الفارسي حسن رحماني في مقالة[6] بحثية لتقنية المبالغة في الرواية، استنادًا إلى مبدأ التعاون عند عالم اللسانيات غرايس، إلى " أنّ المبالغة إحدى "التقنيات الأصلية" التي لا تُقاس بجوازها من صدق الواقع، بل بطبيعتها البنيوية التي تنتهك — عمدًا — قاعدة "الجودة" في مبدأ التعاون التداولي لـ"غرايس"، لا بغية الخداع، بل لاستثارة المتلقي وتحفيزه على الدخول في مدارات الخطاب." فالمبالغة — وفق هذا المنظور — ليست كذبة تُطلَق، بل حيلة أدبية تُعتمد، لا لطمس الحقيقة، بل لتوسيع أفقها وإشعال حرارتها.

حدودُ المبالغة

هنا قولٌ ينبغي بيانه: المبالغةُ في الأدب ليست خيانةً للحقيقة، بل كثيرًا ما تكون صدقًا للشعور لا كذبًا للخبر؛ هي حيلةُ الفن لالتقاط ما ينفلت من المقاييس الجامدة، ووسيلةُ الوجدان لتكثيف معنىً لو قيل عاريًا لذوى بريقُه، إنما تُدان المبالغة حين تُنقَل من حقل الشعر إلى حقل الشهادة، ومن مقام التصوير إلى مقام التقرير.

اقرأ للرافعي—في رسائل الأحزان وحديث القمركيف يشحن الجملة بتيار من الوجد حتى تكاد تسمع للمعاني خشخشةً وهي تخرج من أكمامها؛ يصف المحبّة حتى يوشِك أن يجعلها كائنًا حيًّا يتنفّس على صفحات الورق، ومثلُه المنفلوطي في العبرات والنظرات، يبالغ في رسم اللوعة ليس لأن الواقع كذلك، بل لأن أثرها في النفس كذلك؛ والمتنبي في مديحه وهجاؤه يجرّ المعاني إلى أقصى أطرافها؛ ليس ليكذب، بل ليُحمّل اللغةَ وزنَ الدهشة التي في صدره، وابن الرومي وأبو تمام والهمذاني في مقاماته، كلهم جرّبوا هذا «الوقود الوجداني» الذي يجعل العبارة أكثر نصاعةً من الوصف الحيادي البارد.

لكنّ لهذه «الحرارة الشعورية» حرمةَ لا تقبل، فحيث يكون المقام «دينًا يُتعلَّم» لا «شعورًا يُوصَف» تنقلب المبالغةُ من زينةٍ إلى آفة، فالكتب التعليمية الشرعية—متون العقيدة والفقه والحديث وشروحها—علمٌ يُبنى على الدليل، ومسؤوليةٌ في الذمة، و«الدينُ هو النصّ»؛ فلا يقبل هناك نفخُ الألفاظ ولا تهويلُ الدعوى، وهنا المطلوب «بلاغةُ البرهان»، لا «بلاغةُ الإيقاظ». وكذلك الكتب الفكرية والنفسية والاجتماعية: محلُّها تقويمُ الظواهر وإقامةُ الحجة، لا صناعةُ الهالات، إن جاز شيءٌ من التمثيل والمجاز فهو بمقدار ما يخدم الاستدلال، لا بما يطغى عليه، فإذا صارت المقالةُ الفكرية قصيدةً متنكرةً، ضاع المنهج وارتفع الغبار.

ليكن الميزان على وجهين:

  • حيثُ المقصد التصويرُ والإيقاظ: الشعر، النثر الوجداني، المقال الأدبي، المقامات، السرد الروائي، الخطبة التحفيزية التي لا تُنشئ حكمًا شرعيًا ولا تقريرًا علميًا—فهنا للمبالغة نصيبها المشروع بوصفها أداةَ تقريبٍ للمعنى وإشعالًا لذهن المتلقي.
  • وحيثُ المقصد التقريرُ والإخبارُ والتعليم: كتب التعليم الشرعي، الفتاوى، كتب الفكر والتحليل، البحث الأكاديمي، التاريخ التوثيقي، الجرح والتعديل، الخبر الصحفي، الشهادة القضائية—فهنا تمتنع المبالغة؛ لأن المطلوب «صدقٌ خبريٌّ» يُحيط بالواقع كما هو، لا كما نتمنّى أن يكون.

