غواية المفاهيم 1 |
12 يوليو 2025 • بواسطة توّاق • #العدد 9 • عرض في المتصفح |
بين ضلال النجاح وظِلال الفلاح
|
|
![]() |
في ظهيرة يومٍ عاديّ، كنتُ واقفًا في طابور البنك، يلفّ المكان سكون ملوّن بلغة الأرقام ومراجعات المعاملات، أمامي رجلٌ خمسينيّ، يحمل في يده أوراقًا متآكلة الحواف، يطويها بين أصابعه كمن يطوي أعوامًا من الكدّ بصمت، وعلى المقعد المقابل، شابٌ يرتدي بدلةً أنيقة كأنما صيغت خيوطها من خيوط الوهج، يتحدث بلغةٍ صاخبةٍ عن الإنجاز، يستعرض أرقام أرباحه، وعدد موظفيه، وصورة مكتبه الذي يعانق السحاب. |
وفي تلك اللحظة، اقترب منّي رجل الأمن العجوز، وعيناه غارقتان في تجاعيد تعب الزمان، وأشار إلى الشاب وهمس بلغة العوامّ: ما شاء الله، هذا هو النجاح. ثم مال بجسده النحيل، وأشار خفية إلى الخمسينيّ، وهمس وكأنما يكشف سرًّا: وهذا؟ مسكين، أضاع عمره. |
لم أعلّق، لكن قلبي شهق بصمت، لأن المعيار الذي حكم عليهما لم يكن ما وزنه الوحي، بل ما صاغته الثقافة، هناك، خلف صدري، بدأ المقال ... |
في خضمّ السعي المتسارع، وفي زمنٍ أُغري الناس فيه بصورة الإنجاز أكثر من حقيقته، تسرّب إلى العقل المعاصر مقياسٌ جديد، ليس له أصل في الوحي، لكنه استقرّ في النفوس حتى غدا مهيمنًا على القرار والشعور معًا، ذاك هو مقياس "النجاح" الذي لم يعد سؤالًا حرًا يبحث عن الجواب، بل صار إجابةً جاهزةً تُلقّنها الثقافة، وتُكرّسها المنصات، وتُعيد برمجتها الأدوات المعرفية الجديدة كل يوم. |
لقد تغيّر معنى النجاح، لا لأنه تطوّر، بل لأنه انفصل عن الله، فلم يعد في الوعي العام مرادفًا للصدق، ولا للأثر الأخروي، بل غدا يُعرَّف بما يُرى، ويُقاس بما يُدهش، ويُصنَّف وفق ما يُجمع من أرقامٍ وألقابٍ وجماهير، وهكذا، نشأ جيلٌ يتنقّل بين الخطط، ويُراكم الأهداف، ويُقلّب أدوات التحفيز، ويقيس ذاته بعدد المهارات والمشاريع، لكنه في داخله لا يشعر بشيءٍ من السكينة، لأن النجاح الذي لا يُصبغ بالإيمان، يُتعب أكثر مما يُثمر، ويُغري أكثر مما يُطمئن، ويُلهي حتى إذا حضر الموت لم يُسعفه بشيء. |
وهذا المقال ليس خطابًا وعظيًا يُقصَد به التزهيد، ولا نقدًا اجتماعيًا يُراد به التثبيط، بل محاولة لإعادة تعريف الطموحات في ضوء التزكية، واستئناف تحرير الإنسان من ضغط "الصورة" إلى سكينة "المقصد "محاولةٌ لفكّ الارتباط بين الإنجاز والغرور، وبين الطموح والعُجب، وبين النجاح والهوى، هو محاولةٌ لكسر القيد الخفيّ الذي التفَّ على القلوب باسم "النجاح"، وإعادة تعريف المسير في ضوء قول الله: ﴿فَمَن زُحزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فازَ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا مَتاعُ الغُرورِ﴾ [آل عمران: ١٨٥] وهكذا، حين يُعاد وصل النجاح بالله، ويُعاد تعريف الإنجاز على قاعدة الفلاح، يهدأ القلب، وتصفو النية، ويُعاد ترتيب الخطى نحو أبواب السماء، لا نحو أعين الناس، هنا تبدأ الرحلة، رحلة من صدًى فارغ إلى صدقٍ خفي، ومن مرآة الجمهور إلى ميزان الغيب، ومن صنم الإنجاز إلى مقام الفلاح. |
معابر الضلال |
الذي يظهر لأدنى عاقل أن مفهوم "النجاح" قد اختُطِف من معناه الفطري، وتحوّل إلى وِردٍ يوميٍّ يُتلى في منابر التحفيز، وتُصنَع من أجله الذوات، حتى أصبح الإنسان يعيشُ محاطًا بهالة من الترقّب الدائم لإنجازه القادم، مشغولًا بماذا سيكتب في سيرته الذاتية أكثر من سؤاله: ماذا يُكتب في صحيفته الأخروية؟ وفي ظلّ هذا الضجيج، تاهت النفوس، واستُهلكت الأرواح، وغابت الطمأنينة، رغم امتلاء الجداول، وتزاحم الإنجازات. |
وليس أخطر على القلب من مفهومٍ زائفٍ يتسلل إليه في ثوبِ لفظٍ نبيل، إذ كثيرٌ من الانحرافات لا تبدأ بالنية، بل تبدأ بالكلمة، ثم تتجذر في اللغة، وتستقر في الشعور، حتى يعيد الإنسان ترتيب حياته دون أن يشعر، على منطق مصطلحٍ فاسد، أو مِكيالٍ منحرف. |
ولعل أعذب ما يفسّر خطورة هذه المعركة ما قاله د. محمد بريش في قوله: "ولا يمكن الاهتمام بفنٍّ من الفنون، ولا بعلم من العلوم، دون العناية بترسانة مصطلحاته، وخزان معاني ودلالات تلك المصطلحات، ومراقبة مفعولها في الأذهان، ومتابعة سريانها داخل منظومة ونسق المفردات، والمصطلحات التي يتم تداولها داخل المجتمع المعني بالأمر من خلال لغة الخطاب والتخاطب، وقد أصيبت أمتنا بتخليها بشكل واضح وملموس عن العناية باللغة العربية، وعدم بذل الجهد لإحلالها المكانة اللائقة بها داخل المجتمع، مما يقطع التواصل مع تراث الأمة وكنزها التاريخي، بل ويقطع الطريق بينها وبين قواعدها المعرفية والحضارية" [1]وهكذا يظهر جليًا أن أول أبواب الهزيمة هو التفريط في المعجم، وأول أسباب الغربة أن تُخلع المصطلحات عن أصولها، ثم يُطلب من القلوب أن تهتدي بلا قِبلة، ومن العقول أن تبصر بلا نور. |
