غواية المفاهيم 2 |
24 يوليو 2025 • بواسطة توّاق • #العدد 10 • عرض في المتصفح |
بين ضلال النجاح وظِلال الفلاح
|
|
![]() |
وهنا يعود الحديث لاستكمال ما سبق بيانه... |
الاختزال المفاهيمي |
حين أُخضعت مفردة "النجاح" في زمننا المعاصر لمعايير السوق وثقافة الظهور، بدأ المسار يزيغ من الداخل، وبدأت مفاهيم الناس تنقلب في صمت دون مراجعة، فصار النجاح في الوعي الجمعي عَلمًا منصوبًا فوق كل شهرة، وصدى لكل صورة، وعنوانًا يُعلّق على كل ثراء، واختُزل التحقّق الإنساني في سطوة المال، أو بريق المنصة، أو صورة المرأة المستقلة التي تخلّت عن الوظيفة الفطرية لتلحق بركب الإنجاز المُعلَّب، وهكذا تسلّل الاختزال المفاهيمي ليختطف مفهوم الفلاح، ويستبدله بمعيار أرضيّ هشّ، لا يزن شيئًا في الملأ الأعلى، ومن يطالع فكر علي عزت بيجوفيتش في كتاب الإسلام بين الشرق والغرب، يتلمس هذا المعنى في كلامه "إن الحضارة المادية تقيس كل شيء بالكم، بينما الدين يقيس كل شيء بالكيف، فهناك تناسب عكسي بين الكم والكيف في حياة الإنسان". |
وفي قلب هذا الانهيار البطيء، يقف الوحي ثابتًا، يقيم الميزان، ويردّ الكلم إلى مواضعه، فيقول النبي ﷺ: "قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه[1]"، وفي خِضَمِّ البحث عن الأثر الظاهر، قد يُفتح للعبد باب الطاعة في صورته الظاهرة: عمل، إنجاز، حركة، شهرة، غير أن باب القبول عند الله لا يُفتح إلا للقلب المخلص، وللسعي المتخفّي، وللنفس التي رجَت الله خفية، وصدق ابن عطاء الله السكندري في حِكمه إذ قال: "ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك الذنب فكان سببًا في الوصول" فليس كل سعيٍ مقبولًا، ولا كل أثرٍ مباركًا، وإنما الميزان عند الله في خفّة القلب من علائق الهوى، لا في كثافة المدح بين ألسنة الورى. |
غابت مفردة السعي من الخطاب اليومي، وغابت معها طمأنينة العاملين، وبقيت فقط لغة "المنجز"، وكأن معنى الإنسان في نتيجةٍ تُعلن، لا في عبادةٍ تُخبّأ في سجلات الغيب، لكن القرآن يعيد ترتيب المشهد من جديد: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى﴾، فالوزن ليس في الحصاد، بل في الزرع، والتقييم ليس بعدد الإنجازات، بل بموقع القلب منها، والحساب لا يُبنى على المخرجات، بل على نية التوجّه ومسار الزكاء. |
وإن الأمة اليوم تحتاج أن تعود إلى هذا الميزان، لا فقط لتطمئن القلوب، بل لتُصحّح المسير، أن تدرك أن نجاح الشاب في ضبط عينه عن الحرام يُعدّ في الميزان أعظم من ألف متابع، وأن انكباب المرأة على أطفالها تربيةً وحنانًا يُعدّ إنجازًا في ديوان الملأ الأعلى، وأن إحسان الرجل لأبيه المسنّ باب من أبواب التحقق، وأن سعي الفتاة لتزكية نفسها وضبط لغتها وسلوكها في الخفاء، أكبر بكثير من شهاداتٍ تُعلّق، أو أوسمةٍ تُهدى، لكنها لا تزن في الآخرة جناح بعوضة. |
ولذلك، فإن أول إصلاح للمفاهيم هو أن يُعاد تعريف "النجاح"، لا بحسب ما يُقال في الخارج، بل بحسب ما يُكتب في اللوح، أن يُستبدَل محراب التصفيق بـمحراب الخفاء، وأن تُبدَّل مفردة "الإنجاز" من كونها رقمًا في نشرة، إلى كونها لحظة صدقٍ يُوزن بها القلب. |
من زكّى قلبه، فقد أنجز، من أصلح نيته في عمله، فقد بلغ، من سعى في نشر خير، ولو بلغ واحدًا، فقد أثّر، وقد قال النبي ﷺوقد قال النبي ﷺ: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من حُمر النعم"2 |
هذه هي الربانية في التعريف، لا تستمد معناها من الواقع، بل من الغيب، ومن عاش على هذا الميزان، لن تضيع أيامه، ولن تضعف خطاه، لأنه ما وُزِن يومًا بعين الناس، بل بكفّ الحق الذي لا يضيع فيه مثقال ذرة، وما أعذب أن يستحضر المسلم هذه الحقيقة في كل يوم، فيحيا بشعورٍ دائم بالإنجاز، لا لأنه فعل شيئًا عظيمًا، بل لأنه سعى في وجهةٍ صحيحة، وفي نيّةٍ مخلصة، وفي محرابٍ لا يعلمه إلا الله. |
وفي صفحات كتب التراجم، حيث لا يُسطَّر إلا ما يُعدّ من مناقب الكبار، يمرُّ بك الذهبي في "سير أعلام النبلاء" ليذكر عن طَلق بن حبيب "وكان طيّب الصوت بالقرآن، برًّا بوالديه." هكذا، في سطرٍ واحد، يضع برَّ الوالدين إلى جوار طِيب التلاوة، وفي سياق الحديث عن علمه وزهده وروايته، كأنّ البرّ لا يقلُّ قدرًا عن العلم، ولا دون الزهد في الرفعة، بل هو عندهم من كمالات النفس، ومن علامات التوفيق الإلهي التي تُثبَّت في سجلّ السيرة. |
لم يكن السلف بحاجة إلى تعريف جديد للنجاح، ولا إلى صناعةٍ لفظية تُجمِّل المفاهيم، لأنهم كانوا يرون بصفاء الفطرة أن الإنسان يُوزَن أول ما يُوزَن بمقدار برّه، فإن كان بارًّا، كُتب في الناجحين، وإن قصّر، خَفَّ ميزانه مهما علا صوته بالعلم، أو ذاع اسمه في الناس، كانوا إذا عدّوا مناقب الرجل، ابتدؤوها ببرّه، لا بمنصبه، وإذا ذكروا فضائله، ختموها بخدمته لوالدته ولأهله، لا بعدد تلاميذه، فالبرّ كان عندهم عنوانًا على نُبل النفس، ومفتاحًا من مفاتيح القَبول، وسِرًّا من أسرار التوفيق. |
أما في زماننا، فقد غابت هذه العدسة، وأُبدلت بأخرى تُكبّر الظاهر، وتغفل عن الجذور، فكم من شابٍّ اليوم يسهر على راحة أمّه، ويَركب التعب في خدمة أبيه، يُداري شيخوخته، ويَسمع شكواه، ويحنو بكفّه المتعبة، ثم لا يُذكر اسمه في قائمة "الناجحين"، والمؤلم أن الخطاب الجديد نجح في "تجفيف" هذه المعاني من الوجدان، حتى صار الشاب البارّ يخجل أحيانًا أن يُفصح عن مكثه الطويل في خدمة والدته لأنه لا يبدو "إنجازًا"، ومن مكث في مدينته قرب أبيه يُوصَف – بصمتٍ ساخر – بأنه لم يُحقّق ذاته بعد، كل ذلك لأن برّ الوالدين، في العُرف الحديث، لا يُسجَّل في السيرة الذاتية، ولا يُدرِّ عائدًا ماليًا، ولا يُصنَّف كـ"مشروع مؤثر" لكنّ الميزان عند الله غير ذلك، الميزان الإلهي يُرجّحه موطن الخفاء، ويُثقله صدق العبد في مواضع البرّ، والبارّون عند الله في طليعة الناجحين. |
