غواية المفاهيم 3 |
11 أغسطس 2025 • بواسطة توّاق • #العدد 11 • عرض في المتصفح |
بين ضلال النجاح وظِلال الفلاح
|
|
![]() |
ومن هذا الموضع، يتسلّل المعنى ليعانق سابقه... |
فقه التعثر |
ما أكثر ما يُقال عن فقه النّجاح، وما أندر ما يُقال عن فقه التّعثّر، وفي منطق السوق المعاصر، لم يعد الفشل محطةً عابرةً في طريق النمو، ولا تجربةً تُجبر القلب على الانكسار ليعرف ربه، بل صار "وصمةً" تُدوَّن في السيرة الذاتية، وسطرًا قاتمًا في سجل الحياة، يُطارد الإنسان، ويُشكِّك في جدارته، ويُلقي عليه سؤالًا مُوجعًا في كل منعطف ما الذي فعلته لتسقط؟ |
إن الواقع اليوم لا يحتمل المتعثرين، ولا يرحم المنكسرين، لقد سُحبت من الفشل إنسانيته، وجُرّد من نُبله التربوي، حتى غدا "عارًا معرفيًا" يخجل منه الإنسان، ويُخفيه خلف أقنعة الابتسامات، وكأنّه عارٌ لا يجوز البوح به، مع أن القرآن قد جعل من الفشل الظاهري بابًا إلى التمكين، وحدثًا عظيمًا يُهيّئ النفوس لحمل الرسالة، كما في غزوة أحد، حين نزل قوله تعالى: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ فلم يكن الفشل نكوصًا، بل اختبار صدق، وتمحيص معدن، وتنقية نية. |
وقد أكّدت الأبحاث الحديثة هذا المعنى الجليل، حيث ورد في دراسة منشورة بمجلة Periodica Polytechnica Social and Management Sciences للباحثة Kitti Mária Kiss "من المستحيل تفادي الفشل والأخطاء، حتى مع اتباع إجراءات صارمة، أو تدريب الموظفين، أو استخدام أحدث التقنيات، وينطبق هذا حتى على الأشخاص الناجحين للغاية والمرموقين، إذ إن أكثر القادة فاعلية تعرضوا لفشل مهني أكثر من عدد انتصاراتهم، وإن قدرتهم على التعلّم من أخطائهم تُعد عاملًا جوهريًا في تحديد مدى نجاحهم."[1] |
هذه لحظة إدراك أن السقوط ليس هاوية، بل ميلاد بصيرة، وأن العثرات ليست هزائم، بل محطات تعلُّم وتكوين، وأن الإنسان الحقّ لا يُقاس بعدد الإنجازات، بل بمقدار الحكمة التي استخرجها من إخفاقه، وبالطريق الذي قطعه ليعود أقوى، وأصفى نية. |
لكن المنظومة المعاصرة، التي تُقيم وزناً فقط للنتائج، تُدخِل الفشل في ميزان الإقصاء، لا ميزان التأمل، فإن أخفقتَ في مشروع، رُسم حولك إطار من الشك، وإن تعثّرتَ في خطوة، صُنِّفتَ في خانة العاجزين، وهكذا يتسلل إلى النفس شعورٌ بأن السقوط ليس مرحلة في المسار، بل نهاية له، فلا يُمنح الإنسان فرصة ليبدأ من جديد، لأنه قد سقط في نظر الناس، ولقد رُوّج في وجدان المجتمعات أن الناجح "لا يفشل"، وأن الإنسان القوي هو من يصعد في خطٍ بياني مستقيم، لا يتعثّر، ولا يتأخر، ولا تزلّ به القدم، وهذا الفهم السطحي يُربّي نفسًا مهووسة بالمثالية، خائفة من التجربة، محرومة من الحكمة التي لا تُولد إلا في مرارة السقوط. |
وهذا التوحش في تعريف الفشل، أفرز نماذج إنسانية هشة، لا تعرف كيف تتعامل مع الهزيمة، ولا تتقن فن الوقوف بعد التعثر، لأنها لم تُربَّ على أن الضعف جزء من القوة، وأن الدمعة قد تسبق النصر، وأن الخسارة الظاهرة قد تكون تمهيدًا لتجلٍّ باطني، يُصنع في القلب قبل أن يظهر في السيرة. |
ولعلّ من أدقّ ما كشفته الدراسات الحديثة أن الإخفاق لم يعد فقط عثرة في السعي، بل صار مهددًا لهوية الإنسان المعرفية، إذ بيّنت دراسة نفسية أجراها Lauren Eskreis-Winkler وآخرون (2019) أن الناس يتعلمون من إخفاقات غيرهم بقدر ما يتعلمون من نجاحاتهم، لكنهم يفشلون في التعلم من إخفاقاتهم الشخصية، وكان السبب، كما أوضحت الدراسة، أن الفشل يهدد الأنا، ويجعل الإنسان ينصرف عن التأمل فيه، فيفوته الدرس المستتر داخله. تقول الورقة: "المشاركون تعلّموا أقل من الفشل الشخصي مقارنةً بالنجاح الشخصي، في حين أنهم تعلّموا بالقدر نفسه من فشل الآخرين كما من نجاحاتهم. وعندما تهدأ مخاوف الأنا، يصغي الإنسان، ويتعلّم من الفشل."[2] |
إنّ السقوط الحقيقي، ليس حين تفشل، بل حين تُعيد تعريف ذاتك بناءً على فشلك، فتظن أنك لا تستحق، وأنك أقل من غيرك، وأن تجربتك ناقصة لأنها لم يُحتفى بها، بينما في ميزان الوحي، ما ضاع سعيٌ أُريد به وجه الله، وما سقط عبدٌ قام وهو ينوي أن لا يعود، يقول الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾، فالفارق بين الفشل والخذلان، أن الأول تجربة، والثاني قطيعة، أما المقصّرون الصادقون، فهم الذين يتذكّرون، ويُبصرون، ويعاودون السعي بنية أصدق من ذي قبل. |
في الطريق إلى الحقيقة، يُخادع المرء نفسه كثيرًا حين يظن أن الحياة يمكن حصرها بين ضحكةٍ وعَبرة، أو أن يخيط أيامه بخيطٍ واحد من لون النجاح أو لون الفشل؛ كلا، فالحياة أوسع من أن تُلَفّ في ثوبٍ من لونين، كما قال عبد الوهاب الأمين[3] في نصه البديع: "إن أولئك الذين يقسمون الحياة إلى قسمين: ملهاة، ومأساة، قصيرو النظر؛ فالحياة أكبر من هذين، وهي تحويهما لأنها أوسع من أن تحد بحالتين فقط، وإن كانت هاتان الحالتان تمثلان طرفي نقيض، وحيث تنتهي الملهاة تبدأ المأساة في حياة كل فرد أو مجموع، كما أن نهاية المأساة قد تكون بداية لملهاة جديدة" وهكذا، في تقلبات المقادير، يتأدب العبد مع تدبير ربه، ويعرف أن النعمة ليست دائمة، ولا المحنة أبدية. |