ولهذا، كان من أعجب ما فعله النبي ﷺ في مشروعه النبوي، أنه لم يكتف بتقويم السلوك، بل بدأ أولًا بتصحيح المفاهيم، وتقويم الألفاظ، وتطهير اللغة من المجازات المسمومة التي كانت تسكن عقل الجاهلية، ومن ذلك نهيه ﷺ عن تسمية العنب بـ"الكرم"، وقال: "لا يقولَنَّ أحدُكم للعنبِ: الكَرْمَ، فإن الكرمَ قلبُ المؤمن[2]". ويعلق ابن هبيرة في الإفصاح" فهذا الحديث يدل على أنهم كان يسمون العنب كرمًا، ويزعمون أنها تحدث كرمًا على ما قيل، فأراد رسول الله ﷺ أن لا ينسب إلى الخمر فضيلة؛ وإنما الفضيلة للمؤمن لما فيه من النور والإيمان"[3]. |
فنشأت تلك المفاهيم المغلوطة في الوعي الجمعي: أن السُكر رجولة، وأن البذخ مروءة، وأن المجاهرة بالشر شهامة، فقط لأن "اللفظ" جرّ خلفه شعورًا، ومنح الفعل قُدسية لغوية غير مستحقة، فجاء النبي ﷺ فقطع أصل الغلط من تسميته، ليُعيد تشكيل الشعور، قبل أن يُقوّم الفعل، فالألفاظ ليست زينة بيان، بل معابر فكر، ومداخل ثقافة، ومرايا تصور. |
وهذا بعينه ما نعيشه اليوم مع "صنم الإنجاز"، حيث نشأت ألفاظ مشروعة المظهر، لكنها منحرفة المعنى: النجاح، تحقيق الذات، التطوير، الأثر، الريادة، التميز، التأثير... ألفاظٌ تنتمي في ظاهرها إلى معجم الخير، لكنها أُفرغت من مضمونها الإيماني، ثم أُعيد تعبئتها في قوالب مادية، فصارت تقيس الإنسان بما يُبهر، وهكذا، تسلّلت مفاهيم غربية بلغة مشرقة، فغيّرت وجهة الساعي دون أن يشعر، فما عاد الإنسان يسأل: هل زكيت نفسي؟ بل: هل أنجزت أهدافي؟ ولا يقول: هل تقبّل الله سعيي؟ بل: هل أثّرت في الناس؟ وما هذا الانحراف إلا امتدادٌ لذلك الذي حذّر منه النبي ﷺ في لفظ "الكرم"، حين تُلبَّس المفاهيم بلغةٍ حسنة فتُشرعن، وتُؤنسن، وتُحبب إلى النفس. |
وهنا تتجلّى خطورة هذه الألفاظ، لا في ظواهرها، بل في حمولتها الشعورية، وتراكمها الدلالي، وتسلّلها العفوي إلى عمق الوجدان، إذ ليس كل لفظ حسنٍ في ظاهره يُؤمَن معناه. ولذا قال ابن تيمية كلمةً تصلح أن تكون دستورًا لغويًا في زمن التداخل المفاهيمي:"من تكلم بلفظ يحتمل عدة معان، لم يُقبل قوله، ولم يُرد، حتى نستفسره ونستفصله حتى يتبيّن المعنى المراد، ويبقى الكلام في المعاني العقلية، لا في المنازعات اللفظية"[4] |
فنحن لا نعترض على المصطلحات لأنها دخيلة فحسب، بل لأنها تحمل منظومة شعورية وأخلاقية وفلسفية، قد تُقصي معاني التزكية والنية والعبودية، وتحلّ مكانها مقاييس الإنتاج والانبهار، وما لم نُحسن قراءة اللغة، سنعيد إنتاج "تمثال مفاهيميّ" بوجوه جديدة وألفاظ مقبولة لكنه يظل تمثالاً، وإن صيغ بماء الذهب. |
فكل مشروع لتصحيح المفاهيم هو تأسيسٌ إيمانيٌّ عميق، لا يتمُّ الفلاح إلا به، فإن العبد إذا مشى على اصطلاحٍ مغلوط، بنى عليه عمره، حتى إذا وقف على باب الله، لم يجد في يده إلا ألفاظًا حسنة، وأعمالًا خالية، فالخطر لا يكمن في ألا تنجز، بل أن تنجز وأنت مأسورٌ بمعيارٍ منحرف، ومفتونٌ بتسميةٍ كاذبة، ومغرورٌ بمصطلحٍ صنعه الإعلام، لا القرآن. |
ولهذا، فإن تحرير الإنسان من سجن المفاهيم يبدأ من تصحيح المفردات، ونقض الأوهام، وسحب القداسة من ألفاظٍ لا شرعية لها، ولو ارتفعت بها اللافتات، وتزاحمت بها العناوين. فلا كل "إنجاز" مقبول، ولا كل "نجاح" فلاح، ولا كل "تحقيق للذات" هو سعيٌ إلى الله. |
المفاهيم المسمومة |
المتأمل في مسيرة التحوّلات الكبرى في وعي الإنسان، يستشف أن الانحراف لا يبدأ دومًا من الفعل، بل من المفهوم الذي يقف خلف الفعل، ولهذا قال النبي ﷺ: «إن من البيان لسحرًا»؛ ويشرح الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتحه هذا المعنى فيقول: تشبيه بليغ يُبيّن كيف يعمل البيان عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق، فيستميل قلوب الجهال حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق.[5] بل إن أغلب التحوّلات النفسية والسلوكية التي تطرأ على المرء لا تنشأ من قرار مباشر، وإنما من تبدُّل خفيّ في المفردات التي تشكّل وعيه، وتصوغ علاقته بذاته وبالله وبالناس، فاللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي سُلطة، ومحرّك، وسائق داخلي يعيد ترتيب المدارك دون أن يستأذن. |