التحول العنيف |
حين يُقلّب الإنسان صفحات خطابه الداخلي، ويتأمل سؤال “النجاح” الذي يطارده، لا يلبث أن يُصاب بالحيرة: ما الذي أُريد بالضبط؟ أهو الوصول أم التحول؟ أهو التقدير العلني أم الطمأنينة الخفية؟ إن لفظ النجاح ذاته، في ظل هيمنة التصور الإنتاجي الغربي، لم يعد يحمل معناه بل فرضَ معناه، لم يعد سؤالًا مفتوحًا، بل أمْلَى على الوعي إجابة جاهزة: أن تنجح يعني أن تصعد، أن تُرى، أن تُنتج، أن تتفوّق على غيرك، أن تحقق حضورًا محسوسًا يُدوَّن ويُعرض ويُصفَّق له، حتى غدا الناس لا يبحثون عن النجاح، بل عن صورته، لا عن أثره في النفس، بل عن صداه في الجماعة، وهذا التحوّل العنيف في تعريف النجاح لم يكن مجرد خطأ معرفي، بل كان انزلاقًا وجوديًا زحزح ميزان القيمة من الداخل إلى الخارج، ومن النية إلى النتيجة، ومن الصدق إلى الصدى، يشير هربرت ماركيوز، في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد إلى أنه "قد صار الإنسانُ يعرِّف ذاته بما يُنتج لا بما يكون، ففقدَ قدْرته على التوقُّف عن الجري في الساقية". |
لكن الخطاب القرآني حين يريد أن يحدّث المؤمن عن الغاية لا يستخدم لفظ “النجاح”، بل يستعمل لفظًا أثقل، أرسخ، أشمل: “الفلاح” والفلاح ليس مرحلةً زمنية ولا مقياسًا كميًا، بل هو مقامٌ إيماني، تتخلله البكاءات الصادقة، والنيات الغير معلنة، والجهد الخفيّ الذي لا يُرى في الدنيا، لكنه يُزِن في الآخرة جبالًا، الفلاح عند الله ليس أن تنّظر لك الجماهير، بل أن تذكرَك الملائكة، ليس أن تَسِمك المؤسسات بالجدارة، بل أن يَسِمك الله بالقبول، ليس أن تنتج كثيرًا، بل أن تصدق كثيرًا، لأن المعيار عند الله لا يُبنى على ما حصل، بل على ما وُجِّه إليه القلب. |
وفي ضوء هذا التزييف المفاهيمي الذي اجتاح "تحقيق الذات"، يمكننا أن نستحضر ما كشفته الباحثة جينيفر ريندفلايش[3]حين حلّلت ظاهرة ما سمّته "إنتاج تحقيق الذات بوصفه منتجًا اجتماعيًا" في مجتمعات الاستهلاك المعاصرة، فقد بيّنت من خلال دراستها لخطابات رموز الروحانية الحديثة كيف أن الطموح الروحي ذاته، الذي كان يومًا دربًا إلى الإخلاص، قد صار يُعبأ ويُغلّف ويُسوق، ليتحوّل إلى سلعة معنوية تُستهلك كما تُستهلك قنينة ماء أو بطاقة نادي رياضي، كل ذلك ضمن سوق ضخم يتاجر بالقلق الوجودي للناس، ويقدّم لهم طمأنينة مغشوشة، مشروطة ببطاقة ائتمان!. |
ولذلك فإن الذين يتّبعون اليوم سُبل "التحفيز" و"إطلاق القدرات" و"استكشاف الذات" خارج ضوء الوحي، إنما هم في كثير من الصور يقعون ضحية لهندسة ثقافية تسوّق لهم "الروحانية" خاليةً من الإيمان، و"تحقيق الذات" منزوعًا من العبودية، وهذا الانقلاب الذهني العميق هو ما أنتج جيلًا يُرهقه شعور “عدم الكفاية”، رغم أنه في ظاهر الأمر ناجح، يُنجز، يُكرَّم، يُتابَع، لكنه في داخله هشّ، لأن النجاح الظاهري إذا لم يسنده معنى سماوي، بقي قلقًا، غير مكتمل، كأنه يلاحق كمالًا لا يُدرَك، وما ذاك إلا ثمرة طبيعية لخلل المفهوم؛ إذ حين يُقاس الإنسان بمرايا الجمهور، لا بميزان الغيب، يبدأ يشعر أنه لا يستحق ما ناله، وأنه يُخادع الجميع بصورة أنيقة لا تعكس حقيقته، فتتسلّل إلى قلبه متلازمة المحتال[4] وهو مرض نفسي، يشعر فيه المرء – رغم إنجازاته – بأنه "مزيف"، وأن نجاحه لا يعود إلى كفاءته، بل إلى الصدفة أو المجاملة، ويعيش تحت قلق خفي: أن يُكتشف في أية لحظة، هو لا يُشكّك في ذاته لأنه فشل، بل لأنه قاس نفسه على مفهوم نجاح مزيف، واستند إلى مرآة لا تريه إلا النقص، لأنه نسي أن الميزان الحق في السماء، لا في نشرات الأخبار ولا في أعداد المتابعين. |
أما الناجح في ميزان السماء، فهو من صدق في موضع لا يراه أحد، واحتسب في خفاء، وأخلص فلم يعلم به أحد، وهو مطمئنّ، لأنه لا يُقيم روحه على مديح الناس، بل على رجاء الله، ولا يكتب أهدافه لينظر الناس، بل ليعرضها على من لا تخفى عليه خافية، وكان أيوب السّختياني [5]يُناجي ربّه في الظّلمة، فيقوم اللّيل كلّه خفيًّا لا يشعر به أحد، فإذا اقترب الفجر رفع صوته وكأنّه قام لتوّه، يخاتل بليلِه نهاره، ويخفي نَشَره في طيّ كتمانه، لأنّ أهل الصدق يأنفون من شهرة الطاعة، ويَستترون بها كما يستتر العاصي بمعصيته، إيثارًا للإخلاص وخوفًا من آفة الرياء، وما لم يُعاد تعريف النجاح على قاعدة “الفلاح”، وما لم تُستعاد النية كميزان، فإن الناس سيظلون يركضون خلف صورةٍ تُلهثهم ولا ترويهم، ويقيسون أنفسهم على مرايا مشروخة. |
أغلال الطموح |
كان الأصل في الطموح أن يكون طاقةً داخلية يتوق بها الإنسان إلى معالي الأمور، وأن يكون منبعًا للحركة لا عبئًا على القلب، سُلَّمًا للترقي لا سلاسل تُقيّد الخطو، لكنه حين انسلخ عن المقصد، وارتدّ عن المعنى، واستُبدلت به الغاية، تحوّل هذا الطموح إلى هم مُزمّن جديد، فمن حيث أراد الإنسان أن يكون حرًّا بطموحه، استُعبد له، ومن حيث ظن أن الإنجاز يرفع من قدره، بات عبئًا يطارد به نفسه في كل لحظة، حتى لم يعد يعرف من هو، ما دام لم يُنجز شيئًا يُشار إليه بالبنان. |