وبين هذين المقامين مفاصل دقيقة منها:

  • في الوعظ والإرشاد: إن كان يصف حالَ قلبٍ أو يوقظ معنًى عامًّا فلا بأس بمجازٍ لطيفٍ يحرّك الركود، ما لم يُقلب الوصفُ إلى أحكامٍ ودعاوى تُحسَب دينًا.
  • في السيرة والتاريخ: يجوز تشويقُ السرد بعبارةٍ حيةٍ، ولا يجوز نفخُ الأرقام والوقائع؛ فالمبالغة هنا تنهش الثقة لا تبنيها.

وحين يستقيم هذا الفرق في الذهن، يسلم الذوق من وباء المبالغة، ويسلم العلم من فوضى المجاز، ويستأنف كلّ فنٍّ سيرته في مقامه اللائق به: الأدبُ ينفخ في الجمرة حتى تُضيء، والعلمُ يضعها على الميزان حتى تستقيم، ومن جمع بين الضوء والميزان فقد أنصف الجَمال والحقّ معًا.

قراءة في أوهام التهويل

وهناك على خارطة الوعي الجمعي، ثمة ظاهرة تنتفخ بهدوء، وتكبر دون إعلان، حتى تغدو نمطًا تعبيريًا مألوفًا، لا يكاد يُستنكر: وهي "ثقافة المبالغة" كلما اقترب الناس من الكبار، أو سمعوا عن مشاريع جسيمة، أو وقائع ضخمة، اشتغلت ماكينة التهويل، وتضخّمت اللغة حتى تتجاوز حجم الحادثة، وتفارق الواقع إلى فضاء أسطوري، لا يُدقق ولا يُحاسب، وللمبالغة دوافع شتى، تتقاطع فيها مقاصد المخبرين، فمنهم من يصطنع الكذب عمدًا ليرسم صورة أسطورية حول من يُحب أو حول ذاته، فهو يُضخّم في الوصف ليصنع "قدّيسًا بشريًا" أو "بطلاً خارقًا"، يُلهب به مشاعر التابعين، ويحشد به جمهورًا من المصفقين، ومنهم من لم يتعمّد الكذب، لكنه تملّكته رهبة المشهد، أو أُخذ بوهج الشخص، فأطلق في المديح لسانًا لا يزن، وأفرغ في الوصف ما لا يحتمل، وأسوأ من هذا وذاك، من لا يُحسن التقدير أصلًا؛ فهو إمّا أن يبالغ في التزكية حتى يُجرّد الممدوح من بشريته، أو يبالغ في الذمّ حتى يُسقطه في حفرة التشويه، وكلاهما انحراف عن جادّة التبصّر.

وقد تنبّه أرباب البيان منذ قرون إلى غوائل المبالغة حين تنفلت من عقال الصدق، وتتزيّا بلبوس البلاغة وهي في حقيقتها خيانة للموازين، ومن أعمق ما قيل في ذلك ما سطّره الإمام الدسوقي رحمه الله، إذ قال في حاشيته على مختصر المعاني: "أي لأن كثرة المبالغة تجوّز توهم المجازفة، لما جرت به العادة غالبًا أن المبالغ فى مدحه لا يكون على ظاهره، إذ لا تخلو المبالغة غالبًا من تجوز وتساهل"[7] فانظر إلى هذا اللفظ الموزون، كيف أدرك أن كثرة المبالغة لا ترفد الحقيقة، بل تفسدها، ولا تُضفي على المدح وقارًا، بل توهم أنّ صاحبه مفارق للواقع، مفرِّط في التقدير، فالمبالغة، إذا لم تُضبط بمصفاة الصدق، تُوشك أن تتحول من أداة تصوير إلى آلة تزوير.

واسمع حديث الناس في شيوخهم ترى عجباً، وتأمل كيف يتحوّل طالب العلم إذا طوّقته حلقة من البسطاء – دون أن يُبصر هو قدر نفسه – إلى كائن متخيّل، لا يُخطئ ولا يجهل، بل يُحيط بكل شيء علمًا، وذلك الطالب، إن لم يعرف ضعفه، ولم يُدرك جهله، ولم يتهذّب بمعرفة الله، غرق في مديحهم، واختنق تحت ثقل أوهامهم، وسار على درب وهميٍّ يبعده عن العلم والربانية بقدر ما يُقرّبه من تصفيقهم.