وها نحن اليوم نعيش واحدةً من أوسع عمليات الانحراف المفاهيمي في تاريخ الأمة، لكنها ليست موجّهة ضد الدين مباشرة، بل ضد اللغة التي تزن الدين، ولقد جرى تزوير المفاهيم بألفاظٍ ذات جاذبية أخلاقية: فأُعيد تعريف "النجاح" ليُقاس بالحضور، لا بالقبول، وأُفرغ "الطموح" من الإخلاص، ليُملأ بالذاتية والتفوّق، وحُمّل مصطلح "تحقيق الذات" بمعانٍ تسويقية، تنفصل عن الفطرة، وتبتعد عن النية، ومن المفكرين الذين أدركوا خطر هذا الانفكاك بين اللغة والمضمون الحضاري، الدكتور محمد بن عبدالكريم الجزائري، الذي يُعنون أحد كتبه"لغة كل أمة روح ثقافتها"، في إشارة بالغة العمق إلى أن الثقافة جسد، واللغة روحها، وإذا سُلخت الأمة من لغتها، سُلخت من هُويتها، يقول في بيان هذا المفهوم: "النتيجةُ أنَّ أيَّ شعب أهمل لغتَه واستعار لغة شعبٍ آخر، فسُلوكُه وتفكيرهُ - هما الآخران - مستعاران بالدرجة الأولى، ومن كان كذلك فلا شخصيةَ له، ومن لا شخصيةَ له فلا ثقافة له، ومَن لا ثقافة له فحظُّه في الحياة تقليدٌ أعمى،."[6] وهنا تكتمل الدائرة: فليست المصطلحات ألفاظًا معزولة، بل قوالب فكر، ومصانع إدراك، وموازين قيم، وما ضاع الوعي إلا حين استبدل لغته التي توزن بها المعاني، بمفردات دخيلة توزن بها الأجساد، ومن يتأمل في بنية هذا الهيكل، سيجد أن أعمدته ليست وقائع ولا حججًا، بل ألفاظًا براقة: إنجاز – تميّز – ريادة – أثر – تطوير – إبداع… مفردات ذات طابع نبيل، لكنها حين تُسلَخ عن غاياتها التعبدية، تتحوّل إلى معبوداتٍ صامتة، يُضحَّى لها بالنية، وتُهدر في سبيلها الطمأنينة. |
ولأجل هذا، فإن العودة إلى الفلاح لا تبدأ من تقويم الخطط، بل من تقويم المفاهيم، أن تُنقض هذه الاصطلاحات التي تسرق الدين، لا لأنها خاطئة لفظًا، بل لأنها تحمل حمولة شعورية تصوغ الإنسان على غير مقاييس السماء، أن نعود فنزن الإنجاز بميزان الله في الوحيين، لا بميزان المشاهدة، وأن نُعيد تعريف النجاح لا بأنه "أن يُبهَر بك الناس"، بل بأنه"أن تُقبَل عند الله".وأن نحرّر الطموح من سجنه الاستعراضي، ليرتقي إلى مقام "العبادة الخفية". |
ومن أبصر خطاب الوحي، أدرك أن المعركة مع الباطل لا تجري فقط في ميدان الأفعال، بل تبدأ أولًا في ساحة المفاهيم، حيث يُعاد تشكيل الإدراك، وتُلبّس الألفاظ بريقًا زائفًا، فتُقبل الفتنة لأنها سُمّيت "حرية"، ويُمدَح التمرد لأنه سُمِّي "تحقّقًا"، والقرآن لا يكتفي بإدانة الفعل، بل يفضح هندسة الشعور التي تقف خلفه، ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ }فاطر: 8{ فالسوء هنا لم يُبدَّل، لكنه زُيِّن، ولا شيء يزيّن الفعل في عين الإنسان كما تفعل اللغة، إذ لا تحتاج المنكرات إلى أدلة بقدر ما تحتاج إلى تغليفٍ بياني يجعلها لائقة، ويبلغ الأمر ذروته حين تصبح اللغة نفسها أداة طردٍ من دائرة الدين، كما في قول الله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ النساء: 94، فسلطة المصطلح تجعل الجاهل يتحوّل إلى قاضٍ على الناس، يطرد من رحمة الإيمان من شاء، ويُخرج من الملة بفتوى مصطلحٍ لا بميزان حق، فحذّر الوحي من إطلاق حكم مبنيّ على لفظٍ مؤوّل، لأن ذلك بابٌ عظيم من أبواب الفتنة، يفتح بكلمة. |
أما التحريف الأكبر، فقد جسّدته الآية العظيمة: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي ٱلْأَرْضِ قَالُوٓا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ البقرة: 11. فهاهنا لا يقع الإفساد خفية، بل يتزيّا باسم الإصلاح، فالمعضلة ليست في الحدث، بل في المعجم الذي يُشرعنه، ويفرضه على الوعي كقاعدة تفسير، وهكذا، يعلمنا القرآن أن الانحراف الأول هو انحراف الكلمة، وأن المفهوم المسموم إذا استقر في اللغة، أعاد صياغة الحياة من جديد، باسمٍ نبيل، وحقيقةٍ منحرفة. |