وما أكثر الذين يُسطّر لهم القدر وجهًا واحدًا من الحياة، فلا يرون من الدنيا غير ملمح من النجاح، أو يتخبطون في نفقٍ من الخيبة لا يخرجون منه، لكن هؤلاء كما يقرر الأمين، ليسوا القاعدة بل شواذّها، إذ يقول" الناجحون في الحياة هم أناس رأوا منها جانبًا واحدًا فقط، وبينهم وبين أن يدركوا معنى الحياة بصورة شاملة عبور الجانب الآخر" وهنا تتجلى حكمة الإخفاق، فهو المعبر الذي يفتح للإنسان باب الإدراك الشامل، ويربيه على كيمياء التوازن في الفهم. |
ولعلّ أبلغ ما يُقال في مقام الخيبة الصادقة، تلك التي تبذل فيها جهدك وتستفرغ طاقتك، ثم لا تُصيب، هو قول الأمين"والخائبون في بلوغ هذا الهدف، مع استمرار كدّهم، هم الذين يستحقون العناية والثناء، لأنهم بذلوا جهدهم كله، وما زالوا يبذلون"وفي مشهد رمزي رشيق، يروي الأمين قصة الغادة التي اختار قلبها الخاسر لا الغالب، ليقول لنا بلغة الحكاية ما لا تُجيده أحيانًا الفلسفة الجافة"قالت لهما: إنها لا تشعر بميل قطعي إلى أحدهما، ولكنها ستهب نفسها للفائز منهما في صراع ينشب بين الاثنين، يقرر الغلبة لواحد منهما! فما راعها إلا أن رآها منكبة على العاشق المصروع، تضمد له أوجاعه، وتهب له قلبها!!" وهكذا تتجلى الحكمة: ليس النصر دومًا في الغلبة، بل في الاستماتة الشريفة. |
ومن هذا الباب تتفرع خرافة "الحياة الحالمة"، وهي الباب العريض للمآسي المتسلسلة، كما جاء في قوله "ومن هذه الأسطورة نشأت شرور (الحياة الحالمة)، والمقامرون هم خير مثال لذوي الحياة الحالمة إذ كان مثلهم الأعلى هو الثروة! والموسوسون هم خير مثال لأولئك الذين يريدون السعادة الطهرية من أقرب طريق!" وما أسوأ أن يظن الإنسان أن الطريق إلى السكينة مفروش بالورود، دون أن يكتوي بسياط التهذيب والمجاهدة. |
وهنا يبرز فضل الخيبة الأولى، فهي الجدار التربوي الذي يُختبر عنده صدق النية، ونقاء الدافع، وصلابة العزيمة، وعند هذه العتبة، تتجلى الفكرة في أن الفشل ليس عثرةً مدوّية، بل درجةً في سلّم الفهم"الخيبة مرحلة من مراحل الحياة يجب أن يتخطاها الفرد لكي يكون ذا تجربة، ولا يضير هذه القاعدة قول (أوسكار وايلد) إن: (التجربة هي اللفظة التي اصطلح الناس على تسمية أخطائهم بها)."وما دام في قلب الإنسان حياء من الله، فإن كل خيبةٍ تصبح خَصلةَ علم، لا وصمة خذلان. |
ويبلغ النص قمته النفسية حين يكشف السرّ المؤلم لانتحار الموهوبين، حين يُمنحون كل شيء دفعةً واحدة، دون أن يتدربوا على المقاومة "ليس انتحار الموسرين والأصحاء والموهوبين إلا لأنهم حازوا أكبر نجاح بأقل خذلان، ولأنهم اصطدموا بالواقع لأول مرة في حياتهم، فجاءت الرجة أقوى مما يتحملون." وهنا ينكشف المعنى للآية: ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض﴾، إذ يتبدّى أن المنع في سنن الله ليس ضيقًا في العطاء، بل سياجًا يحمي القلب من طغيان النعمة قبل أن يتهيأ لحملها، فالحرمان في ميزان السماء قد يكون عين الكفاية، والمنع قد يكون أوسع من العطاء. |
ولذلك فإن فقه التّعثّر يبدأ حين تدرك أن التأخر ليس دومًا عقوبة، وأن التأجيل ليس دومًا حرمانًا، وأن ما فُتح لغيرك وسُدّ عنك، قد يكون حمايةً لك من نفسك، وتمهيدًا لك لتدخل من بابٍ آخر، أوسع وألطف وأقرب إلى الله، يُخفي الله عنك بعض الثمار لتفهم كيف تنمو جذورك في الغيب، ويُغلق بعض الأبواب، لا لأنك لا تستحقّها، بل لأنك لم تُؤدِّ بعد كرامة القرب منه. |
والفارق الجوهري بين المنطق الإيماني ومنطق السوق، أن الوحي يجعل الفشل لحظةَ انكسار تُرجع العبد إلى ربه، ومحراب توبةٍ يصفّي فيه نيّته، ويُراجع به مساره، لا ليرتفع مجددًا في عين الناس، بل ليرتفع في عين نفسه، إذ استبان له أن الله لا يزن الناس بعدد النجاحات، بل بعدد المرات التي قاموا فيها بعد السقوط. أما الخطاب الاستهلاكي فقد اختزل الإنسان في نتيجة، وصار يُقيّمه كما تُقيّم الحصص السوقية، فمن زادت أرباحه نُظر إليه بإجلال، ولو كان من أجهل الناس، ومن تعثر خفي أثره، ولو كان من أصدقهم قلبًا، وهكذا يمضي الزمن، تتآكل فيه النفوس تحت وطأة المقارنة، ويستقيل فيه الإنسان من ذاته لأنه لم يحرز ما يليق بمنشورٍ ذائع. |
يعتقد الناس أن الفشل يمكن تجنبه، وأنه بمثابة شؤم ينبغي الهروب منه. غير أن ماكسويل[4] يقرر أن الفشل ليس شذوذًا في التجربة البشرية، بل هو من صلبها، "فالإنسان كان خطّاء بطبعه، فالفشل مخلوق من سمات البشر" وهذه الحقيقة، التي يتفادها الخطاب التنموي أحيانًا، يُعيد القرآن بناءها بأسلوبه الرباني حين قصّ على البشرية أول حكاية: قصة أبٍ زلّت قدمه، وتاب، وغُفر له. إن الفشل لم يكن طردًا، بل تهيئة، ولم يكن عارًا، بل عتبة توبة، ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾. |
ثم ترى الناس يُحمّلون فشلهم أحكامًا قاسية مصدرها أعين الآخرين لا قلوبهم، مع أن ماكسويل ينبه: "لا أحد في العالم يستطيع أن يسمع ما تفعل مثلما أنت المسؤول الأول والأخير عن حياتك" وتلك معضلة الموازين المعكوسة، أن يبدأ العبد يُقيّم حياته بعيون الخلق، لا بعين مولاه، وتترسخ عند كثير من الناس قناعة أن التكرار في الفشل تفتيت للروح، وتكريس للهزيمة، بينما يُنبه ماكسويل "لا يهم كم قد فشلت، المهم كم من المرات نهضت من جديد" في هذا المعنى تتجلّى سُنّة الله مع أوليائه: أنهم يُبتلون، ويُكسرون، ويُتعبون، لا ليرتدّوا، بل ليصعدوا بنضجٍ لا تصنعه النشوة، بل تصنعه دموع الخذلان، وعزائم العائدين إلى الله. |
الفلاح في سير الأنبياء |
أولئك الذين بعثهم الله ليكونوا مصابيح الطريق، لا يروّجون لذات، ولا يطاردون صورة، ولا يستعرضون إنجازًا، بل يسيرون على هدى الوحي، ويؤسّسون بأفعالهم معيارًا إلهيًا للنجاح، يتقاطع بالكامل مع معيار السوق ومقاييس الجماهير. ولذلك، فإن الذي يطمح إلى أن يعرف "النجاح" في ميزان السماء، لا ينبغي أن ينظر إلى جداول الإنتاج ولا إلى سلالم المتابعين، بل عليه أن يفتح سِفر النبوة، ليرى كيف يُوزَن الأثر عند الله، وكيف يكون العبد ناجحًا وإن لم يتبعه أحد فقد قال الحبيب - صلى الله عليه وسلم - (والنبيَّ ليسَ معهُ أحَدٌ)[5]. |
وفي سورة الأنعام، حيث يسوق الله تبارك وتعالى ذكر صفوة من أنبيائه، تتعاقب الأسماء كأنها قناديلُ نورٍ مصطفّة على جادة الحق: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وداود، وسليمان… ثم تأتي الخاتمة بعبارة مدهشة في دقتها: ﴿أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقْتَدِهْ﴾، ولم يُؤمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعهم بوصفهم أشخاصًا، بل أُمر أن يقتدي بالهُدى الذي كانوا عليه، ليُرسّخ القرآن في قلب المؤمن أن القدوة ليست في الأسماء، وإنما في المعاني التي عاشتها تلك الأسماء، وأن الطريق لا يُنار بآثار الأقدام، بل بالمنهج الذي سارت عليه. |
فالاقتداء هنا ليس تبعيّة شكلية، وإنما صحبة روحية مع الهُدى، اتصالٌ ممتد بين قلبين: قلبٍ أوحى الله إليه، وقلبٍ استجاب لله حين سمع، وحين يطلب الله من نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالهُدى، فإن القلوب المؤمنة تُدرك أن الهُدى هو أشرف ما يُطلب، وأسمى ما يُتّبع، وأن السير في ركاب الأنبياء لا يكون بتقليد الظاهر، وإنما بتشرّب المعنى، واستحضار الطريق، وصدق التوجّه. |
تأمّل في قصة نوح عليه السلام، ذلك النبي الذي لبث في قومه تسعمائة وخمسين عامًا، كما قال تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ دعوةٌ متواصلة، مشيٌ في الأسواق، نداءٌ في الخلوات، صبرٌ على السخرية، وصمودٌ أمام الاستهزاء. |
ورغم هذا العمر الدعوي الطويل، لم يؤمن معه إلا قليل، فقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الذين آمنوا معه كانوا ثمانين رجلًا وامرأة، وإذا قُسِم هذا العدد على سنين دعوته عليه السلام، يكون المعدل تقريباً: كل اثنتي عشرة سنة يؤمن معه واحد، في سياق بشريٍّ قد يُفسِّر البطء على أنه فشل، أو يرى القلّة سببًا للمراجعة أو التوقّف، لكنّ الأنبياء لا يُقوَّمون بحساب الجماهير، بل بمعيار الله وحده، وحين أراد الله أن يختم سيرة نوح عليه السلام في كتابه، لم يذكر عدد الذين آمنوا، ولا ضخامة الإنجاز في أعين الناس، بل قال: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ فكأن النجاح في ميزان الوحي لا يُبنى على حجم المتابعين، بل على مقامات العبودية، وعلى استدامة الشكر في قلب الداعية، وعلى الصدق الذي لا يتبدل حين يطول الليل، ويقلّ الأنيس، ويبطئ الحصاد. |
وانتقل ببصرك إلى يوسف عليه السلام، الغريب المظلوم، المُباع في السوق، المُلقى في البئر، المُتهم في الشرف، المحبوس بلا جرم، ومع كل هذه السلاسل التي تقيّد يديه، إلا أن روحه كانت تحلّق في طلاقة التوحيد: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾، فكان نجاحه لا في خروجٍ سريعٍ من الأزمة، بل في الثبات داخلها، ولم تكن معركته استرداد الحقوق بقدر ما كانت صيانة العقيدة. ولذلك، لما جاءته لحظة التمكين، لم يملأ الأرض ضجيجًا، بل قال بكلمات لا يقولها إلا من فهم سرّ الفلاح الحقيقي: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾. هكذا تُقاس العاقبة: ليس بالتمكين، بل بما تبقّى من القلب بعد التمكين. |
وأما محمد ﷺ، فإن من أعظم دروس سيرته، أن لحظة الوحي لم تكن في مجلس مهيب ولا في حفل تنصيبي، بل في غار… في عزلة… في موطن تأمل، بعيدًا عن أعين الناس، كانت البداية خلوة، لا منصة، دموع، لا تصفيق، ثلاث سنوات دعوةٌ سرية، ثم عشرة من الصبر، ثم هجرة، ثم نفي، ثم حصار، ثم فتح. فلم تكن النبوة مشروع صعود سريع، بل مسارُ تمحيصٍ وتزكية، حتى إذا جاءت لحظة النصر، لم يكن النصر إلا تتويجًا لصبرٍ عظيم، لا لحظة إبهار كانت في الغار، وهكذا فإن النجاح في ميزان النبوة، هو الصدق في المحاولة، والثبات في البلاء، والإخلاص في السعي، ولذلك قال الله -عزّ وجل- لمحمد ﷺ في سورة الضحى، يربّيه على هذا الفقه العظيم: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾. |
إن فقه النجاح كما تُصوّره سير الأنبياء هو خلاصٌ من فتنة "النتيجة"، وتربية على أن العمل مع الله ليس مقاولة، ولا صفقة، بل عبادة خالصة، سواء أثمرت في الدنيا أم تأجلت للآخرة، وقد لخّص النبي ﷺ هذا المبدأ في كلمته الجامعة: " إن قامتِ السَّاعةُ و في يدِ أحدِكم فسيلةٌ، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتَّى يغرِسَها فليغرِسْها.[6]" فليس المطلوب أن تُرى الثمرة، بل أن تَصدق في الغرس، ولو لم يبق في الدنيا وقتٌ للحصاد. |
تغريب الخطاب |
تحت ركام من العناوين اللامعة، تسرّب إلى العقل المسلم خطابٌ جديد، لا يُصادم الدين صراحةً، ولا يرفع راية القطيعة مع الغيب، لكنه يُعيد تشكيل الوعي على نحوٍ يجعل معايير "النجاح" تنسلخ من أصلها التعبّدي، وتُعاد تعبئتها على النمط المادي الصاعد من حضارات الأرض، صار المسلم يُفكّر في النجاح كما يُفكّر الغربيّ العلماني: أرقام، مناصب، شُهرة، توسّع، كفاءة، جاذبية، لا خشية، ولا إخلاص، ولا طلب وجه الله، ولا شوق إلى دار البقاء. |
وأثبتت دراسة الباحثين محمد نعيم جافيد وساجد إقبال شيخ" أن الإسلام ينظر إلى التقدّم بوصفه سعيًا تعبّديًا نحو السعادة الأبدية، لا يقتصر على الدنيا فقط، بل يشمل الآخرة كذلك، بينما تنزع الرؤية الغربية إلى حصر النجاح في المظاهر المادية البحتة بمعزل عن الغاية الإلهية، وقد بيّنت الدراسة أن الحضارة الغربية، رغم هيمنتها، تصطدم جوهريًا بقيم الإسلام، فالإسلام، كدين شامل، يُقدّم حلولًا متكاملة للحياة في مختلف مجالاتها، بروح تعبدية تناقض الطبيعة الوضعية للنموذج الغربي."[7] |
هذا الخطاب لم يأتِ إلى المسلم بلغة الإلحاد، بل بلغة "التحفيز". لم يقل له: لا تؤمن بالله، بل قال له: آمن بنفسك. لم يُحاربه في أصل الدين، بل سرق منه مركز الثقل، فصار الحديث عن النجاح لا يبدأ من التوحيد، بل من تطوير الذات، ولا ينتهي عند الآخرة، بل عند "نسختك المثالية"، تلك التي لا تُوزن عند الله، لكنها تُعجب جمهور المنصات. |
بل لقد جرى تحت هذا الخطاب تهميش الغاية الكبرى للوجود:﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ فكأنها آيةٌ جميلة تُقرأ في الصباح، لكن لا تُنظّم بها الحياة، ولا يُبنى عليها مسار. |
و في دراسة الباحث Hafid Gafaïti المنشورة في مجلة Substance تناول الباحث ظاهرة التصعيد الثقافي المفرط بين العالم العربي الإسلامي والغرب، وخلص إلى أن: "ما تزال نظرة الساسة والمحللين الغربيين – منذ عصر التنوير الأوروبي وحتى الآن – ترى في العالم العربي الإسلامي حالة من (التخلف)، ثم رتّبت على ذلك تصنيفًا هرميًّا يُقصي باقي النماذج الثقافية والاجتماعية إلى مراتب دنيا، والنموذج الغربي بعد عصر التنوير عمّم خطابه على العالم، فربط بين الحداثة الصناعية والتطور الاقتصادي والتفوّق العسكري، واعتبر ذلك جميعًا برهانًا على تفوقه الحضاري، ثم مضى يُعرّف الحضارة بحدوده، والعقلانية بشروطه، والنجاح بمعاييره، وما سوى ذلك محض تخلّف أو تهديد!"[8] |
حين نتأمل هذا الاقتباس في ضوء ما يحدث من تغريب للمفاهيم داخل الوعي الإسلامي الحديث، يتضح أن الخطر لا يكمن فقط في الترويج لصورة الغرب بوصفه النموذج الأرقى، بل في تسلّل هذا النموذج إلى لبّ المصطلحات الإسلامية، فيُعاد تعريف النجاح لا من خلال التزكية والخضوع لله، بل من خلال النموذج الغربي المنفصل عن الغاية الربانية. |
ولعل أخطر ما في هذا التحوّل، أنه لم يكن انحرافًا في النية، بل في المصطلح، ولقد أُعيد تعريف "النجاح" ليُقاس بالحضور لا بالقبول، وحُمّل "تحقيق الذات" بمعانٍ تسويقية لا علاقة لها بالتزكية، فغدت المفاهيم الدينية تُدار بألفاظ معولمة، تفتّت معناها الأصلي، وتُفرغها من مقاصدها التعبّدية، وهنا تتبدى الحاجة الملحّة لا إلى مقاومة لفظية سطحية، بل إلى استرداد معرفي حقيقي، يُفكّك هذه المفاهيم لا على طريقة الرفض العاطفي، بل على منهجٍ تحليليٍّ يؤسِّس البديل من داخل الوحي. |
وهذا ما يلمح إليه الدكتور عبد الوهاب المسيري في تشريحه الدقيق لقضية الترجمة المفاهيمية، إذ يقول: "ما تُرجم كيفما اتفق، لا كيفما يجب أن يكون، بل ينبغي أن ننظر إلى الظاهرة ذاتها، وندرس المصطلح في سياقه الأصلي، ونعرف مدلولاته حق المعرفة، ثم نحاول توليد مصطلح من داخل المعجم يطابق المراد، فتكون تسمية توافق وجهة نظرنا ونتجاوز بذلك تسميات الآخر وأوهامه، وهذا ليس انغلاقاً على الذات، بل هو انفتاح حقيقي بديل للخضوع التام. فالانفتاح: عملية تفاعل مع الآخر، نأخذ منه ونعطيه"[9] وهكذا لا يكون تصحيح المفاهيم مجرّد مقاومة لفظية، بل هو بناء لغوي وفكري ومعرفي، يربط الإنسان بجذوره، ويمنحه لياقة عقلية أمام هجوم المفاهيم. |
الفلاح في محراب الوحي[10] |