ويبلغ العجب ذروته حين نطالع كتب التراجم، فنجد أن ابن خياط لقّن سبعين ألف أعمى[8]! في بغداد؟ في زمنٍ لا يتجاوز عدد سكّانه نصف هذا الرقم؟! فيعلّق الذهبي قائلًا بذكاء المراجِع: "لعلّه أراد أن يقول: سبعين نفسًا، فغلط وقال: سبعين ألفًا!" وهكذا تكبر الأسطورة على ظهر زلّةٍ لغوية، أو غفلةٍ روائية. ويُقال عن ابن الجوزي – ذلك الإمام البليغ – أنه كان يحضر درسه مائة ألف! في أي ساحة؟ وبأي صوت؟ فالنبي ﷺ نفسه خطب في حجة الوداع أمام مئة ألف، وكان الله يُبلّغ صوته، فأين ابن الجوزي من ذلك؟ بل يُقال إنه كتب ألفي مجلد، وختم القرآن أسبوعيًّا، وتاب على يديه مئة ألف، وأسلم عشرون ألفًا، ولا يخرج إلا إلى صلاة الجمعة![9] فيعلّق الذهبي تعليقًا ساخرًا بليغًا: "فأين ذهبت صلاة الجماعة؟"[10]

إن هذا الطوفان من المبالغات – في وصف الرجال، والمشاريع، والمجالس، والأموال – لا يرفع من قَدْر أحد، بل يُفسد عليه صدقه، ويزرع حوله هالةً تُحاصره، وأسوأ ما في المبالغة، أنها لا تُسقط صاحبها في أعين الناس فقط، بل تجعله معرّضًا لأن يُقارن بالصورة التي رسموها لا بالحقيقة التي هو عليها، فيسقط في امتحان التوقّع قبل أن يُمتحن في الواقع.

مصفاة الإنصاف

حين يختلط المدح بالمغالاة، وينقلب الإعجاب إلى أسطرة، وتُروى الحكايات لا لتوصيف الحقيقة بل لتضخيم الصورة؛ تتشوّه مدارك الناس، ويختلّ تلقيهم للوقائع، من هنا، فإنّ الذهن المتبصّر يحتاج إلى مصفاةٍ عقلية، تنخل ما يُقال، وتُعيد إلى الفكرة وزنها، وإلى الواقعة حجمها، فلا يُفتن المرء بزخرف القول، ولا يُغترّ ببهارج الروايات.

وأولى هذه الضوابط: أن يُقاس الغائب بالشاهد، والمرويّ بالمُجرّب، والمُدهِش بما تحكمه سنن الله الجارية في الخلق، ذلك أن الله قد ربط العقول بالمعاينة، وجعل للسنن الكونية هيبةً لا يجوز كسرها إلا في معجزةٍ لنبيّ، أو كرامةٍ لوليّ، وأما ما عدا ذلك، فمحكّه التجربة، ومختبره الواقع، ولا ينهض به سند.

فانظر إلى ما ذكره المسعودي: أن بني إسرائيل حين تاهوا في صحراء سيناء، كان عدد الرجال المقاتلين ستمائة ألف[11]! ويُقابل هذا الرقم رواية المؤرخين أن الداخلين مع يعقوب عليه السلام إلى مصر زمن يوسف لم يتجاوزوا السبعين نفسًا، والفارق الزمني لا يتجاوز قرنين، فهل في قوانين البشر أن يتكاثر نسلٌ من بضع عشرات إلى مئات الألوف خلال مائتي عام؟ هذا ليس من نواميس العمران، ولا من طبائع التوالد، بل هو تضخيم لا يسنده ميزان التاريخ ولا منطق التكاثر.

وفي الإسرائيليات، تنفلت الموازين أكثر، حين يُقال إنّ عرش بلقيس طوله ثمانون ذراعًا[12]، وعليه سبعة بيوت، كل بيتٍ داخل بيت! فأي عرشٍ هذا؟ وأي ملكةٍ تجلس وسطه؟ ثم تأمل المبالغة في جيوش بلقيس، إذ قيل إنّها كانت تملك اثني عشر ألف لواء، تحت كل لواء مئة ألف جندي! اثنا عشر مليون جندي؟! في اليمن؟! وهي لم تعرف هذا العدد السكاني إلا في مطلع عام 1988م، حسب منصة "Fanack". وذاك الرقم يليق بميثولوجيا [13]السرد، لا بعلم الجغرافيا ولا بواقع التاريخ.

ويتتابع سيل التهويل حين يُروى أن النملة التي خاطبت سليمان كانت بحجم الجمل! أو الذئب! ولو صحّ ذلك، لما خشيَت أن تُطأ تحت قدم، فهي في ضخامة من لا يخفى على أحد، فكيف تغيب عن عين نبيٍّ أُوتي فهم الطير والحيوان؟ ثم أيّ نملٍ هذا الذي يُطأ في غفلةٍ من سليمان، وهو يرى منطقها، ويفقه همسها؟!