ففتنة المفاهيم ليست لعبة ذهنية، بل فتنة قلبية، تُعيد تشكيل الاتجاهات، فيتحوّل المُتسلّط إلى "قدوة"، والمُظلوم إلى "منبوذ"، ولا يُكشَف زيف هذا التبديل إلا حين ينطق ميزان النبوة، ومن أعجب ما قصّه الوحي المحمدي، ما رواه النبي ﷺ عن الطفل الذي نطق في المهد، ففصّل بين الظاهر المزيَّن، والباطن المزكّى فقال: لَمْ يتكلَّمْ في المهدِ إلَّا ثلاثةٌ: وبيْنَما امرأةٌ في حِجْرِها ابنٌ تُرضِعُه إذ مَرَّ بها راكبٌ فقالتِ : اللَّهمَّ اجعَلِ ابني مِثْلَ هذا الرَّاكبِ فترَك الصَّبيُّ ثَدْيَ أُمِّه ثمَّ أقبَل على الرَّاكبِ ينظُرُ إليه فقال: اللَّهمَّ لا تجعَلْني مِثْلَ هذا الرَّاكبِ ثمَّ مُرَّ بامرأةٍ تُرجَمُ فقالتِ المرأةُ: اللَّهمَّ لا تجعَلِ ابني مِثْلَ هذه الأَمَةِ فترَك الصَّبيُّ أمَّه ثمَّ أقبَل على الأَمَةِ ينظُرُ إليها فقال: اللَّهمَّ اجعَلْني مِثْلَ هذه الأَمَةِ فقالتِ المرأةُ: يا بُنيَّ مَرَّ راكبٌ فقُلْتُ: اللَّهمَّ اجعَلِ ابني مِثْلَ هذا الرَّاكبِ فقُلْتَ: اللَّهمَّ لا تجعَلْني مِثْلَه ومُرَّ بهذه الأَمَةِ تُرجَمُ فقُلْتُ: اللَّهمَّ لا تجعَلِ ابني مِثْلَ هذه الأَمَةِ فقُلْتَ: اللَّهمَّ اجعَلْني مِثْلَها: قال: يا أمَّاه إنَّ الرَّاكبَ جبَّارٌ مِن الجَبابرةِ وإنَّ هذه الأَمَةَ يقولونَ: سرَقَتْ ولَمْ تسرِقْ ويقولونَ : زَنَتْ ولَمْ تَزْنِ وهي تقولُ: حَسْبي الله.[7] |
سُلطة المفاهيم |
ثمّة أوثان لا تُنحت من حجر، ولا تُصاغ من ذهب، بل تُقام من مفردةٍ خاطئةٍ استقرت في الوعي، وتكاثفت حولها المعاني، ثم سجد لها بعض الناس دون أن يشعروا، وثنٌ لفظيٌّ ناعم الحواف، يتسلل إلى اللغة، فيعيد ترتيب المدارك، ويقود السلوك من غير قسر، ويُزيِّن للعبد ما ليس بجميل، ويُلبس القبيح رداء الفضيلة، وهذه الملاحظة الذكية لابن القيم في تعليقه على حديث النهي عن تسمية العِشاء بالعتمة: "وهذا محافظة منه صلى الله عليه وسلم على الأسماء التي سمَّى الله بها العبادات فلا تُهجر، ويُؤثر عليها غيرها، كما فعل المتأخرون في هجران ألفاظ النصوص، وإيثار المصطلحات الحادثة عليها، ونشأ بسبب ذلك من الجهل والفساد ما الله به عليم"[8] |
ومن أخطر ما يُشكّل الإنسان ليس فقط قراراته، بل اللغة التي يُفكر بها حين يتخذ قراراته، كما يقول الفيلسوف الألماني "Martin Heidegger". "فاللغةُ بيتُ الإنسانِ الذي إليه يَفرُّ هروبًا من صقيع الواقع، وفيه يعيد بناء الوجود بناءً ذاتيًّا مغايرًا للواقعِ الموبوء" والمفاهيم التي تُصنَع منها بوصلته الداخلية، فالمفردة إذا سكنت اللسان، واستوطنت الشعور، صارت دينًا صغيرًا يوجّه المرء من حيث لا يعلم، ويصوغ رؤيته لنفسه وحياته وربه. |
ولم يكتفِ ﷺ بذلك، بل أنذر أمته من فتنة أخطر تتجاوز المفردة إلى البنية المفاهيمية ذاتها، حين قال في الحديث الصحيح:"سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة." قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة." ألا ترى؟ ليست الفتنة في الكذب ذاته، بل في منحه لقب "الصدق" ولا في الخيانة ذاتها، بل في تسميتها "أمانة" ولا في الجهل ذاته، بل في تنصيبه ناطقًا باسم الجمهور. |
هندسة الوعي |
من أعظم صور اللطافة في الشريعة الإسلامية أنها لم تُنزِل الناس على قالبٍ واحد، ولم تُساوِ بين المختلفين في الطباع والهمم والقدرات، بل جاءت تعترف بتفاوت الخلقة، وتنوّع الميول، وتفاوت الطاقات، فجعلت لكلٍّ منهم بابًا إلى الله يناسبه، وميزانًا يبلّغه الفلاح من موقعه، ولذلك لم تُعرِّف الشريعة "الفلاح" بتعريفٍ واحد، ولا حصرته في صيغةٍ جامدة، بل جعلته واسعًا بقدر وسع الناس، ومرنًا بقدر تنوّع طرق العبودية، فلم تُضيّق على القلوب، ولم تجعل من طريق واحدٍ صراطًا للجميع. |
لكننا اليوم نعيش موجةً خفيّة من الهندسة الثقافية التي لا تُعلن حربًا على الدين، بل تُعيد تشكيل العقل بطريقة ناعمة، ومن أخطر صورها: أن تُختزل مفردة "النجاح" في نموذجٍ واحد، صاخب، صاعد، مرئي، له خطة خمسية، وجداول تحفيزية، وسيرة ذاتية تُجمَّل، وشاشة تُصدّر. |
وهذا الانحراف في المفاهيم، لا يقف عند دائرة الشعور، بل يتسرّب إلى القرارات اليومية الصغيرة، فيغيّر مسار الإنسان دون أن يشعر، فهو يستيقظ، ويقرّر، ويتقدّم، ويؤخّر، ويختار وظيفته، ومجاله، وشراكاته، بل علاقاته، على أساس مفهومٍ لم يقف عنده يومًا ليسأله: من أين جئت؟ من صاغك؟ |