إذا أردت أن تعرف منزلة "الفلاح" في خطاب الوحي، فلا تقف عند ظاهر الكلمة، بل تأمل كيف شغلت مساحات شاسعة من الخطاب القرآني، وتوزعت في آيات الترغيب والترهيب، وآيات الوصف والثناء، وآيات القَصص والموعظة، كأنها راية تتكرر لترسم للعبد خارطة الطريق إلى مرادات الله، ولذلك افتتح الوحي حديثه عن الفلاح بالإشارة إلى أنه لا يُعطى جزافًا، بل يُنال بأسباب، ويُقطف بثمن، فقال تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ [الإسراء: 19]، ثم صرّح في مواضع أخرى بأن مفتاحه هو التزكية والتعبد، فقال سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 14-15]، وقال في مقام تزكية النفس: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9]، وكأن التزكية هنا ليست مجرد خلق، بل عبور إلى مقام الخيرية والنجاة، وما أعظم أن يُسجّل في صحيفة عبدٍ عند الله أنه من المفلحين! فإن الله جلّ في علاه يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: 1]، ثم يسوق صفاتهم واحدة تلو الأخرى، كأنها أبواب تُفتح أمام السالكين: خشوع في الصلاة، إعراض عن اللغو، أداء للزكاة، عفة وصيانة، أمانة ووفاء، ومواظبة على الصلاة، كل واحدة منها تروي غصنًا في شجرة الفلاح. |
فالفلاح هنا ليس أمنية معزولة، بل ثمرة تلازم من استقام على الجادة، ولأن الفلاح مقام لا يدركه إلا الصفوة، فقد جعله الله خاتمة لصفات أهل الإيمان، قال تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22]، وكأنما يُقال لمن جمع الإيمان القلبي والانقياد العملي: هذه درجتكم، وهذه رايتكم، وفي موضع آخر قال سبحانه: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]، فدلّ ذلك على أن الخلاص من داء الشح، ومن حظوظ النفس، ومن البخل الداخلي؛ هو من أعظم المراقي إلى الفلاح، ولأن الفلاح ليس مكافأة مؤقتة، بل صفة خالدة، فقد جعله القرآن علامة الناجين، فقال: ﴿لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التوبة: 88]. |
وإذا أردت أن تتأمل في مفاتيح الفلاح كما رسمها الوحي، فاقرأ عن الأسباب، فإنها سننٌ يُناط بها الوصول، وطرقٌ يَتبعها العبد في سبيل نيل الخير الأعظم، ولعلّ أول ما يُستفتح به في هذا الباب: أعمال القلوب؛ ففي حركة الإسلام لا يُبنى العمل الصالح إلا على علمٍ ومعرفةٍ وصدق، وهي ثالوثٌ تُثمره أعمال القلوب، فإن العبد لا ينطلق إلى الله بجوارحه إلا بعد أن يتحرك قلبه نحو الله، ومن تريث ونظر في خطاب الوحي وجد أن الصدق والإخلاص والإنابة واليقين والرجاء والتوكل والخوف؛ كلها من الأعمال القلبية التي يُبتغى بها وجه الله، ولا تُثمر إلا فلاحًا، فصلاح الباطن أصلٌ، والفلاح ثمرة، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُۥ﴾، وكأن الفلاح هو ثمرة الهداية الباطنية، لا مجرد حركة الجوارح. |
ثم يأتي ركن عظيم لا ينفك عن الفلاح، وهو "الإيمان بالغيب"، وبه يُختبر صدق التوحيد، وتُعرف منازل الثقة بالله، فإن من آمن بالغيب علِم أن ما عند الله خيرٌ وأبقى، ومن لم يؤمن بالغيب ضلّ طريق الفلاح، ولو ملأ الأرض عملًا، قال الله تعالى في وصف المتقين: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ﴾، ثم ختمها بقوله: ﴿أُو۟لَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدًۭى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾. |
ومن أصول الفلاح الكبرى أيضًا: الاتباع للنبي ﷺ، فإنه لا يُرجى فلاحٌ ممن أعرض عن هديه، ولا يُؤمن من خالف طريقه. قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ﴾، والمحبة هنا مشروطة بالاتباع، لأنه الطريق إلى محبة الله، ومحبة الله هي الطريق إلى الفلاح. فالذي يستدبر سنته ﷺ ثم يطلب الفلاح، كمن يعكس السير ثم يشتكي من طول الطريق. وأما اليقين، فهو ثمرة الإيمان، وروح التوكل، وعنوان الثبات، من أُعطيه فقد نجا، ومن حُرمه عاش في شكٍ وحيرة. قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾، فالذين لا يعقلون هم من فقدوا اليقين، ولم يؤمنوا بوعد الله، فحُرموا الفلاح. |
وإذا أمعنت النظر في أنوار الوحي، وبحثت عن المفهوم الذي يتكرّر في كل قصة، ويُختتم به كل مشهد، وتلتقي عنده حكايات الأنبياء، ونُذر الأقوام، ومشاهد القيامة، فلن تجد وصفًا أكثر حضورًا وعمقًا من "النجاة"، وهو ذلك الرجاء القديم، والهاجس الأبدي، الذي يراود الإنسان كلما ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وكلما ضجّ في صدره سؤال المصير: هل سننجو؟ |
والنجاة ليست حالةً شعورية، ولا فكرةً وجدانية غائمة، بل هي النتيجة التي يُرتّب القرآن عليها المصير الأبدي، ويجعلها ذروة المقصود، وغاية المنشود، وإذا كانت الشعوب تعيد صياغة "النجاح" في كل عصر، وتُبدّل معيار "السعادة" في كل خطاب، فإن النجاة بقيت ثابتة لا تتبدّل، لأنها مرتبطة بميزان الله لا بمزاج الناس، ولقد قصّ الله علينا أخبار الأقوام، وذكّرنا بمصائرهم، لا لمجرد التوثيق التاريخي، بل ليُرسّخ فينا قانونًا ربانيًّا جازمًا: من أطاع نجا، ومن تولّى هلك. |