وإذا أردت مقياسًا آخر يُعينك على تمييز المبالغة، فانظر: هل هذه الأعاجيب وقعت في أرض مأهولة؟ هل رآها الناس؟ هل نُقلت بأسانيد معتبرة؟ أم بقيت حبيسة كتبٍ مجهولة؟ فإن قُصّت عجائب عن بلادٍ مطروقة، وسكت عنها كلّ من دخلها وخرج، فاعلم أن أصلها وهْم، ومبناها مجاز.

ومن ذلك ما قيل عن إرم ذات العماد، بأنها مدينة من ذهب،[14] بناها عاد بن شداد تشبّهًا بالجنة، لبنةً لبنة، لبث في بنائها ثلاثمئة عام!فأين ذهب أثرها؟ وأين عينها؟ أمثل هذه المدينة لا يُشاهدها البشر؟ ولا تتواتر الرواية عنها؟ وإنما هي مدينة لا وجود لها إلا في حكايا الليل، لا في وقائع النهار.

إن العقل لا يُنكر الغيب، لكنه يُنكر أن يُتاجر باسم الغيب، ولا يردّ العجائب، لكنه لا يقبل أن تُلصق بالعقلاء أحلام السذج، ولا يسمح أن يُفسد تقدير العظماء بمبالغات تُحيلهم إلى كائنات أسطورية تُفقدهم هيبة الحقيقة.

وهكذا، يظلّ ميزان العقل والتجربة، هو الحارس الأمين للمرويات، والمصفاة التي تردّ الزيف، وتبقي الصدق، وتفرّق بين ما يُقال لتمجيد الحق، وما يُقال لإرضاء الخيال.

مبالغة السامعين

في واقع يتضخم فيه الصوت قبل أن يتكامل المعنى، ويُرفع الخطيب قبل أن يُمحّص خطابه، تطلّ علينا ظاهرة مريبة تُسمّى: مبالغة السامعين، نحن لا نعيش فقط في زمن المبالغة، بل في زمن يتغذّى على المبالغة، ويستلذها كأنها وقود التأثير، لا انحراف التقدير، فالناس – إلا من رحم الله – لا يطربهم البيان بقدر ما يفتنهم الصدى، ولا يطلبون الحكمة قدر ما يستحثون الانفعال، فإذا ارتجف صوت الخطيب توهّموا البلاغة، وإذا احمرّ وجهه قالوا: قد استنزف الصدق دمه! وقد كتب العقّاد – رحمه الله – في مجلة الرسالة فصلاً عن هذه الظاهرة، تحدث فيها عن كفاءة هتلر الخطابية[15] "في كل شهرة خطابية منافذ للمبالغة والإطناب لا بد منها في كل زمان، وفي زماننا الحاضر خاصة، ومنافذ المبالغة والإطناب هذه تأتي من مصادر متعددة: بعضها بريء وبعضها متهم، ومنها المقصود المدبر، ومنها الذي يحدث على غير قصد وتدبير" ثم أشار إلى أوّل هذه المنافذ وأوسعها، فقال: "فأول مصادر المبالغة والإطناب جمهور السامعين، وهم كدأب الجماهير يحبون أن يتأثروا وأن يخلقوا لأنفسهم دواعي الحماسة والمغالاة، وأن ينوموا أذهانهم تنويمًا يسهل لهم أن يعتقدوا ما يحبون اعتقاده، وأن ينساقوا في موجة من الشعور لا تطيق الحدود، ولا تقف دون الإعجاب الكامل."

وهنا تتجلّى ذهنية العقاد، حين يتجاوز تحليل النصوص إلى تحليل النفوس، فيفضح سرّ الحشود: أنها لا تحب الخطيب لأنه أقنعها، بل لأنها أرادت أن تقتنع؛ لا لأنها سمعت الحق، بل لأنها أرادت أن تصدّق ما أحبته من قبل، ويزيد الأمر وضوحًا بقوله: "لأن الوقوف عند حد من الحدود المعقولة يفسد الحماسة، وليس إفساد الحماسة مما تطيقه الجماهير" فهو يرسم صورة دقيقة للذهنية الجماهيرية، تلك التي تصنع من الخطيب صنمًا قبل أن يُنطق، وتُغدق عليه التصفيق قبل أن تُحسن الاستماع، بل يصل الحدّ إلى أن يسأل أحدهم جاره – كما قال العقاد: "ماذا قال؟" بعد أن يكون قد ضحك مع الضاحكين! ليست المسألة هنا في فصاحة الخطيب، بل في "التبرير الجماهيري لوجوده" في بحث الناس عن أي باعثٍ يُنقذهم من سآمتهم، ولو كانت الكلمة الأولى في المسرح كافية لتفجير الضحك، قبل أن تُفهَم.