يشير آلان دو بوتون في كتابه قلق السعي إلى المكانة، واصفًا اضطراب الطموح المعاصر: "لقد تحول الطموح في العصر الحديث من سعي نحو التميز إلى هوس بالتفوق، ومن رغبة في العطاء إلى إدمان على الإنجاز" ولقد انبعث هذا الفهم من رماد ثقافة الإنجاز الحديثة التي لا تُقيم وزنًا للباطن، ولا تُعير اهتمامًا للمقصد، بل تُصفّق لكل من ركض، ولو ركض إلى التيه، وتُكافئ كل من أنجز، ولو أنجز ما لا نفع فيه، وهكذا تحوّل الإنجاز من وسيلةٍ للقيام بالواجب إلى معيارٍ لوجود الذات، ومن أداءٍ يؤجر عليه العبد إلى هويةٍ لا يشعر الإنسان بأنه صالح للعيش إن لم يتلبّس بها. وبذلك، صار كثير من الناس يعيشون في ضغط داخلي دائم، كأنهم ملاحَقون بسوط غير مرئي، يُذكّرهم كل صباح أنهم متأخرون، أن غيرهم سبق، وأن العالم ينتظر منجزهم القادم، حتى في لحظات المرض والحزن والخسارة، يشعرون أن من حق الحياة عليهم أن يُنجزوا، ومن حق الناس عليهم أن لا يبطؤوا، ومن واجبهم أمام أنفسهم أن لا يرتاحوا، والمسيري عبد الوهاب في أوراق الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان يدندن حول هذا المعنى فيقول: لقد حوَّلت الحداثةُ النجاحَ من رحلةٍ داخلية إلى سباقٍ خارجي، ففقد الإنسانُ بوصلةَ المعنى. |
ولأن هذا القيد لا يُرى في المعصم، بل يُنسَج في الفكر، فإن الأسْر لا يُشعَر به في الخطو، بل في اختفاء الأسئلة، وهكذا، ينقلب الطموح من وقودٍ للهمة إلى قيدٍ للروح، ويضيق صدر العبد لا من فراغ الوقت، بل من امتلائه بما لا يرضي الله، ومن خلوه من المعاني الشريفة. |
وقد ترى المرء مشغولًا، متحرّكًا، لا يهدأ، يقرأ ويكتب، ينتج ويشارك، ولكنه بين كل تلك الحركة لا يذوق طمأنينة واحدة، لأن الحركة التي لا تتصل بالله، لا تهدّئ القلب، وإن أثارت الإعجاب، ولعل أشدّ ما في جنون الإنجاز خطرًا، أنه يُربِّي في النفس استحقاقًا مستترًا، يتسلل من تحت الجلد حتى يُقنع العبد أن له على الله حقًا، لأنه عمل كثيرًا، وسعى طويلًا، وتحرك بلا توقف، فيتسلل في نفسه سؤالٌ خفيّ: لماذا لم أنجح؟ لماذا لم أُرزق؟ وهو لا يعلم أن ما يعمله كثيرٌ ظاهرًا، قليلٌ البركةً، لأن النية انحرفت، والقصد تلوث، فلم يبق من عمله إلا ظاهره. |
وقد أظهرت دراسة حديثة بعنوان The deterioration of self-worth in entrepreneurship للباحث Pablo Muñoz "أن هذا التآكل الداخلي في قيمة الذات يحدث غالبًا عند أصحاب الطموحات العالية الذين ينغمسون في الإنجاز، لكنهم يصطدمون بتفاوت حادّ بين ما كانوا يتوقعونه من إنجاز ورضا، وبين ما يواجهونه فعليًا من تشتت وضغط وقلق، وهذا التفاوت يؤدي إلى تدهور الشعور بالسيطرة والجدارة، ويغذي دوامة من المشاعر السلبية كالقلق، والعزلة، والعار، والذنب؛ مما يؤكد أن الإنجاز المجرد لا يكفي لاستقرار النفس ما لم يكن متصلًا بغاية راشدة وقصدٍ مستقيم."[6] |
ولهذا، فإن الشفاء من فتنة الطموح، ليس في كسر الرغبة، ولا في اعتزال العمل، بل في تطهير النية، وإعادة تعريف "النجاح"، وربط "الإنجاز" بمعناه الرباني، أن يكون حركةً تعبّدية لا تسويقية، وأن تكون الطموحات امتثالًا لا إثباتًا للذات، وأن يكون الفخر الحقيقي في خلوةٍ لم يعلم بها أحد، لا في منصةٍ تتسابق إليها الأعين، فالمنجز الحقيقي، ليس من أنجز أكثر، بل من صدق أكثر، لا من ارتفع أعلى، بل من تطامن في محراب ربه وأخلص. |
ومنذ اللحظة الأولى لنزول الوحي، افتتح الله هذا الدين بكلمة ﴿اقرأ﴾، فكأن العلم كان أول درجات القرب، وأول أبواب النبوة، وقد نزلت تلك الكلمة في موضعٍ شاهق، في غارٍ يعلو مكة، لتكون التضاريس شاهدةً على أن المعارف التي تغيّر مصير الإنسان لا تولد في السهول، بل تُستخلص من علو التأمل ومكابدة الصمت، وتنزّلت ﴿اقرأ﴾ من فوق سبع سماوات على قلب رجلٍ في خلوة، فارتفع الغار بالجسد، وارتفعت الروح بالوحي، ليُؤسَّس من تلك اللحظة معنىً جديد للإنجاز يستبين في ختام السورة بما يُضيء غاية هذا المسار ﴿واسجد واقترب﴾ فالسجود ليس لحظة انحناء، بل نقطة الذروة في طريق الارتقاء، فكل قراءة لا تفضي إلى خضوع لله، تبقى معلقة في فضاء الذهن، لا تهبط إلى أرض القلب، وكل علم لا يُثمر انكسارًا في المحراب، يبقى طيفًا باهتًا في دفتر النجاح، وهنا تَتبدّى هندسة الإنجاز في القرآن، إنجازٌ لا يُقاس بعدد الصفحات ولا صدى التصفيق، بل بما يثمره العلم من خضوع، وبما تُنبته المعرفة من اقتراب، فكلما ازداد العبد علمًا، ازداد لله سجدًا، وكلما نضجت بصيرته، اشتدّ شوقه إلى القرب منه. |
والطموحات إن لم تُروّض بالإيمان، استحالت أغلالًا تُكبّل الروح وهي تظن أنها تطير، وإن لم تُربط بالله، تحوّلت من رسائل صعودٍ إلى الله، إلى سباقٍ استعراضيّ يُفتك بالقلب، ويُطفئ معنى العبودية في لحظة زهوٍ زائف، ولأن هذا المرض يتلبّس بلبوس الفضيلة، ويغلف نفسه بلغة الطموح، فإن أكثر من يسقطون في أسره هم أولئك الذين يريدون الخير حقًا، لكنهم لم ينتبهوا متى انحرف القصد، ومتى بدأ البذل يتلوّن بلون الذات، وهنا تظهر دقّة الطريق، وخطورة السير، إذ ليس الخطر أن لا تعمل، بل أن تعمل ولا تُقبل، وليس الخوف من قلة الجهد، بل من أن يكون الجهد كله موجّهًا لغير وجه الله، مع أنه في ظاهر الأمر نافع، مثمر، مؤثر. |
ومن تأمل في سِيَر العابدين والمصلحين، رأى كيف كانت الطموحات عندهم محكومة بالنية، وكيف كان أكثرهم يخشون من عُجبٍ يتسلل خِلسة إلى القلب فيفسد كل البناء، وأن يكون سعيهم لإرضاء ضمير الشهرة[7] لا ربّ السريرة، وقد كتب الفضيل بن عياض كلمته الشهيرة حين سُئل عن العمل المقبول، فقال: "أخلصه وأصوبه"، قالوا: “يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟” قال: “إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة.”[8] |
البركة مقابل الكفاءة |