وإذا استقرّ المفهوم، تحوّل إلى عقيدة شعورية، ترسم صورة الإنسان عن نفسه، وتُحدِّد نظرته إلى الناس، وتُعيد ترتيب معمار الأولويات، فينتهي به المطاف وقد أعاد ترتيب العبادة نفسها، لا على وحي السماء، بل على خطاب السوق، وتصحيح المفاهيم ليس مشروعًا لغويًا، بل مراجعة دينية صامتة، تبدأ حين يتوقف الإنسان أمام الكلمة المألوفة، ويسألها: ما حقيقتك؟ ولذلك لا يصحّ تصحيح المفهوم دون توسيع الرؤية، لهذا لا يُتصوّر بناء الوعي إلا بخروج الإنسان من الزاوية الضيقة التي أحاطته بها أدوات الإعلام والتهليل الدعائي، والالتفات إلى أن كل مصطلح حادثٍ، وكل لفظٍ وافد، هو ظنين حتى يثبت نفعه وبراءته. كما قرر الشاهد البوشيخي: "والحاصل أن المصطلحات الحادثة يجب أن توقفها الجمارك عند الاستقبال في حدود الأمة الحضارية للسؤال والتثبت من حسن النية ودرجة النفع والملائمة للهوية فالمصطلح الوافد في العلوم الإنسانية ظنين حتى تثبت براءته، والمصطلح التراثي في هذا الشأن له الأسبقية والأولوية على غيره متى وجد"[9] ولذا، لم يكن الدفاع عن اللغة يومًا حنينًا إلى الماضي، بل صيانةً للمفاهيم من التزييف، وللإيمان من التحريف. |
وهذا جزء من البلاء الأكبر الذي بثّه الخطاب العالمي الجديد: أنه لا يكتفي بإعادة تعريف النجاح، بل يعيد تعريف الإنسان، فيُربّى الفرد على الفردانية المطلقة، وتعظيم الأنا، وفكّ روابطه بالمجتمع، حتى تصبح الأم ترى أولادها عبئًا على “تحقيق الذات”، وتُلقَّن أن النجاح لا يكتمل إلا بالتحرّر من الأمومة، ومن الرجل، ومن البيت، لأن "التنمية" لا تُوزَّع في غرف التربية، بل في قاعات الشركات، وهكذا، يُعاد تشكيل الأمة عن طريق مفردات لا يُنتبه لها، ويُفكك العقد الاجتماعي باسم “التمكين”، ويُزيَّن الهروب من الوظيفة الكبرى للمرأة باسم “التحقّق”. |
ومن جذور غواية المفاهيم في العقل المعاصر: التمركز حول الذات، إذ حين تتضخم الأنا، وتُصبح الذات هي مركز التحليل، وغاية المسار، ومصدر التقييم؛ ينقلب التديّن إلى تحسين للصورة، ويتحوّل النجاح إلى مرآة إعجاب داخلي، وتُصبح كل حركة وكل منجز، فرصةً جديدةً لإعادة تدوير الذات في محاريب الإعجاب الخفيّة، والمُلفت أن هذا الانهماك في الذات لا يُنتج صفاءً، ولا يمنح راحة، بل يفتح في النفس ثقوبًا من الضيق والاضطراب. وقد كشف الباحث جون-لويس مونستاس في كتابه "التحرر من الذات"، عن أثر هذا التمركز الأنوي في توليد الاكتئاب، إذ أجرى دراسة على مشاركين طُلب منهم تدوين يومياتهم لمدة ثلاثين يومًا، ورصدوا خلالها مشاعرهم وتجاربهم ولغتهم المستخدمة في وصفها، فالنتيجة كانت مدهشة: أولئك الذين يستخدمون تعبيرات تتمحور حول الذات، مثل "أشعر بالإرهاق"، "أغضبني هذا"، "أقلقني ذاك"، كانوا أكثر عرضة لأعراض القلق والاكتئاب، مقارنةً بأولئك الذين عبّروا عن يومهم بلغة خالية من تعظيم الذات أو اجترار المشاعر حولها، وتبين أن الحديث عن الذات يعمّق التعلّق بها، ويُعيد إنتاج الأوجاع من خلالها. وهذا يفتح لنا بابًا قرآنيًّا بديعًا؛ فإن أعظم ما يحرّر الإنسان من عبودية الذات هو التعلّق بالله، والخروج من مركزية الأنا إلى مركزية العبودية، كما قال تعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، هذه الآية تُخرج الإنسان من ضيق الذات إلى سَعة العبودية، وتعيد صياغة المعنى الجوهري للوجود: أن كل شيء – حتى الحياة والموت – لا يعود إليك، بل إلى ربّك. |
موازين النجاح |
وها نحن نرى كيف أعادت الثقافة الحديثة نحت أوثانها الجديدة لا في المعابد، بل في المعاجم، فصار يُقدس "النجاح"، ويُطارد "تحقيق الذات"، ويُخطب ودّ "التأثير"، وتُوزَن النفوس بميزان "الكفاءة"، وتُبهر القلوب بمصطلحات منمّقة تُقدَّم للعقل بوصفها طموحًا، وهي في حقيقتها تيهٌ ناعم، وهكذا، تبدأ سلسلة الانحراف من لفظٍ مستورد، أو اصطلاحٍ مسموم، ثم يُحشى بما شاء له الإعلام من المعاني، ثم تُعاد تربيته في العقول، ثم يُزرع في الخطاب التربوي، ويصبح معيارًا وميدانًا وغاية. |
وهكذا يُنتَزع الإنسان من مفهوم الفلاح، ويُغرس في مفهوم "الإنجاز"، لا لأنه قرأ كتابًا ضالًا، بل لأنه لم ينتبه أن المصطلحات تُشكّل دينه أكثر مما يظن، وإن أوثق أعمال المصلحين عبر التاريخ لم تكن فقط في الخُطب، بل في مشاريع المفردات والمفاهيم، ابن تيمية في تفكيك مصطلح "التحسين والتقبيح"، والغزالي في بناء مراتب السلوك ومقامات التزكية، وابن القيم في تحليل دوافع النفس وإراداتها، كلهم أعادوا تقويم المعنى قبل السلوك. |