ويمضي العقّاد في تحليله البديع، متجاوزًا الجمهور إلى صنفٍ آخر من صنّاع التهويل:"والمصدر الثاني وسط بين البراءة والاتهام، وبين الاندفاع والتدبير: وهو مصدر الرواة وكتاب الأخبار." فالصحيفة – كما يقول – لا تعيش من دقّة النقل، بل من أثر النشر، من لفت الانتباه لا من احترام الحقيقة، والكاتب لا يُنتظر منه أن يقول: “الخطبة عادية”، بل يُطالَب بأن يملأ الأعمدة بالسحر والإعجاز، وإلا فقد مكانته، أو – كما قال – "يفقد وظيفته!" ثم يقرّر العقّاد هذه السنة المعكوسة: "فيتواتر النبأ المبالغ فيه، وينقطع النبأ الذي يحرص على الصدق والأناة، وينتهي الأمر برواج الكذب والتلفيق، وبالشك في الصدق والأمانة "ويشهد العقّاد في عُرض مقاله على أنَّ هتلر – رمز الشهرة الدعائية – لم يكن "ملكًا من ملوك البيان"، بل أقرب إلى ممثلٍ يُكرّر دوره، قال: "فهو ولا شك خطيب مبين، ولكن لا شك كذلك أنه ليس من ملوك الكلام في عصرنا الحاضر، ولكنه أقرب إلى الممثل الذي كرر دوره حتى حفظه ووعاه، ووقع فريسة له، فلا يقدر على تبديله "ويختم بوصفٍ يزلزل ثقة المتلقّي في الشهرة المصنوعة "وعيبه الأكبر أنه لا يقنع ولا يقيم الدليل… وفيم اجتهاده في إقناع من هو قانع؟ وإيمان من هو مؤمن بغير برهان؟"

وهنا تكمن المفارقة العظيمة: إننا لا نُفتتن بصوت الحق، بل بصدى الهتاف، لا نغرق في بليغٍ أقنعنا، بل في زحام جماهير صدّقت قبل أن تسمع، وفي زمن الصورة والموجة واللحظة، تبدو مبالغة السامعين أخطر من غلوّ الخطباء، فالجماهير تصنع التمثال، وتلبسه قميص المجد، ثم تُحاكمه لاحقًا لأنه لم يُشبه الصورة التي رسمتها في لحظة انفعال!

فتنة الإطراء

في زمنٍ ضجّت فيه المنابر بالمدائح المُترعة، وغصّت فيه المحافل بالألقاب المنفوخة، يُبتلى العقل بمحنة تزييف المقامات، ويُصاب الذوق بفقدان التوازن بين التقدير المشروع والإطراء الممنوع، فما أكثر ما نُغرق الأسماع بكلماتٍ تلامس الغلو، ونعجن الأوصاف بماء الهوى حتى لا تخرج من القلب خالصة لوجه الحق، إن الكلمة – في ميزان الشريعة والعقل – أمانة، والمدح إذا جاوز حده انقلب من تكريم إلى تضليل، ومن توقير إلى تزوير؛ ولذا قال ابن الأثير رحمه الله: «الإطراء: المبالغة في المدح والإسراف بما ليس في الممدوح»[16]، وتبعه ابن حجر فقال: «الإطراء: المدح بالباطل».[17] فتأمل كيف اتفقت أنظار العلماء واللغويين على أن الغلو في الثناء ليس من مكارم القول، بل من غوائل الجهل، بل تجاوز البيان إلى نص النبوة، حيث روى ابن عباس – رضي الله عنه – أن عمر بن الخطاب سمع رسول الله ﷺ يقول: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»[18]، وهذا ميزان النبوة، الذي يضع الحد بين المحبة الشرعية والغلو المُهلِك، بين التبجيل الهادي والتأليه الباطل، ولك أن تتأمل هذا الورع النبوي العظيم، كيف سدَّ الطريق من أوله، حتى لا تُفتَح نوافذ الإطراء التي تتسلل منها الشركيات والبدع وأوهام تقديس البشر، وهذا ما فقهه الإمام البغوي حين قال: «هو المبالغة في المدح والتعظيم والكذب فيه»[19]. فليس المحظور في أصل المديح، بل في المبالغة التي تُخلّ بميزان الحقيقة، إنك إن سمعت أحدهم يُغرق في الثناء بلا ميزان، ويرفع فوق ما يحتمل العقل والشرع، فاعلم أنك لا تسمع مدحًا ناصحًا، بل تصغي إلى انفعال مزاجيٍّ قد يُسقط الممدوح من حيث أراد رفعه، ويُورث في قلبه خُيَلاءً تفسد إخلاصه وتُعمي بصيرته، وما أقسى أن يُفتتن المرء بكلمة! أن تتسلل إليه نشوة المديح، حتى تغطي على عين بصيرته معنى العبودية لله، وصدق الاستغناء به، فالمدح حق، ما لم يُخلّ بالعدل، وما لم يتجاوز الصدق، وما لم يُنسِ العبد أنه عبد.