ليست المسألة في الحياة كثرةَ الحركة ولا ضخامة الإنتاج، بل في “بركة الأثر” التي يجعلها الله في القليل، فيسبق بها القلوب، وإن لم تُسجَّل في تقارير، ولم تُوثَّق في منصات، في منطق الإيمان، لا يُقاس النجاح بالنتائج، بل بالتوفيق، وليست المسألة في هذه الحياة أن نُكثر، بل أن نُبارَك، فكم من كثرة ألهت، وكم من قلةٍ زُكّيت فأنبتت، هذا هو منطق القرآن حين واجه وهم "العدد"، وخلخل تصوّر "الوفرة" في سورةٍ تبدأ بتقريع واضح: ﴿ألهاكم التكاثر﴾، التكاثر الذي يفتن لا يكون دائمًا في الأموال والأولاد فحسب، بل في عدد المؤلفات، وعدّ الحضور، وتكثيف لغة الأرقام لدغدغة المؤسسة المانحة، وتضخيم الإنتاج، و"إنجازات" لا يربطها رابط بالآخرة، سوى أنها تتكدّس لتُعرض لا لتُوزن، فالمؤمن لا ينخدع بالبريق الكميّ، لأنه يعلم أن البركة ليست عملية حسابية، بل نفحة غيبية، تهب للزمن القصير عمرًا طويلًا، وللجهد المحدود أثرًا مديدًا، وللعابد الصادق مقام أمة. |
وفي عصر الإنتاج، حيث تُقاس الجدارة بالكفاءة، ويُستدل على القيمة بكثرة الحركة، يُطمس مفهوم البركة، ويُستبعد من الحسابات لأنه لا يخضع للقياس، ولا يظهر في الجداول، ولا يُختصر في أرقام، لكن القلب المؤمن يعرف أن البركة هي الأصل، وأنها إذا نُزعت، فإن كثيرًا من الأعمال تكون كالرغوة، تملأ السطح وتذهب مع الريح، وأن العمل إذا خلا من الصدق، صار آلةً صاخبة لا تُحدِث أثرًا، وإن دوّى صوتها في الفضاء. |
وقد أشار الإمام ابن الجوزي إلى هذا الأصل في ميزان النفوس، حين كشف عن المأزق الخفي لأولئك الذين يُقبلون على زخارف الدنيا، فتُبهِرهم صور النجاح الظاهري، ويغيب عنهم جوهر العمل ومعناه، قال في صيد الخاطر: "من أعرض عن العمل مُنع البركة، وإياك أن تقف مع صورة العلم دون العمل به؛ فالمقبلون على أهل الدنيا قد أعرضوا عن العمل بالعلم، فمنعوا البركة والنفع به." فانظر كيف جعل الإقبال على أهل الدنيا – وهو مظهر يُحسب في ثقافة العصر نوعًا من "النجاح الاجتماعي" – سببًا في محق البركة، لا في تحصيلها، فالنجاح في ظاهره يكون تذكرة إلى غلبة العُرف المجتمعي، لكنه ليس تذكرة إلى القبول، وقد يُكثّف الحركة ويقتل المعنى، فليست البركة في حشد المعلومة، بل في إخلاص التطبيق، ولا في هندسة الأرقام، بل في هيبة الصدق. |
والفارق بين الكفاءة والبركة، هو الفارق بين جهدٍ يُدار بالأسباب وحدها، وجهدٍ تُباركه معية الله، بين حركة الجوارح التي تستنزف، وحركة القلب التي تطمئن، بين من يعمل متوكلًا على نفسه، ومن يعمل متكئًا على ربه، فالبركة لا تُستجلب بكثرة التدريب، بل بمقامات العبودية المنصوص عليها في الوحيين، ولا تُستجلب بكفاءة الإدارة، بل بكفاءة الافقتار، وكم من إنسانٍ لا يملك شهادةً، ولا إدارةً، ولا جمهورًا، ولكن في قوله من التأثير ما لا يُحدثه ألف مدرّب، وكم من مشروع ضخم، وميزانية كبيرة، وخطط مفصّلة، ثم تمضي الأعوام ولا يبقى منه شيء، لأن البركة قد غابت، والنية قد تلوثت، والاعتماد قد انصرف من الله إلى النفس. |
فإن منطق الكفاءة وإن بدا عقلانيًا متزنًا، إلا أنه إذا استقلّ عن الإيمان صار مِعوَلًا لهدم الطمأنينة، وصار مقياسًا لا يعرف الخشية، ولا يقدّر لحظة صدقٍ لا تُقاس، ولا يُبصر نور دمعةٍ وقعت في خفاء الليل، بل إن من أعظم فتن الكفاءة أنها تجعل المرء يحكم على العمل من خارجه، دون أن ينفذ إلى جوهره، فيُعجب بصورته، ويغفل عن سرّه. |
وقد رأينا، أن رحيق الأمة من العلماء، الذين لا تكاد تجد في سِيَرهم ضجيجًا، قد بقي ذكرهم، وسرى أثرهم في القلوب، لا لأنهم كانوا "أكفأ" فقط وهم كذلك، بل لأنهم كانوا أصدق، لم يكن مالكٌ يملك أدوات التأثير الحديثة، ولا سفيان الثوري كان يرتّب جدوله على تطبيق، ولا الذهبي كان يُتابَع من جمهور، ولكن الله وضع لهم القَبول، وسقاه لهم مع كل ركعة، وكل دمعة، وكل نيةٍ لم يعلمها أحد، ولو شئت أن تعرف الفرق بين الكفاءة التي لا تبارك، والبركة التي تثمر، فانظر إلى بعض المشاريع اليوم: ضخامةٌ في الشكل، خواءٌ في الجوهر، يُقال عنها كثير، ولا يُلمس منها شيء، وقد يكتب كاتبٌ خفيّ سطرًا صادقًا، يُلقيه الله في قلب قارئٍ تائه، فيُحدث به انقلابًا لا تُحدثه مؤلفاتُ ألف متصدر، فالبركة ليست ضد الكفاءة، ولكنها فوقها، تمنحها معناها إن حضرت، وتفضح هشاشتها إن غابت. |
﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ ليست البركة أن تكون معروفًا، بل أن تكون نافعًا، أن تمرّ، فيُحيا بك قلب، وتُجبر بك نفس، وتُروى بك أرضٌ لم تطلب منك شيئًا، فالبركة أن يغرس الله في خطواتك أثرًا لا تحسبه، وفي كلماتك نفعًا لا تقصده، وفي صمتك سكينة لا يراها إلا أهل القلوب، هي دعوة نبي، وغاية عبد، أن لا يكون وجوده عاديًّا، بل شاهدًا على فضل الله أينما وُجد، فالبركة ليست بكثرة العمل، ولكن بصدق الوجهة، ولا بامتداد الأثر، ولكن برضاء الله على ذلك الأثر. |
وليست المسألة في مسير العبد كثرة الجهد ولا تعدد المشاريع، بل في ما يُجعل له فيها من بركة؛ فإن الله إذا بارك في القليل أنبت به من الثمرات ما لا يُحصى، كم من عبدٍ لم يُعرف له إلا كتابٌ يتيم، فإذا هو في ميزان الله أثقل من مكتبات، وأبقى في قلوب الناس من سلاسل المؤلفات! أليس متن الآجرومية شاهدًا ناطقًا على هذا المعنى؟ كتابٌ صغير في حجمه، يتيم في إرث مؤلفه، ومع ذلك فقد صار مفتاح النحو وعتبة الدخول إلى علم العربية لقرون متطاولة، وقد يكون الأثر أعجب إذا علمت أن بعض الكتب مات أصحابها قبل أن يتموها، فكملها الله على أيدي غيرهم، فكان في الباقي وحده ما جعله الله مفتاحًا للخلود، فهذا قاسم بن ثابت العوفي صنّف الدلائل في غريب الحديث، فعاجلته المنيّة، فأتمه أبوه بعده. وذاك عبد الرحمن الفُرّواني صنّف الإبانة عن أحكام فروع الديانة، ثم مضى قبل أن يكتمله، فأكمله تلميذه عبد الرحمن بن المأمون، وأعان الله به أجيالاً. أما ابن الصفار فقد صنف أنوار الأفكار فيمن دخل جزيرة الأندلس من الأبرار، فدهمه الأجل، فأتمه ابنه محمد.[9] كأن البركة إذا نزلت على الجهد، لم تقف عند صاحبه، بل انسابت في سعي من حوله، فأتمّ الله بهم ما ابتدأه العبد، وجعل القبول لما بقي من الحرف أعظم مما يُكتب في العمر كله، هذه السيرة المتكررة تقول للقلوب المرهقة: لا تُرهق نفسك في مطاردة الكثرة، ولا تُقَيّم جهدك بمقاييس السوق، فإن البركة تصنع من العمل اليسير سِفْرًا خالدًا، وتنسج من بضع الصفحات أثرًا لا يندثر. |