وفي ظل الحضارة التي جعلت القيمة مرهونةً بالمال، والاعتبار مشروطًا بالمقابل، تسلّل إلى الوعي الحديث معيارٌ جديدٌ للنجاح لا يُقاس بالإخلاص ولا بالفعل النافع، بل بما يدخله في الحساب البنكي، أو يُكتب في السيرة الذاتية، أو يُدوَّن في خانة “المردود”، ومع هذا المعيار المادّي المستحكم، بدأت المفاهيم تُعاد هندستها في أعماق الشعور، فصار يُنظر لكلّ عملٍ لا يأتي بربحٍ ماديٍّ مباشر على أنه جهد مهدور، أو وظيفة مؤقتة في انتظار "التحقّق الحقيقي". |
كان الشاب إذا قام على أهله، عدّ البر فضيلة، ورعاية البيت رجولة، سُمِّي فالحًا في الناس، أما اليوم، فتُعاد صياغة هذه القيم في وعيه حتى يُخيّل إليه أن الوفاء تأخّر، وأن التضحية ضعف، يُرمق بقاؤه في بيت والده كمرحلة مؤقتة، لا تليق بالطامحين، ويُهمّش عطاؤه لأنه لا يُدرَج في سيرة ذاتية، مع أن النبي ﷺ قال: "من خرج يسعى على ولده فهو في سبيل الله، وعلى أبوين شيخين فهو في سبيل الله، وعلى نفسه يعفّها فهو في سبيل الله." فمقام العمل لأجل الأهل ليس تأخّرًا في سلم الحياة، بل سعيٌ مرفوع في طريق الله. |
وهكذا أصبح عمل الأم في بيتها، وتفرّغها لتربية أبنائها، وحرصها على لمّ شمل الأسرة، يُصوَّر وكأنه تضحيةٌ تُقدَّم للآخرين على حساب الذات، صارت تُقنِعها الحملات – دون أن تشعر – أن النجاح يكمن في الوظيفة، وأن الإنجاز يُقاس بخارطة الطريق المهنية، أما سهرها على الأبناء، وعنايتها بتفاصيل البيت، واحتسابها للعشرة ودفء العلاقة، فكلّ ذلك خارج دائرة "تحقيق الذات"، لأنه بلا مقابل. وبهذا المعنى المادّي المبتور، يقتص أجمل ما في المرأة من مشاعر التضحية، وصدق العطاء، ويُعاد صياغته في قالب الشكّ والندم، ويُقال لها: أنت تعملين للناس، لا لنفسك! |
وليس المقصود هنا إقصاء الجهد المادي، ولا التزهيد في الطموح الفطري، بل إن الله جلّ وعلا خاطب النفوس بفطرتها، فجعل من أعذب الوعد قوله سبحانه في الحديث القدسي: «وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ»، فحبّ الذكر وحضور الاسم في الملأ جزء من فطرة الإنسان، لكن العطب أن يتحوّل هذا الميل الفطري إلى غايةٍ عليا، وأن تُختزل رحلة الإنسان كلها في أن يُشار إليه بالبنان، أو أن يُدرَج في قائمة "المؤثرين"، ولو كان ما يؤثّر به فارغًا من المعنى، منزوعًا من الإخلاص. |
وقد لخّص النبي ﷺ هذه المفارقة المؤلمة حين قال: «ما ذئبانِ جائعانِ أُرسلا في غنمٍ، بأفسدَ لها من حرصِ المرءِ على المالِ والشرفِ، لدِينه»، فليست العبرة بالشهوة، بل بتحوّلها إلى حرصٍ يقود السلوك ويُفسد المقصد، ذلك أن الشهوات – حين تُركَن إلى أصلها الفطري – قد تُنتج نفعًا، لكن إذا استقرت على العرش، صارت مَعبودًا، وهدَمت ما بنيت، وإن بدا ظاهرها جذّابًا. |
وليس من الإنصاف أن تُصاغ الأنظمة والتشريعات والبرامج تحت شعارات "تمكين المرأة" دون أن يُفحص أثر ذلك في ميزان الطمأنينة والصحة النفسية، إذ الحقيقة التي لا تُقال كثيرًا أن معدّلات سعادة النساء في العقود الأخيرة – رغم كل حملات “التحرير” – قد انخفضت بصورة مقلقة، لا على مستوى الشعور الذاتي فحسب، بل حتى مقارنة بالرجال. ففي دراسة موسّعة أعدّها باحثان من جامعة بنسلفانيا بعنوان "The Paradox of Declining Female Happiness"، توصّلا إلى أن النساء كنّ في سبعينيات القرن الماضي أكثر سعادة من الرجال، لكن هذا الفارق تلاشى، بل انقلب لصالح الرجال، رغم التقدّم المادي والوظيفي والاجتماعي الذي تحقق للنساء خلال العقود الأخيرة، وهو ما يكشف أن كثيرًا مما يُقدَّم بوصفه "حقوقًا" إنما هو أعباء إضافية نُزعت منها البركة، وكُسرت فيها الفطرة، وغُذّيت المرأة على التذمّر من مقامٍ جُبلت له، والندم على وظيفةٍ هي في حقيقتها من أشرف العبادات.[10] |
ولقد صار النجاح في الوعي المعاصر يُقاس بسلّمٍ واحد لا يعبأ بالخلفية ولا بالسياق، من لم يصعد درجته في اللحظة الراهنة يُعدّ ساقطًا، ولو أنه كان أمينًا في حق ربه، باذلًا في بيته، مصلحًا في خلَفه، أصبح معيار التفوّق محصورًا في المرتبة الوظيفية، أو الشهرة الاجتماعية، أو المكاسب الفورية، وغُيِّبت مفاهيم النجاح الأخروي التي يزنها الشرع ولو تأخرت في أعين الناس. |
العقلية الأخروية لها منطق آخر؛ فـ"الفوز" عندها لا يُقاس بالبقاء في القمة، بل بالثبات على الصدق، ولو في قاع التقدير البشري، النجاح عندها قد يكون في الإخفاق، والفلاح قد يختبئ خلف ظلال الخسارة، ولذا قال ﷺ كما في صحيح مسلم: "ما من غازيةٍ أو سريةٍ تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجّلوا ثلثي أجورهم، وما من غازيةٍ أو سريةٍ تُخفق وتُصاب إلا تمّ أجورهم."[11] |