نضج التقدير

ومن شواهد السواء النفسي عندي، ودلائل التكوين العقلي المتين، أن ترى المرء مقتصدًا في أبواب المدح والذم، متورّعًا في تصريف الأوصاف، لا ينفلت لسانه بوصف طائش، ولا يُغريه لمعان الإعجاب ولا مرارة الخذلان إلى انتفاخٍ في التقويم، إذ الحُكم – عند من يستصحب تبعات الكلمة في الدنيا والآخرة – شهادةٌ مرقومة، وتقريرٌ ممهور، يُسجَّل لصاحبه في صحائف القول، وهو لا يدري، ولأن الكلمة وزنٌ في الميزان الشرعي، لا زينة في مَعارض المجاملة، فإن الإفراط في الوصف – مدحًا أو ذمًّا – ليس إلا انكشافًا عن مزاجٍ نفسي مرتبك، يتقلب مع الحالة، ويجور عن العدل، ويُسيء إلى الذوق قبل أن يُسيء إلى الموصوف.

ويدرك العاقل أن ورع العلماء لم يكن محصورًا في فتاوى الحلال والحرام، بل امتدّ إلى ورعٍ لغويٍّ، دقيقٍ، في انتقاء المفردة التي تُمنح للناس في أبواب الفضائل، فها هو الأدفوي يصف الإمام علي بن إسماعيل القونوي بمحامد جمّة، ثم يذكر أنه تخرّج على ابن دقيق العيد، ولازمه زمنًا، ولكن هذا الملازم لم يُزَحزِح الإمام ابن دقيق العيد عن انضباطه اللفظي وميزانه العادل، فلم يُغرق في المدائح، ولم يمنحه من الألقاب إلا "الفاضل" كلمة واحدة، لكن في لسان من يعرف أوزان الكلمات ومقامات الرجال، كانت تعني الكثير، يقول الأدفوي "فوجدته يطلق عليه اسم (الفاضل) استحقاقًا، وناهيك به من عالم متضلع، ومحتاط فيما يكتبه ويقوله متورع.[20]" ثم يأتي السبكي، بعينه الناقدة، ليقرأ ما وراء هذه الكلمة ويقول" لا شك أن هذه من ابن دقيق العيد منقبة للقونوي عظيمة"[21]، تأمل! كلمة واحدة لكنها عند من يعرف قواعد البناء الروحي، ويُحسن تركيب المعاني على قدر النفوس، تساوي كتبًا من المديح.

ولعلّ أتمّ ما يبيّن هذا المقام، أن السواء النفسي لا يظهر فقط في قول المرء، بل في تلقّيه أيضًا؛ فالعاقل هو الذي يتلقى الثناء والذم بقلبٍ ساكن، وعقلٍ موزون، يعلم أن ألسنة الخلق مضطربة، وأن أحكام الناس – في كثير من أحوالها – ليست إلا انعكاسًا لمزاج اللحظة، ومن دقائق ما رواه البخاري في الأدب المفرد، أن رجلًا قال لأم الدرداء – رضي الله عنها – إن فلانًا نال منك عند عبد الملك، فلم تضطرب، ولم تثُر، بل أجابت بجوابٍ يدلّ على تربيةٍ قرآنية سامقة، فقالت "إن نؤبَّن (أي نعاب) بما ليس فينا، فطالما زُكّينا بما ليس فينا.[22]" ويا لها من عبارةٍ تُسطّر بماء الذهب، تُلخّص فلسفة الاتزان النفسي في سطر، وتُشير إلى عقلٍ قد تربّى على الإنصاف، وعينٍ قد تعلّمت من القرآن كيف تنظر في أحكام الناس كما ينظر العارف في ظل الغمام: لا يُقيم عليه سقفًا، ولا يستند إليه في قرار، فهنيئًا لمن علِم أن الكلمة مسؤولية، وأن ميزان المدح والذم ليس ساحة عواطف، بل موضع عبادة.