فإن الله إذا بارك في القليل أنبت به من الثمرات ما لا يُحصى، وإن رفع يده عن الكثير لم يبق منه إلا تعبٌ يستهلك، وصوتٌ يُدوّي ثم ينطفئ، وأثرٌ لا يجاوز الأعين، والبركة – في خطاب الوحي – ليست إضافة كمية، بل نفحة ربانية، فيها التوفيق، وفيها الحفظ، وفيها التيسير، وفيها أن يجعل الله في الشيء من الخير ما يفوق ظاهره، فليس في الكتاب ولا السنة امتداحٌ لكثرة الحركة، بقدر ما فيه من تعظيم لصدق النية، وخشية القلب، وحسن القصد. |
يقول الله جل وعلا: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ فلم يربط البركة بمنظومة اقتصادية أو جدارة إدارية، بل ربطها بالإيمان والتقوى. |
فإذا رأيت نفسك مُحاطًا بكثرة الأعمال، وقليلًا من الطمأنينة، ففتش عن البركة، وإذا رأيت جهدك كثيرًا وأثرك ضعيفًا، ففتش عن النية، وإذا شعرت أن إنجازك لا يورثك قربًا، فاعلم أن ما بُني على اهتمام بالجسد لا يُثمر هدى القلب، لأن البركة لا تنزل على عملٍ يُراد به الناس، ولا تُسكب في خطةٍ عنوانها الأنا، بل لا تكون إلا في عملٍ يُفتتح ببسم الله، ويُختتم بـ﴿تَقَبَّلْهَا رَبُّهَا﴾. |
وهذا المعنى — وإن صيغ في قالبٍ إيماني — له ما يعضده في التجربة النفسية الحديثة، إذ يُسجّل تود سلوان في كتابه "حياة تالفة" شهادةً بالغةً على أثر الحياة الحديثة في إتلاف الداخل الإنساني، فيقول: "لقد أصبح الرضا حالة نادرة في الحياة الحديثة، وأصبح الناس يدفعون الثمن النفسي لأسلوب العيش الحديث، الذي يُشاهد في مظاهر القلق الغامض، فقدان الإيمان، العجز عن التركيز، تبلّد الفكر، الشعور بأن لا شيء يستحق الإنجاز، عادات العمل المهووسة، السأم من الآخرين، الغربة، الاغتراب، الوحدة، والاكتئاب"[10] ولعلّك إن تأملت في هذا الطيف الطويل من الأعراض النفسية التي يصفها، أدركت أن المشكلة ليست في قلة العمل، بل في غياب البركة عنه، ولا في قلة الإنجاز، بل في تفكّك المقصد، وتمزّق البوصلة، واختلال العلاقة بين "رضا الذات" و"رضا الله". |
بل تسلّل إلى المجالس خطابٌ دخيلٌ على طبيعتها، غريبٌ عن نسيجها، لا ينتمي إلى جنسها الروحيّ ولا ميراثها الأخلاقي: خطاب الإنجاز، ولغة الأرقام، ومنطق "المخرجات"، حتى غدا الحديث عن "المشاريع" و"الأثر" و"المؤشرات" يُزاحم حديث السنن والآثار، ويُزاحم ميراث الوحي بمنهجٍ تنمويّ صاخبٍ يحكمه منطق الإدارة لا منطق التزكية، وهذا - في جوهره - انقلاب ناعم في سلّم القيم، يصطنع لغةً دعوية، ويغلف قلق الروح بغلاف الإنجاز، لكنه لا يورث إلا التيه، واحتراق الطاقات في سباقٍ لا ينتهي، ولا يُورث سكينة ولا يعرف ركودًا، ولم يقف الأمر عند حدود اللغة، بل انسحب هذا المنطق على روح المجالس ذاتها، حتى خلت من تلك الأحاديث التي كانت تُطرّز الزمان بأخلاق أهله: فتلاشى الحديث فيها عن تاريخ القبائل وأيام العرب وأشعارهم ومحاسنهم، ولم تَعُد المجالس تَستضيء بنارِ الفضل، ولا تتنسّم بعبير السجايا، بل غدت في كثير من مشاهدها غرفَ إنجازٍ صمّاء، يُدار فيها الحديث كأنّه جلسة عمل. |
وهذا الزمان الذي انفرط فيه عقد السكينة، وتكاثرت فيه الأصوات حتى صارت كأنها جلبة سوق، لا يميز فيها السامع بين صوت الحق وصدى الادّعاء؛ أصبحت المجالس مكتظة بالكلام، فقيرة إلى الإنصات، يعلو فيها من امتلك جرسًا رخيمًا، لا من أتى بحجة قاطعة أو فكر رصين، وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق عن محمد بن كعب القرظي قال "ما تجالس قومٌ مجلسًا، فلم يُنصِت بعضهم لبعض، إلا نُزِع من ذلك المجلس البركة" [11]فالمجلس المبارك، هو الذي يتناوب فيه العقلان: عقل المتكلم المخلص، وعقل السامع المتجرد، وكأن كلاً منهما يقول في نفسه: لعلّ الصواب ليس عندي هذه المرة. |
النية لا النتيجة |
من أبلغ المفارقات بين منطق السماء ومنطق الأرض، أن السماء تُقيم العمل على أصله الباطن، بينما الأرض لا تعرف من العمل إلا ظاهره، السماء تزن النية، والأرض تزن النتيجة، ولهذا كان من أعظم الفروق بين المؤمن الصادق، والمفتون بزخرف العصر، أن الأول يشتغل بنيّته قبل فعله، بينما الثاني لا يرى في نفسه وزنًا حتى يُنجز ويُعجب ويُشار إليه. |
النية هي المسطرة التي توزّن بها الأعمال في الميزان الرباني، لا لأنها شرطٌ فحسب، بل لأنها حقيقة العمل؛ إذ لا عبادة بلا نية، ولا قربة بلا توجه، النية هي التي تُحرّر العبد من وهم المقارنة، ومن ضغط التقييم البشري، لأن من يعمل لله لا ينتظر ثناءً، ولا يخشى قلة المتابعين، ولا يتألّم من بطء الثمرة، لأنه يعلم أن ما أُريد به الله لن يضيع، ولذلك كان السلف يقولون: "ربّ عملٍ صغيرٍ تعظّمه النية، وربّ عملٍ كبيرٍ تصغّره النية". |
بل إن الله سبحانه أجرى سنّته في عباده أن يُثيبهم على النية وحدها، حتى لو لم يُدركوا الفعل، كما في قوله ﷺ "إن بالمدينة رجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر"[12]، فالنية بلغت بهم ما لم تبلغه الجوارح، فحضروا في ثواب العمل دون أن تطأ أقدامهم الأرض، لأن الله لا ينظر إلى الأقدام بل إلى القلوب. |