فكم من عملٍ ناجح في ميزان السماء، محسوب في الأرض من الهامش، وكم من امرأة تُحسن التبعّل لزوجها، وتغرس القيم في أولادها، وتقوم على بيتها بكل صدقٍ وخفاء، هي في سجل الله من المفلحات، وبرّ الوالدين نجاح في سنّ الشباب، وصناعة الأثر في الأبناء نجاح متجدد في قلب كل أم، والإخلاص في أبسط المهام نجاح عند الله، وإن لم يُكتب في تقرير إنجاز، لأن النجاح – كما تُقرّره السماء – لا يُقاس في "يوم النتائج"، بل في ﴿يوم تُبلى السرائر﴾، حيث تظهر المراتب الحقيقية، وتُوزن النيات، وتُكشَف المقامات. |
وحين يُنتزع من قلوب الناس الإيمان بأن الرضا بالله وبقسَمه وباختياره هو ذروة التحقّق، وحين يُعاد تشكيل الشعور العام على أن الإنسان لا ينجح إلا إذا عبّر عن ذاته وصارع المجتمع وتجاوز بيته، فإن هذه الثقافة – وإن تزيّنت بمصطلحات التحرر – لا تنتج إلا فردانية مقيتة، وانكفاءً على الذات، وقطيعةً مع المحيط، وانحدارًا إلى أنماط من البخل الوجداني، والخصام الأخلاقي، تحت لافتة "حقوقي أولًا"، و"نفسي أهم". |
وهكذا، تُعاد صياغة النجاح في وعي المسلم دون أن يدري، وتُسلَب منه مفاهيم الرضا، والعبودية، والستر، ويُلقّن أن كل ما لا يُدِرُّ مالًا لا يُسمَّى "إنجازًا"، وكل ما لا يلفت الانتباه لا يُعدّ "تحقيقًا للذات". وبهذا يُنتزع من قلبه ميزان الفلاح، ليُستبدل بميزان المردود، ويُنسى أن أعظم الرضا الإلهي يسكن في عملٍ خفيّ، لا يُدوَّن في سير ذاتية، بل في صحف الملائكة. قال ﷺ: "إن الله يحب العبد التقيّ، الغنيّ، الخفيّ"، لا يطلب وجه الناس، بل وجه ربه، وفي الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه..."، فمحبة الله تُنال بخطى ساكنة، لا تصفيق معها ولا ظهور، لكنها تفتح أبواب السماء. |
كيف تشوّهت المفاهيم؟ |
ليست المشكلة الكبرى في المفاهيم الخاطئة التي قفزت إلى وعينا، بل في المفاهيم الغائبة التي لم تتجذّر فيه من الأصل، فتُرك العقل المسلم فارغًا، حتى جاء غيره فملأه، فالوهم لا يثبت إلا على أرضٍ خاوية، والباطل لا يعلو إلا إذا غاب صوت الحقّ، ولقد غابت عن خطابنا مفاهيم مركزية في النظر إلى الحياة والعمل، مثل مفهوم تقاسم المسؤوليات والأدوار، ومفهوم التوكل المقترن بالسعي، غابت هذه المعاني، أو نُزعت من مقامها التربوي، فانخلع الفهم من جذره، وصار الناس يطلبون من كل حركة ثمرةً سريعة، ومن كل جهد نتيجةً مرئية، وكأن العمل لا يُحسب إلا إذا أثمر، وكأن القيمة لا تُمنح إلا إذا احُتفي بها. |
لكن الوحي رسم ميزانًا آخر، ميزانًا لا يربط بين العمل والنتيجة، بل بين النية والتكليف، ولهذا جاء في الحديث العظيم:" إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها.[12]" أيّ معنى أعظم من هذا؟ قيام الساعة، تزلزل الكون، وخراب العالم، والإنسان مكلَّفٌ في تلك اللحظة أن يغرس فسيلة يعلم يقينًا أنه لن يرى ثمرتها، لكنه يُؤمر بالعمل، لأنه عبد، لا لأنه يتوقّع نتيجة. |
هذا المعنى – في عصر النتائج والتقارير والمقاييس – أصبح غريبًا، بل مستهجنًا، لأن المفاهيم المهيمنة على العقل المعاصر رُبّيت على أن الإنسان قيمةٌ بقدر ما ينتج، وأن القيمة تُقاس بمقدار ما تَظهر، لا بمقدار ما تَصدق، ومن هنا، بدأ الانحدار حين غابت المفاهيم، أوغلت الأمة في روح انهزامٍ خفي، فأصبحت تنظر إلى التقدّم الغربي لا بميزان المبدأ، بل بعين الشعور بالنقص، ومن شدّة تراجع النتاج العلمي والثقافي والفكري لدينا، أصبح مجرد "التنظيم" إنجازًا، وأصبحت أعيننا تتعلّق بأي منتجٍ غربي بوصفه أقرب إلى الصواب، وأوثق من التصورات المستمدة من الوحي، وهذا بحق مؤلم. |
ثم تسلّلت مفاهيم الإنجاز والنجاح وتحقيق الذات والطموح من الثقافة الغربية، بما تحمله من فردانية ومادية وهوسٍ بالذات، ثم حاول بعض صناع الخطاب المسلم أن "يُأسلم" هذه المفاهيم، فجعلها تبدو مألوفة في ظاهرها، لكنها ما زالت في جوهرها تحمل منطق السوق، لا منطق الإيمان، وقد حذر ابن تيمية من هذا التلاعب اللفظي والبحث له عن سند شرعي، يقول رحمه الله: "ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث فيريد أن يفسّر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها "[13]. |