تأمل في خطاب القرآن، كيف يتكرر فيه هذا النسق: (فأنجيناه وأهله)، (ونجينا الذين آمنوا)، (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)، (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ)، (أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ). وكأنك أمام لوحاتٍ متتابعة، كل واحدة منها تُعلن أن الطريق إلى الله محفوفٌ بالابتلاءات، مطروقٌ بالفتن، لكن النجاة قدرٌ مكتوبٌ لأهل الإيمان، فالنجاة ليست دواءً يُشرب، ولا حيلةً تُرتب، بل ثمرةُ مسيرٍ طويل، يحمل فيه العبد تقواه، ويخزن في قلبه نيةً صادقة، ويجتهد في الطاعة، ثم يتوسل إلى ربه بدعاء الخضوع: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) ولهذا كانت النجاة دومًا بناءً ثنائيًّا: كسبٌ من العبد، ومنّةٌ من الرب. |
وفي أزمنةٍ ضجّت فيها الأصوات، وارتفعت فيها شعارات الإنجاز، وصار الإنسان يُوزن فيها بكم أنجز، وكم كتب، وكم تابع، وكم أسرع، دخلت مفردة "الإنجاز" على العقل المسلم من غير استئذان، دخلت لا كأداة، بل كمعيار، لا كوسيلة، بل كغاية. أما "الإنجاز" بمفهومه الحديث، فهو ابن المادية، يربطك بنفسك لا بربّك، يقيسك بالأرقام لا بالأثر القلبي، ويجعلك عبدًا للنتيجة، ولو فقدت معها نيتك، وطمأنينتك، وخشيتك. |
وفي مقابل هذا المعنى المستورد، تجد الوحيين يضعان أمامك منظومة مصطلحية كاملة، تصوغ "الإنجاز والنجاح" بمنطق السماء لا الأرض: فيُصبح الفلاح هو ذروة الإنجاز، ويُصبح الفوز هو اسم النجاح الحق، ويُصبح القبول هو الهدف الأعظم من كل سعي، ويُصبح التوفيق هو مِلاك العمل لا حركته الظاهرة، ويُصبح السداد هو بلوغ الحق، لا بلوغ النهاية، وإذا رأيت العارفين بالله، رأيتهم ينفرون من المصطلحات التي تملأ الدنيا جلبة ولا تملأ الميزان وزنًا، لأنهم تعلّموا من أنبياء الله أن العبرة ليست أن تصل، بل أن تصدق في المسير. |
وفي مدارات اللغة الحديثة، يتسيّد مصطلح "الإنجاز" المشهد بكل ما فيه من صخبٍ ووهجٍ ومادية، تتكرر الكلمة على الألسنة كما لو أنها مفتاح الوجود، يُعقد عليها الرضا عن النفس، وتُقاس بها قيمة الإنسان، وتُرسم عندها خارطة المعنى، لكن حين يُسلَّط ضوء الفكر الناقد على هذا المصطلح، ويوضع في مقابلة صريحة أمام مصطلحات الوحيين، يظهر التباعد العميق بين وجهتين: وجهةٌ تُدير ظهرها للغيب، وتُحاكم الإنسان على ظاهر أدائه، وأخرى تُبصره في باطن نيته، وترفعه بقدر إخلاصه، لا بقدر نتائجه. |
وقد أحسنت الدراسات النقدية الغربية حين وقفت على هذا الموطن من الخلل؛ إذ جاء في كتاب The Social Life of Achievement ما نصّه "تُشدد هذه الورقة البحثية على تعقيد "الإنجاز" كاختراع ثقافي، مُسلِّطةً الضوء على التباين بين الأداء الخارجي والنية الداخلية، وتنتقد مفهوم الإنجاز الحديث، الذي غالبًا ما يتماشى مع الفردية العلمانية والقيم الرأسمالية، حيث تُقاس قيمة الذات بالنجاح المادي والتقدير العام. ويتجاهل هذا المنظور الأبعاد الأخلاقية والشخصية للإنجاز، مما يُشير إلى الحاجة إلى فهم أكثر دقةً يأخذ في الاعتبار الإخلاص والدوافع الكامنة وراء الأفعال، بدلاً من الاقتصار على نتائجها فقط. "[11] |
لأن الإنجاز – كما يُشاع اليوم – مفهومٌ مركّب من فردانية علمانية ومن منهجية رأسمالية: فالفرد مطالبٌ أن "يصنع نفسه"، أن "يرتقي بذاته"، أن "يبني اسمه"، وكأن الذات مشروعٌ تجاري، وكأن الغاية من الوجود أن تُنجز ما يُدهش، ولو لم يكن لله فيه نصيب، فالنجاح في هذا المنطق ماديّ المنبع، بصريّ الأثر، لا يزن في كفّة الاعتبار ما إذا كان العمل طاعة أم لا، قربى أم لا، يُرضي الله أم لا. المهمّ أن تُنجز، وأن تُبهر، وأن تُذكر. |
لكن حين تعود إلى الوحيين، وتستفتح دفتر المفاهيم القرآنية والنبوية، تدرك أنك أمام منظومة لغوية وُجدت لتقلب هذا المنطق رأسًا على عقب. وأي توازنٍ أدق من قوله تعالى:﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؟ فالثقل هنا لا يُقاس بالإنجاز الأرضي، بل بثقل الإخلاص، وسداد العمل، وصدق التوجّه، النجاح في لغة الوحي هو الفلاح، والفلاح لا يُنال بالسرعة ولا بالبهرجة، بل بالتزكية: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾. والفوز ليس في كسب مسابقة، بل في مغفرة من الله ورضوان. ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾، والفارق أن "الإنجاز" يصوغ عقلًا يُلاحق النتائج المحسوسة، بينما مفاهيم الوحي تشكّل عقلًا يتجه نحو المقصد الرباني، يُوزِن العمل بالنية، ويجعل الغاية رضا الله. وهذا ما وعاه الإمام ابن القيم حين قال "كان الصحابة والتابعون يتحرون ألفاظ النصوص غاية التحري، حتى خلف من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص، واشتقوا لهم ألفاظاً، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص، فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ[12]." وهنا ينتقل النص من تحليل الانحراف إلى بناء البديل الشرعي المتين، ويُؤسِّس لمرحلة "الاسترداد" التي تبدأ من تحرير المصطلح، فليس الإصلاح في محاربة المفاهيم الحديثة فقط، بل في استعادة ألفاظ الوحي لتكون هي المِيزان، وهي المَعبر، وهي المعقود عليها عقد النجاة. |