وحين يتشرّب القلب هذا المعنى، تسكن النفس، ويهدأ السعي، ويصبح الإنسان مطمئنًا إلى أن قيمته ليست في شهرةٍ، ولا في نتيجةٍ، بل في وجهةٍ خفية يوجّه بها قلبه في كل عمل، وما دام العبد يفتتح يومه بنيّة خالصة، فهو في عبادة ولو لم ينجز شيئًا يُذكر عند الناس، وما دام يطلب وجه الله، فكل سعيٍ له معنى، وكل خطوةٍ لها قدر، فالنية ليست مجرد شرط قبول، بل هي ملاذ القلب من قسوة التقييم، وطمأنينةُ الساعي في زمن الاستعراض، وباب النجاة حين لا يبقى من العمل إلا دُخانُه، ويحكي عالم النفس السويسري كارل يونغ في كتابه الإنسان يبحث عن نفسه: عندما نعيش من أجل القيم الخارجية فقط، نصبح غرباء عن أنفسنا الحقيقية. |
وهذا هو ما يجعل المؤمن أكثر الناس اتزانًا في تقلبات الحياة، لأنه لا يُقيّم نفسه كما يقيّمها غيره، ولا يرتب شعوره على حجم ما كسبه من النتائج، بل على جذور ما نواه من المقاصد، ومن عجب النية أنها لا تُقدّر بثمن، فقد تفعل فعلًا يسيرًا جدًا، فتبلّغ به مرتبة من لم يبلغها عمرًا، كما في حديث المرأة التي سقت كلبًا فغفر الله لها، والرجل الذي نحّى غصن شوكٍ عن الطريق فغُفر له، فأي فعلٍ هذا الذي يُثمر مغفرة؟ وأي عبوديةٍ هذه التي تُغيّر مصيرًا؟ إنها النية، حين يُطلق القلب من أسر العادة إلى وجهة العبودية، فيصبح أقلّ ما يُبذل عظيمًا عند الله، وأكثر ما يُظهر للناس، لا وزن له إذا لم يُرد به وجهه الكريم سبحانه. |
فالنية إذًا، ليست بندًا من بنود التكميل الإيماني، بل هي الحقيقة التي عليها مدار الدين، والبوابة الوحيدة التي يُؤذن منها للعمل أن يرتفع، وهي سرّ الطمأنينة التي يشعر بها العبد في قلبه حين لا يُذكر، ولا يُشاد به، لكنه يعلم أن هناك في السماء عملًا كُتب، وسعيًا لم يضع، وربًا لا يُخيب من قصد وجهه، ولو لم يعرفه الناس باسم ولا رسم، ولأهل العلم في تمايز الألفاظ أسرار، فقد أبان الإمام القسطلاني في الإرشاد أن النية لا تلحق "الفعل" الذي ينقضي سريعًا، بل تسكن في "العمل" الذي يتكرر ويثبت "سُئل: لمَ عُدل عن لفظ "الأفعال" إلى "الأعمال" في حديث إنما الأعمال بالنيات؟ فأجاب الخُوَيِّي: لأن "الفعل" ما يقع في زمن يسير ولم يتكرّر، كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ﴾، بخلاف "العمل" فهو ما يستمر ويتكرر، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، فطلب دوام الفعل وتجدد النية، ومن ثم قال:﴿فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ ولم يقل "يفعل الفاعلون"، لأن العمل أخصّ، وتُعتبر فيه النية لتكراره، أما الفعل النادر فلا تصحبه نية. فليتأمل."[13] |
من التزكية إلى التزويق |
من بواعث التكريم الذي أعلنه الله في قوله: ﴿ولقد كرّمنا بني آدم﴾ فليس السعي نحو المعنى، والبحث عن الارتقاء، والتوق إلى العلو، طارئًا على الإنسان، بل هو بعض مما أودع الله فيه من خصائص الخليفة، ولذلك، لم يكن تحقيق الذات في أصل فطرته إلا سعيًا نحو مراتب التزكية، ومراكمة لصعودٍ روحيّ تتخفف فيه النفس من علائق الطين وتتحرر من سطوة الهوى، ولم يكن تحقيق الذات بالمعنى القرآني إلا أن يُمسك العبد مفاتيح نفسه، ويصعد بها سلّم ﴿قد أفلح من زكّاها﴾، ويخاف على قلبه من أن تندسّ فيه دوافع التساهل فتورده مورد ﴿وقد خاب من دسّاها﴾. |
لكن هذا المفهوم النقي، حين تسلل إلى حيز السوق، ارتدّ إلى مشروعٍ استهلاكي بامتياز، يُسَوّق للناس في دوراتٍ مدفوعة، ويُحاصرهم في لافتات التحفيز، ويُعرض عليهم في مشاهد الحياة المثالية الجاهزة، حتى غدا تحقيق الذات مجرد منتج من منتجات التنمية البشرية، لا رحلة وجودية إلى الله. |
لقد سُوّقت فكرة تحقيق الذات على أنها "نسختك الأفضل" لا بمعيار القرب من الله، بل بمعيار الصورة الأكثر جاذبية على المنصات: نسخة تتحدث بثقة، تملك دخلًا أعلى، تمارس التأمل صباحًا، وتكتب الأهداف بلغة إنجليزية، وتُدرج نفسها في خطط "التوازن بين الجسد والعقل والمال"، مع غيابٍ تامٍ للروح، لأنها ﴿مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، وأولئك لا يعرفون الله، ولا يدركون أمره، فكيف يُدركون أمرًا صادراً عنه؟ فكانت النتيجة الحتمية أن تظلّ الروح عندهم لغزًا مغلقًا، لا يُحلّ بمختبر، ولا يُفكّ بأداة، ولا يغرّك بريق علومهم، فإن الله قال ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾. |
ومن تأمل في هذا التحوّل، رأى كيف أُفرغ المفهوم من مضمونه الإيماني، وأُعيدت تعبئته في قالبٍ فردانيٍّ تسويقي، يجعلك تقيس ذاتك لا على أساس نجاتها في الآخرة، بل على قدرتها على صناعة "الحياة التي تحلم بها"، بصيغةٍ تسويقية لا تفرّق بين الفطرة والهوى، ولا بين التزكية والتورم الذاتي، ثم غدا المرء مشغولًا بـ"نموه الشخصي" كما تصوغه كتب التحفيز، لا كما يصوغه القرآن في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، يبحث عن ذاته في مراكز التدريب، لا في محاريب السجود، يتابع قصص الناجحين لا قصص الصالحين، ويقيس ارتقاءه بعدد المهارات المكتسبة، لا بمدى تزكيته لأخلاقه ونقاء قصده. |
ومع تسليع المفهوم، صارت الذات التي يُطلب تحقيقها ذاتًا مصنوعة خارجًا، تُبنى على أعين الناس، وتُقاس بمدى مطابقتها لنموذج "الشخص المؤثر"، ثم يُطلب منك أن تعيد صناعة نفسك لتلائم ذلك النموذج، وكأنك موظف في ورشة إنتاج لا عبدٌ يسير إلى مولاه. |