وصار يُحتفى بالرجل المتسلق سلّم الإنجاز المالي، الذي لا يعرف السكون، ولا يأبه لدوائر البرّ أو معاني القرب، وصارت القيم تُقاس بما حقّقه من توسّع وظيفي أو شهرة إلكترونية، لا بما غرسه من أثر في بيته، أو زرعه من طمأنينة في قلب والديه، وغدا الرجل الذي يرضى بالاستقرار قرب والديه، ويجعل أولويته صناعة بيت صالح، يُوصف – بصمت خفي – بأنه "غير طموح"، أو أنه "ضيّع فرصته". بينما الذي يهيم بين المدن، ويسعى لأعلى المناصب دون اكتراث للثغور القريبة، يُرفع في نظر الخطاب المعاصر على أنه "ملهم"، حتى لو خسر نفسه في الطريق، وصار ينظر للمرأة العاملة في ميادين الرجال على أنها "ملهمة" و"رائدة"، وتُسوّق صورها بالحجاب الكامل على أن هذا هو النموذج المتوازن، وكأن مجرد التزام الظاهر كافٍ لتبرير انحراف البوصلة، وكأن المرأة إن لم تتسلّق المراكز، وتنافس الرجال في مواضعهم، وتثبت للعالم أنها "شيء" في منظومته، فإنها على الهامش! وقد نبّه إلى هذا الانقلاب المفهومي الفيلسوف الألماني وعالم النفس إريك فروم في كتابه الامتلاك أو الوجود حين قال: "أصبح الفرد يعيش ذاته كبضاعة، ولا يرى قيمته كقيمة استعمال، بل كقيمة تبادل. لقد صار بضاعة في سوق الشخصية، وصار مبدأ تقويم البشر هو ذاته مبدأ تقويم البضائع، مع فارق واحد: أن الأول يبيع شخصيته، والثاني يبيع منتجًا. وفي الحالتين، ما يحسم القيمة هو قابلية التبادل. والنجاح لم يعد متعلقًا بجوهر الإنسان، بل بالطريقة التي يقدّم بها نفسه للسوق." |
وهذا جوهر البلاء: أن يُعاد تشكيل المسلم لا بحسب قيمه، بل بحسب ما يظنّ أنه يجب أن يكون عليه حتى يُحترم من الآخر، لم نعد نسعى إلى النجاح كما يريده الله، بل كما يُعرّفه النموذج الغربي. لم نعد نطلب التمكين من الله، بل نطلب أن نُشبه غيرنا، لم نعد نطارد "حسن العاقبة"، بل نبحث عن "اللحظة المبهرة". وتناسينا أن الكرامة ليست أن يُقال عنا إننا تقدّمنا، بل أن نثبت حين يُفتن الناس، ونصدق حين تُوزَن القلوب، ونعبد الله ونحن في الظل، لا في بؤرة الضوء، ولقد شوّهت المفاهيم حين استُبدل مرجعنا، وسكتنا عن غياب بعض الأصول التربوية من مناهجنا وخطابنا، فدخل غيرها من كل باب، وإذا لم نُعد بناء الوعي على مفاهيم الوحي، فسنظل نُسلِم عقولنا لألف لفظٍ لامع، لا نعلم أنه يُسلبنا من الله ونحن نحسب أننا نحسن صنعًا. |
فيا صاحبي، لا تسأل فقط: ما المفاهيم التي أؤمن بها؟ بل اسأل قبل ذلك: من علّمني إياها؟ ومن هندس لي هذا المعنى عن الذات، والعمل، والطموح، والمرأة، والحياة؟ فإن وجدت أن المفاهيم التي تحكم اختياراتك ليس مصدرها الوحي، بل الإعلام، وليس مرجعها الدين، بل الانبهار، فاعلم أن التشوّه لا يبدأ من السلوك، بل من تعريفك الباطني لكل شيء، ذلك أن الصورة حين تتكرّر، تُصبح تشريعًا خفيًا، وتتحوّل من مشهد عابر إلى معيار ضمني، ووسائل الإعلام – كما يقول نعوم تشومسكي وصاحبه إدوارد هيرمان في كتاب "صناعة الموافقة" (1988) – لا تصنع أخبارًا فقط، بل تصنع نظامًا أخلاقيًا متكاملاً، حين تُقدّم نماذج معيّنة على أنها "ملهمة" دون غيرها. وهكذا، تستقر الصورة التي تُكرَّم، ويتضخّم الوصف الذي يُمجَّد، وتُحفظ العبارة التي تُكرَّر، حتى تُصبح المفاهيم غير قابلة للمراجعة، لأنها لم تعد رأيًا يُناقَش، بل إحساسًا يُعتقَد، ومن هاهنا يبدأ الإصلاح، لا من إعادة ترتيب الخيارات، بل من إعادة تقويم المعجم الذي في القلب. |
وللحكاية بقيّة... |
[1] نحو صياغة معاصرة للمصطلح المستقبلي، ص 716. |
[2] المصدر: صحيح ابن حبان | رقم الحديث : 5832. |
[3] الإفصاح عن معاني الصحاح ٦/١٠٦ — ابن هبيرة (ت ٥٦٠) |
[4] درء تعارض العقل والنقل [1/173] |
[5] فتح المجيد، عبد الرحمن بن حسن [2/487]. |
[6] محمد بن عبدالكريم الجزائري: لغة كلُّ أمة روحُ ثقافتها، (د ط)، دار الشهاب، باتنة، الجزائر، 1989، ص 9، 10. |
[7] صحيح ابن حبان | رقم الحديث: 6489 |
[8] زاد المعاد [2/320]. |
[9] نظرات في المنهج والمصطلح، الشاهد البوشيخي ص [54]. |
[10] [Betsey Stevenson & Justin Wolfers, “The Paradox of Declining Female Happiness”, University of Pennsylvania, 2008] |
[11] رواه مسلم| حديث رقم 1906 |
[12] أخرجه البخاري في الأدب المفرد |
[13] مجموع الفتاوى [12/107] |
التعليقات