وهذه المبالغة لا تأتي من فراغ، بل تسندها روافع ضخمة تعمل في الظل:

1.     انخسافُ المعيار الربّاني: حين يضعف الاقتداء بالأنبياء، وتغيب صورة الوحي من ميزان القول، يُستبدَل العدلُ بالهالة، ثم يترك الحكمُ الشرعيّ ويُنصَّب الانطباعُ اللحظيّ ميزانًا، ويُدَيَّنُ العاديّ فيُحاط بقداسةٍ لا تليق، وههنا تولد المبالغة من فراغ التوحيد في التقييم وتضخم الشعور.

2.     هشاشةُ الوعي والتربية النقدية: وعيٌ جمعيّ لا يُفرّق بين الخفيف والعميق، وتربيةٌ لم تُدرّب العينَ على الفحص ولا اللسانَ على التبيين، مع فوبيا التعقيد وكسلِ التفصيل؛ تجعلنا نهرب إلى الأحكام الكاسحة والشعارات البراقة، فيسهل ابتلاع التهويل بوصفه حقيقة.

3.     الضحالةُ المعرفيةُ واختلاطُ المراتب: سطحيةٌ ترفع كلَّ حجرٍ على أنه جوهرة، وخلطٌ للخاصّ بالعامّ يجعل التجربةَ العابرة قانونًا كونيًّا، وعُقدةُ “الفتح العظيملا ترى الجهدَ جهدًا حتى يُقال: “غيّر مسار التاريخ”. وهناك تعمل قاعدةٌ فاجعة: العجز عن إقامة البرهان يُغري بإقامة البهرجان؛ فكلما قلّ العلم طال ظلّ التضليل.

4.     السيولةُ الوجدانية وصناعةُ الرموز: تقلبٌ عاطفيّ وثقافةُ شعورٍ تُقدّم التأثّر على التأمّل، مع عطشٍ داخليّ إلى بطلٍ ولو من ورق، وفراغٍ تُملؤه الأوصافُ المنفوخة، فيُخرِج الحبُّ المُفرِطُ الممدوحَ من بشريّته، وتُسقِطُ الكراهيةُ العَمْياءُ المذمومَ من إنسانيته.

5.     اقتصادُ الصخب ومنطقُ المنصّات: خوارزمياتٌ تكافئ العنوانَ الصارخ وتُعاقب الهدوءَ الرصين؛ فتُستثار الانفعالات خوفًا من فقدان الجمهور، ويُقاس الأثرُ بوهج الانتشار لا بوزن الأفكار.

أما العلاج، فلا يكون بجلد الذات، بل بإعادة الميزان إلى موضعه، واتباع هذه الوصايا:

1.     ميزان الوحي والصدق: الاستضاءة بالقرآن معيارًا للقول، وإحياء فضيلة الصدق في الوصف، وأن يكون الشكر على قدر الفعل"جزاكَ اللهُ خيرًا وكفى" فالأحداث تُوزن بنور الحق لا بسطوة الضجيج، والكلمات تُقال كما هي لا كما يُشتهى سماعُها.

2.     منهج التأنّي والاتزان: زرع ثقافة البطء الواعي في الحكم، فالعقل الراشد لا يصدر قرارات الطلاق عند كل اختلاف، وتهذيب الذوق الجماعي بالصبر، مع التدرّج في التقويم؛ فليس كلُّ نورٍ شمسًا، ولا كلُّ انبهارٍ بصيرةً، والقليلُ المحكم أبركُ من الكثير المهوَّل.

3.     حراسة السياق والدلالة: الوعي بخدعة المجاز وبريق العناوين؛ وردُّ الفكرة إلى سياقها وحدودها، والتمييز بين الأثر الخاطف والميلاد الكاشف، ومقاومة “الإلهام المُعلّب” الذي يبيع الدهشة ويُفلسف الفراغ، والدلالة تُضبط بالحدّ لا بالهتاف.