ومن الشرفة النفسية، فإن هيمنة خطاب "الإنجاز" على الوعي المسلم لم تكن مجرد تحوّل لغويّ أو اختلال في سلم القيم، بل أحدثت انزياحًا عميقًا في البنية الشعورية للنفس المؤمنة، إذ حوّل هذا الخطاب النفس من موضع الطمأنينة إلى موقع المطاردة، ومن سكون اليقين إلى قلق الأداء، ومن مقام العبودية إلى وهم السيطرة الكاملة على النتائج. |
لقد كانت النفس في ظل المعجم الإيماني تعيش حالةً من السكون المتزن، تطلب الفلاح برفق، وتسعى لله دون لهاث، وتستحضر المعية الربانية حتى وهي في قعر البلاء، لكن حين غزتها مفردات المنجزات والكفاءة والإنتاجية والتحفيز المادي، سُحبت النفس إلى منطقة الاستنفار الدائم، وأُدخلت في سباق لا نهاية له، وأصبح كل تأخّر – مهما كان مبرره – يُفسَّر كعجز، وكل ضعف كفشل، وكل تباطؤ كتهديد للذات. |
وتزداد هذه الصورة وضوحًا حين نقرأ ما جاء في الفصل المعنون بـ Achievement Emotions من كتاب The Social Life of Achievement، حيث يؤكد الباحث راينهارد بيكرون أن "الانفعالات المرتبطة بالإنجاز – مثل الأمل، والقلق، والعار، والملل – لها تأثيرٌ عميقٌ في الدافعية الأكاديمية، وهي مرتبطة بتقييمات الفرد لذاته وإنجازه، بل وتتطور عبر السنوات الدراسية وتؤثر في فاعليته النفسية والتعليمية[13]" والشاهد من هذا النص: أن هذه الانفعالات ليست طارئة على النفس، بل تُعيد تشكيلها على مدى سنوات، مما يُظهر خطورة الانزياح العاطفي الذي تحدثه مفاهيم الإنجاز المادية في النفس المؤمنة، ويستدعي مراجعة معيار التقييم الجوهري الذي يُبقي العبد في مقام الرضا والخشية، لا في دائرة الضغط والاغتراب. |
وهذه الترجمة النفسية لمفهوم الإنجاز أنتجت في كثير من النفوس شعورًا مزمنًا بالنقص، وقلقًا متصاعدًا من "التأخر"، لأنك ما دمت تحاكم نفسك بلغة السوق، فلن يكفيك قلب واحد، ولن تسعك عشرة أرواح ، حتى الصالحون، الذين كانوا يجدون في العبادة والذكر سكينةً ورضًا، صاروا يشعرون بأنهم "غير ناجحين" لأن عبادتهم لا تُرى، ولا تُذكر، ولا تُدوَّن في ملخصات الإنجاز. وهنا تنفصل النفس عن جوهرها، ويبدأ الاغتراب الروحي، حيث يتضخم تقدير الذات على حساب طمأنينة القلب، وتستبدل معادلة ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ بمعادلة: أنجحكم أكثركم تحقيقًا للذات. |
والعجيب أن هذا الضغط النفسي لا يُنتج بالضرورة أداءً أفضل، بل كثيرًا ما يُنتج قلبًا قلقًا، ونفسًا مشوشة، وإنجازًا ملوّثًا، فالنفس حين تُجبر على العمل لا لله بل لمجاراة السوق، لا تُثمر طمأنينة، بل تورث استنزافًا مستمرًا، لأن مطاردة النجاح في المفهوم المعاصر لا تنتهي، ولا تشبع، ولا تعترف بالوقوف لالتقاط النفس، وعلى المدى البعيد، تنمو في النفس مشاعر المقارنة القاتلة، والسخط على الحال، والجزع من التأخر، وربما الحسد لمن سبق، وكلها سمومٌ صامتة تفسد القلب، وتميت نية القرب. |
أمّا النفس المؤمنة، فحين تُحاط بالمفاهيم القرآنية، تتنفس بالرضا، وتسعى بالإخلاص، وتَقبل النقص لأنها تؤمن أن القبول ليس بيدها، لكنها حين تُحقن بمصطلحات الأداء العصري، تُصاب بـ"عُسر في التوكل"، و"توتر في النية"، و"تيه في الاتجاه"، وتصبح عالقة بين ركام المقارنات ومعايير لا تنتمي إلى فطرتها، فيا صاحبي أقول بكل صدق: أنت لا تحتاج إلى المزيد من الإنجاز، بل إلى من التزكية، ولا إلى جداول الأداء، بل إلى جدول خلوة صادق مع الله، ولا إلى نسختك المثالية، بل إلى نفسك الخاشعة، الراضية، المتوكلة، وحين تُشفى النفس من هوس الإنجاز، ستُبصر كيف أن أكثر اللحظات أثرًا لم تكن تلك التي أنجزتَ فيها كثيرًا، بل تلك التي صدقت فيها كثيرًا، ولو لم يرَها أحد، كما في حديث أصحاب الغار. |
ومن عتبة علم الاجتماع، فإن سطوة مصطلح "الإنجاز" على الوعي الجمعي للمجتمعات المسلمة لم تكن مجرد ظاهرة لغوية معزولة، بل كانت نتيجة لتحول حضاري عميق نقل مركز الثقل من قيم الجماعة المؤمنة إلى قيم الفرد المنتج، ولقد أُعيد تشكيل الهرم الاجتماعي، بحيث لم يعد العالِم أو العابد أو الزاهد هو النموذج الاجتماعي الأعلى، بل أصبح "رائد الأعمال"، و"صاحب التأثير"، و"المُلهم" الذي أنجز مشروعًا، أو كوّن ثروة، أو حاز على إعجاب الجماهير، فصارت القيمة الاجتماعية تُمنح بناءً على ما تحققه من إنجازات مرئية، لا على ما تحمله من تقوى، أو ما تُخفيه من صلاح. |
وهذا كله يؤسس لنمط اجتماعي مضطرب الهوية، ممزق الانتماء، يُشيد بمن "أنجز" ولو خالف، ويهمّش من "استقام" ولو خفي، بل ويميل حتى إلى تديين مصطلح الإنجاز، فصار بعض المتدينين أنفسهم يعرّفون الدين بلغة الأداء: "الداعية الناجح"، "المشروع الإسلامي المؤثر"، "المحتوى التوعوي الجاذب"، فاختزلت الهداية في "الانتشار"، ووقع حتى أهل الخير في فخ المنطق الأدائي المعاصر، فصاروا يُغالون في الحضور، ويشحذون الإعجاب، ويتنافسون بأدوات السوق، لا بأخلاق النبوة. |
قداسة العمل |