وقد أشار الباحث P. David Marshall في مقال أن هذا النمط من تشكيل الذات "أصبح صناعة عابرة للحدود، يتم فيها تسويق الإنسان كعلامة تجارية، ويتحول فيها الفرد إلى مشروع ترويجيٍ متكامل[14]" لم يعد "تحقيق الذات" فعلًا باطنيًا ينبثق من أعماق التزكية، بل أصبح فعلاً دعائيًا موجّهًا إلى الخارج، يخضع لمنطق الاقتصاد الرمزي، ويتحوّل فيه الإنسان إلى منتج يُقاس بمدى انتشاره لا بمدى إخلاصه. |
وإذا لم تُطابق تلك النسخة المعلّبة، شعرت بالنقص، والضياع، وبدأت تُحاسب نفسك لا على غفلتك، بل على أنك لا تملك مهارات العرض البصري، ولا تتقن لغة التسويق الذاتي، ولا تعرف كيف تصنع "علامتك الشخصية" بين الناس. |
هذا انزلاقٌ عميق، من السعي نحو تزكية النفس، إلى السعي نحو تزويق النفس، من الخوف من الله إلى الخوف من نظرات الناس، من الشعور بالحاجة إلى الله، إلى الشعور بالاستحقاق الكامل من الحياة، وهكذا، تحوّل "تحقيق الذات" من مشروع عبوديةٍ إلى مشروع أنا، من مقام التبتل إلى شعور "أنا أستحق"، من بكاء "يا رب اغفر لي" إلى تحفيز "كن واثقًا أنك عظيم"، من نداء ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾ إلى هتاف "أنت تصنع قدرك بيدك" وكلما توغّل هذا المعنى، خفّ الخشوع، وازدادت القسوة، وسقط القلب في صنم الذات، يعبده وهو لا يدري. |
ولعل من أعجب ما في هذا الانحراف، أن صاحبه يظل يركض باسم "تحقيق الذات" وهو لا يدري أنه يبتعد عنها، لأنه كلما اقترب من صورتها الزائفة، ابتعد عن حقيقتها التي فُطر لها، ولذلك فإن من أعظم مظاهر هذا الزيف، أن كثيرًا ممن بلغوا أعلى درجات "تحقيق الذات" المزعوم، لا يجدون سكينةً، ولا طمأنينة، لأنهم في الحقيقة لم يحققوا ذواتهم، بل حققوا صورة الآخرين عنهم، ومضوا في سباقٍ ليس لهم، فانهاروا عند أول عثرة. |
إن العبد إذا لم يُقِم ذاته على التزكية، تاه عنها، ومهما جمع من مهارات، ومهما راكم من تجارب، سيبقى يشعر أنه "ناقص" ما دام لم يَرُضِ الله عنه، لأن النفس إن لم تَسكن إلى الله، لم تسكن أبدًا، وصدق ابن القيم حينما قال -رحمه الله "في القلب فاقةٌ لا يسدّها إلا الله، ولو أُعطيَ الدنيا وما فيها لم تسدّها أبدًا "وهذه الفاقة هي التي يحاول الناس ملأها بكل طرق "تحقيق الذات" المعاصرة، ولا تمتلئ، لأنها فُطرت على أن تُملأ بذكر الله، وأن تُشفى بالقرب، لا بالصورة. |
وفي بُعدها النفسي العميق، تنقلب فكرة "تحقيق الذات" التي يُنادى بها في الخطاب المعاصر من كونها استجابةً لصوتٍ داخلي صادق، إلى كونها منظومة ضغط مموّهة تُطارد الإنسان في كل لحظة، وتُغذّي شعوره المستمر بأنه "ليس كافيًا بعد" وأن عليه دومًا أن يسابق نسخته المثالية التي صارت تُرسم خارج ذاته، لا في أعماقها، تحقيق الذات، في أصله، حاجة نفسية نبيلة، كما صوّرها "أبراهام ماسلو" في هرمه الشهير، حين وضعها في قمة الاحتياجات الإنسانية، باعتبارها رغبةً في تفعيل الإمكان، وبلوغ المكنون، وممارسة الطاقات الكامنة، غير أن هذه الفكرة، حين أُفرغت من بعدها التزكوي، وانفصلت عن مرجعيتها الإيمانية، وتحوّلت إلى منتج يُسوّق في دوراتٍ ودعايات، انقلبت من ارتقاء إلى اختناق، ومن سعي نحو الكمال الإنساني إلى مطاردةٍ مرهقةٍ لنسخة مثالية لا تُكتشف بل تُصنَع على أعين الناس. |
وهذا الانفصال عن الجذر الإيماني هو ما يصنع، في العمق، فراغًا وجوديًا قاتلًا، يجعل الإنسان يشعر أن عليه أن يُثبت استحقاقه للحب والاحترام والحياة ذاتها، من خلال كفاءته لا من خلال كينونته، ومن خلال صورته لا من خلال صدقه، وهنا يتسرّب القلق الوجودي، كما بيّنت Olena Klimenko في دراستها (Crisis of the Self in Contemporary Society) "أن الإنسان المعاصر يعيش فراغًا وجوديًا يتضاعف حين تُحجب عنه مرجعيات الإسناد الكبرى، كالاعتقاد بالله، والعقل، ويجد نفسه أسيرًا لخطابات استهلاكية فردانية تُخفي جوهر الإنسانية تحت ركام الأداء" [15] |
ذلك الفراغ لا يُملؤه صخب النجاح، ولا تُرمّمه منصات التحفيز، لأن أصل العطب ليس في ضعف العزيمة، بل في انقطاع الصلة، وانطفاء اليقين، وسقوط الغاية، فالنفس حين لا تجد تعريفها من داخلها، تبدأ في استيراد المعنى من الخارج، فتُعرّف نفسها بحسب عدد متابعيها، أو جدول إنجازاتها، أو حجم دخلها، أو شكل جسدها، وكلّما نجحت خارجيًا، زاد جوعها الداخلي، لأنها لم تُخاطب في عمقها، بل في صورتها، وهذا يخلق حالة مزمنة من الشعور بعدم الاكتمال، فحتى في ذروة النجاح، يبقى الصوت النفسي يقول: ما زلت ناقصًا ما زلت بعيدًا عن “نسختك الأفضل” هذه الدوّامة هي ما يسميه علماء النفس اليوم بـ"قلق تحقيق الذات" (Self-Actualization Anxiety)، حيث يعيش الإنسان في صراعٍ صامت بين مَن هو عليه فعلًا، وبين مَن يجب أن يكونه ليشعر أنه يستحق القبول، ويُولد من هذا القلق تآكلٌ في احترام الذات، واضطراب في الهوية، وشعورٌ دائم بأن الحياة معركة إثبات لا رحلة سكينة، وهذه الدراسة[16] تشير إلى العلاقة الوثيقة بين الضغط الأكاديمي والقلق، مبينةً أن توتّر الطلاب يرتبط بعوامل متعددة مثل: الكفاءة الاجتماعية والعاطفية، والظروف الأسرية، وأن هذه العوامل تؤثر مباشرة في الأداء الأكاديمي. |
وفي بُعدها الاجتماعي، لم تعد فكرة "تحقيق الذات" اليوم مجرّد نزوع داخلي نحو التكميل، بل تحوّلت إلى واجب اجتماعي مستتر، يُفرض على الفرد باسم الحرية، ويُراقَب فيه باسم "الإلهام"، ويُحاسب عليه إن لم يظهر بصورة "الناجح الذي عرف نفسه، وتجاوز عقده، وصنع ذاته من الصفر" ولأن المجتمعات المعاصرة أصبحت مشبعة بثقافة الأداء والإنجاز الفردي، تحوّل تحقيق الذات من حاجة إنسانية إلى أداة فرز اجتماعي: من لم يحقق ذاته لا يُحترم، ومن لم يبنِ "علامةً شخصية" لنفسه لا يُحسب، ومن لم يصنع قصةً ملهمة لا يُشار إليه في المنصات. |