4.     إرجاع الأشياء إلى مقاماتها: بعث ثقافة الوصف المتزن، وتربية الذائقة على «العاديّ الجميل»؛ فلا تُسوّى الكلمة اللطيفة بالوحي المنزّل، ولا التجربة الجزئية بالقاعدة الكونية، لكلِّ شيءٍ قدرُه، ولكلِّ مقامٍ مقالُه—بلا تعظيمٍ يُرهق المعنى ولا تهميشٍ يُطفئ نوره.

5.     تجفيف منابع الانبهار الطارئ: تحويل الخطاب من التحفيز اللحظي إلى التكوين البنائي، وسدّ جوع النفس بالحقائق الراسخة لا بالبريق المؤقّت؛ فإذا امتلأ القلبُ بالمعنى، خمدت الحاجةُ إلى التهويل، ورجع الميزانُ قِوامًا بين إفراط المديح وتفريط الذم.

وإن من كرامة الفكرة، أن تُقال كما هي، لا كما يُراد لها أن تُبهر، فالحقّ في صمته أبهى، والميزان في عدله أبلغ، والسعي إذا خالطه صدق، أغنى من ألف مبالغة.

في النهاية، المبالغة — يا سادة — لا تُعلي من الفكرة، بل تُقصيها عن جلالها، وإنّ أعظم ما يُقال عن المرء أحيانًا: "أجاد وأفاد.. ثم جلس في الظل بهدوء"، دون نشيدٍ ولا نشرة عاجلة.

المراجع

[1] كتاب البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها- عبدالرحمن الميداني 804-809

[2] Critique of Exaggeration: Thinking Outside the Box” (2020)

[3] European Journal of English Language Studies (Vol. 12, Issue 6, June 2024م

[4] "وذكَرَ الزجاجُ -على ممارسةٍ شديدةٍ وتصفُّحٍ طويل- أنَّ الذي فات سيبويه من كلام العرب ثلاثةُ أبنية" - شرح السيرافي ١٨/ ٢٤٣

[5] شرح الهسكوري 1/335

[6] المجلد والعدد: المجلد 16، العدد 4 - العدد التسلسلي 49، يناير 1403(وهذا هو التاريخ الفارسي الشمسي) مجلة الآداب والفنون التابعة لجامعة أصبهان.

[7] حاشية الدسوقي على مختصر المعاني، 2/484.

[8] ذيل طبقات الحنابلة - لابن رجب - ت العثيمين ١/‏٢٢٥ — ابن رجب الحنبلي (ت ٧٩٥)

[9] [9] طبقات علماء الحديث ٤/‏١٢١ — ابن عبد الهادي (ت ٧٤٤)

[10] سير أعلام النبلاء - ط الرسالة - شمس الدين الذهبي (ت ٧٤٨) 21/370

[11] أخبار الزمان ومن أباده الحدثان، وعجائب البلدان والغامر بالماء والعمران - المؤلف: أبو الحسن المسعودي (ت ٣٤٦هـ) - الناشر: دار الأندلس – صفحة 277

[12] أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٧.

[13] مأخوذة من الكلمة الأجنبية Mythology، التي تعني علم أو دراسة الأساطير، أو مجموعة المرويات الرمزية التي تتناول أصل الكون، والآلهة، والأبطال، والقوى الخفية، والمفاهيم الرمزية الكبرى في ثقافة معينة.

[14] مرآة الزمان في تواريخ الأعيان ١/‏٣٥١ — سبط ابن الجوزي (ت ٦٥٤).

[15] مجلة الرسالة – أحمد حسن الزيات – صفحة 361/20

[16] جامع الأصول ٤/ ٩٧.

[17] فتح الباري ٦/ ٥٦٥.

[18] البخاري (٣٤٤٥)، ومسلم (١٦٩١).

[19] شرح السنة ١٣/ ٢٤٦.

[20] البدر السافر، ج2، الترجمة رقم (171)، ت: د. محمد فتحي محمد فوزي.

[21] طبقات الشافعية الكبرى (10/134) ت: الحلو والطناحي.

[22] رواه البخاري في الأدب المفرد برقم 420، ط. عصام موسى هادي، وابن حبان في روضة العقلاء ص 178، ط. الفقي.

يُمْن.وليدسارة علاونة3 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة توّاق البريدية

نشرة توّاق البريدية

هذا البريد خيطٌ رفيعٌ يربطني بما يستحق أن يُحفظ في الذاكرة، فليس مجرد سطرًا في قائمة، ولا إشعارًا ينطفئ مع الوقت، بل هو لحظة توقّف وسط الركض، ومجال للتأمل في عالمٍ لا يكفّ عن الاندفاع.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة توّاق البريدية