وقد كشفLars Hammershj في دراسته العميقة الاعتلالات الاجتماعية لتحقيق الذات، "أن التحوّل الذي أصاب مفهوم الفردنة قد أنتج نوعًا جديدًا من الاضطرابات النفسية، لا تأتي من المنع الخارجي لتحقيق الذات، كما كان في السابق، بل من عملية تحقيق الذات ذاتها، لقد غدت الذات المعاصرة تُصاب بما يُسميه بـ"أمراض التكوين الذاتي"، حين يرفض الإنسان أن يتجاوز ذاته نحو الاجتماع، وينغلق داخل دائرة الإنجاز الذاتي القسري، فيغدو الاكتئاب، وفقدان المعنى، والغضب المجتمعي، ثمارًا طبيعية لهذا الاستنزاف الفردي المتكرر باسم التطوير والحرية."[17] |
إنها لحظة خطيرة، حين تتحوّل الذات من كائن متكامل إلى منتجٍ متوتّر، وحين يُختزل الكائن الإنساني في "مشروع إنجاز دائم"، فتصبح النفس مجالًا للمحاسبة اليومية، لا للسكينة، وتُقاس القيمة بحجم التسويق، لا عمق التزكية. |
لقد ولّدت هذه الثقافة سُلّمًا اجتماعيًا جديدًا، لا يُقاس فيه الإنسان بدينه، ولا بخُلقه، ولا بتقواه، بل بما أنجزه لنفسه من حضورٍ بصريٍّ في المجتمع الرقمي، ومع تزايد القيم الاستهلاكية في المجتمعات، غدت الذات تُنتج وتُستهلك في الوقت نفسه، ويشير Alain Ehrenberg في كتابه "إرهاق الذات: تشخيص تاريخ الاكتئاب في العصر الحديث" إلى هذه اللحظة المفصلية بقوله: "في ثقافة يُفترض فيها أن يكون كل إنسان رائد أعمال في حياته الشخصية، لم يعد الفشل حادثًا عارضًا، بل أصبح خطأً شخصيًا"، فالمجتمع الحديث يُحوّل الإنسان من عبدٍ إلى مشروع تسويق ذات، ويجعل فشله ذنبًا لا يُغتفر، لا ابتلاءً عابرًا. |
والمفارقة أن هذه النزعة لا تنشئ مجتمعًا متكافئًا، بل تُعمّق الفردانية، وتزيد الاحتقان الطبقي غير المعلَن، بين من حققوا ذواتهم على الشاشة، وبين من غُيّبوا في الظلّ لأنهم لا يملكون أدوات العرض، بل صار تحقيق الذات وسيلة للتمييز: إن لم تنجح، فأنت وحدك الملام، أنت لم تُخطط، لم تُلهم، لم تُنتج، لم تخرج من "منطقة الراحة"، بينما لا أحد يسأل عن البنية الاجتماعية التي أخرجت إنسانًا في الظل، وآخر في الضوء. |
ومن هنا، فإن تحقيق الذات لا يعود مشروعًا إنسانيًا ناضجًا، بل يتحوّل إلى قيدٍ اجتماعي ناعم، يُدخِل الإنسان في سباقٍ لا ينتهي، لأن معيار "تحقيق الذات" فيه ليس رضا الله، بل إعجاب الناس، وليس التزكية، بل القدرة على الإلهام البصري، وليس اكتمال النفس، بل اكتمال الصورة. |
وفي هذا السياق، يصدق توصيف علي الوردي حين قال "في بعض المجتمعات قد يكون هناك نظامان متناقضان من القيم: أحدهما واقعي، وهو الذي يُقدَّر به الناس عمليًا، والآخر مثالي، يُتداول في التواعظ والخطب والمقالات، فينشأ من ذلك ازدواجٌ في الشخصية، حيث يترنم الناس بالمثل العليا في أقوالهم، بينما يسيرون في أفعالهم على الضد منها"[18]. |
والمخرج من هذا كله، أن يُستعاد المفهوم إلى موضعه الصحيح: أن تُربط الذات بمصدرها، أن يعود الإنسان إلى دائرة ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ لا إلى وهم "كن أنت" كما يُروَّج، وأن تكون غاية المجتمع أن يُرحم الإنسان لا أن يُراقَب، وأن يُفهم على ضوء ضعفه لا على معيار صورته المادية الخيالية. |
وللحكاية بقيّة... |
[1] الراوي : عبدالله بن عمرو- المصدر: صحيح مسلم - رقم الحديث: 1054 |
[2] الراوي : سهل بن سعد الساعدي - المصدر: صحيح البخاري – رقم الحديث : 3701 |
[3] منشورة في Consumption Markets Culture |
[4]Barari, Thakur, (2024). Imposter Syndrome: A Threat To Mental Health. KUEY, 30(6) |
[5] تذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 131). |
[6] Muñoz, P., & Others. 2023. The deterioration of self-worth in entrepreneurship. Journal of Business Venturing Insights 20, e430 |
[7] وإن الحديث عن ظاهرة "الشهرة" في صورتها المعاصرة ليطول، إذ هي من أخطر تحولات الوجدان الجمعي في زمن الصورة والعدد، وقد أحسن أستاذنا الحاذق: فؤاد العمري، إذ أفرد لها كتابًا بديعًا عنوانه "برق خُلّب"، تتبع فيه خيوط هذه الظاهرة في امتدادها الاجتماعي والثقافي، دراسةً وتحليلًا وتفكيكًا، وهو من الكتب التي لا يستغني عنها طالب وعي. |
[8] منهاج السنة النبوية ٦/٢١٧ — ابن تيمية (ت ٧٢٨) |
[9] في الكتاب وأحواله – أحمد العلاونة- 8-9 |
[10] حياة تالفة- تود سلوان- ص61. |
[11] تاريخ دمشق – ابن عساكر - 33/361 |
[12] أخرجه البخاري (2839) |
[13] ص54 – بتصرف يسير كتاب إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ط بولاق |
[14] Marshall, P. D. (2021). The commodified celebrity-self: Industrialized agency and the contemporary attention economy. Popular Communication, 19(3), 164–177. |
[15] Klimenko, O. (2014). Crisis del ser en la sociedad contemporánea. Crisis of the self in contemporary society. Revista Científica General José María Córdova, 8(12), 497–508. |
[16]Wu, Jinnan. (2023). The Relationship Between Academic Performance and Anxiety: A Multi-Angle Review. Lecture Notes in Education Psychology and Public Medi. |
[17] Hammershj, L. G. (2009). The Social Pathologies of Self‐Realization: A diagnosis of the consequences of the shift in individualization. Educational Philosophy and Theory, 41(5), 507–526. |
[18] لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، علي الوردي ص 322. |
التعليقات