في زوايا العقل المسلم الحديث، تسلّل مفهوم "الإنجاز" فأعاد تشكيل المعاني الكبرى، حتى تضخّمت في الوعي مفاهيم العمل، والوظيفة، والدراسة، على نحوٍ مفرطٍ لا يُقاس بمقاصدها الأصيلة، بل بما يُمكن أن تدرّه من شعور بالتقدّم، أو صورة للنجاح، أو رتبة في سلّم المقارنات الاجتماعية، ولم يعد العمل وسيلة للعيش الحلال، ولا الوظيفة بابًا من أبواب الكفاية، ولا الدراسة مسلكًا للعلم أو لفهم العالم، بل صارت جميعها في الذهن العام أعمدة لإنجاز يُراد أن يُرى، ويُفاخر به، ويُرصّع به الحديث في المجالس والمنصات. |
فأصبح الشاب منذ طفولته يُربّى على أن دراسته ليست عبادة، بل "رصيد أداء"، وعلى أن العمل ليس عبودية لله في صورة كسب، بل هو مؤشّر اجتماعي على أنه شخص "منتج"، وعلى أن الوظيفة ليست بابًا لأداء الأمانة وكفاية النفس، بل بطاقة عبور إلى خانة "الناجحين". |
وهنا تحديدًا، يبدأ الخلل، حين تُحمّل المفاهيم الوظيفية والدراسية أكثر مما تحتمل، تنقلب من وسائل إلى مقاييس، ومن أدوات إلى غايات، ويبدأ الناس في تقديس العمل، لا بمعناها العقدي، ولكن في امتصاص هذه القيم لكل شيء، حتى يصبح "العاطل" مذنبًا، و"طالب العلم غير المنتج" محلّ شفقة، و"الأمّ التي اختارت بيتها" كأنها سقطت من سُلّم الوجود. |
هناك في الفكر الإداري الياباني يتم استدعاء مفهوم Monozukuri (ものづくり)، الذي يعني حرفيًا "صُنع الأشياء"، لكنه يتجاوز في مدلوله اللغوي حدود الحرفة الظاهرة، ليحمل في عمقه دلالة روحية أخلاقية، حيث يُعرَّف في الثقافة اليابانية بأنه "روح الصنعة التي تمزج بين المهارة العالية، والإخلاص، والتفاني الصامت في أداء العمل، لا لغاية تسويقية، بل لكرامة الفعل نفسه." هذا هو المفهوم – كما ورد في الدراسات اليابانية الحديثة"[14] – لا ينظر إلى العمل كمجرد وسيلة إنتاج، بل يُضفي عليه بعدًا قيميًا، يجعل من الصانع جزءًا من دورة الحياة، ومن الإنتاج رسالة وجودية، يعبر بها الإنسان عن احترامه للأشياء، وانضباطه مع النظام، وتفانيه في الإتقان، فكل حركة في العمل، مهما كانت صغيرة، تُحمّل بمعنى: معنى الانضباط، والاعتناء، والالتزام، وهنا تكمن المفارقة المؤلمة حين يُقارن هذا التصور الفلسفي بالخطاب المعاصر للإنجاز في البيئة العربية، الذي غالبًا ما يُحمّل الإنسان من طفولته بشعار: "أنت ما تُنجزه"، ويُعيد تعريف العمل والدراسة والوظيفة كأدوات لإثبات الذات لا كوسائل لتزكيتها، فيُربّى طالب العلم على أن تحصيله مؤشر على قيمته، لا قربه من الله، وتُقدّر الأم بمدى ظهورها، لا مدى تضحيتها، ويُقاس العامل بكفاءته السوقية، لا بنيّته الخفية. |
وصار الحديث عن العمل مشحونًا بهوس التقدّم، وعن الدراسة محاطًا بالقلق من "الركود"، وعن الوظيفة كأنها برهان الوجود الفعلي للإنسان، وتحت وهم هذا الإنجاز، بات العقل يُكافئ من يكدح دون بوصلة، ويُعظّم من يسهر بلا نية، ويُفاخر بمن تراكمت شهاداته، وإن كان لا يعرف لله طريقًا. |
وقد عرفتُ فئامًا ممن التقيتُ بهم في محطات الحياة، قد استقر في وجدانهم نوع من القداسة لوظائفهم، حتى غدت الوظيفة عندهم صورة الذات ومعيار القيمة، فلا يطيق الواحد منهم أدنى نقاش حولها، ولا يتحمل تلميحًا يُشتمّ منه انتقاص شأنها، وكأن الكلام عن الوظيفة حديثٌ عن ذاته هو، لا عن عملٍ من أعمال الدنيا، تراهم لا يعرّفون أنفسهم إلا من خلالها، ولا يرون هويتهم إلا في مرآتها، حتى إذا خلا بنفسه يومًا، لم يجد في ذاته ما يُعرف به إلا مسماه الوظيفي، ويا لله ما أقسى أن تُختزل نفسٌ خُلقت لله، في بطاقة تعريف دنيوية، أو لقبٍ عارضٍ في رحلة العمر، وإن الإنسان إذا أضاع بوصلته الكبرى، جعل ما دونها من شعارات دنيوية شعارًا، وما ذاك إلا لأن النفس إذا غاب عنها المقصد الأعظم، تعلّقت بما دونه. |
وهنا أرتدي عدسة القانوني، فأستعرض المشهد من زاوية النظام واللوائح، لا من نافذة التأمل المجرد، يمكن القول: إن الأنظمة المعاصرة للعمل – رغم ما تحمله من مزايا تنظيمية وعدلية – قد ساهمت، بطريقة غير مباشرة، في ترسيخ صورة تقديسية للعمل، حتى تجاوزت وظيفته الأصلية كوسيلة للكفاية، وتحول إلى مركز الثقل في شخصية الإنسان وقيمته الاجتماعية، فلم يعد "العمل" في البيئة النظامية الحديثة مجرّد تعاقد على جهد في مقابل أجر، بل صار محورًا تدور حوله بقية أحوال الإنسان، وتشريعاته، وخياراته، بل وحتى أحلامه. |
ففي كثير من الأنظمة الوظيفية المعاصرة، نلحظ اتساع الرقعة التشريعية للعمل، وتمددها إلى مجالات كانت فيما مضى تقع خارج اختصاصها أو مجالها الطبيعي؛ مثل التزامات التفرغ الكامل، وضوابط التداخل بين الوظيفة والعمل الحر، بل وصل الأمر إلى أن تؤطر الأنظمة أوقات الاستراحة، وأساليب التواصل، مما جعل العلاقة النظامية بالوظيفة تلاحق الإنسان في كل تفصيل، فلا ينفك عنها إلا من رحم الله. |
هذا التوسّع في نطاق سيطرة العمل شَرّع له خطاب نظامي جديد، يُفرِط في التركيز على قيم مثل "الانضباط المؤسسي"، و"الولاء الوظيفي"، و"الهوية المؤسسية"، وهي مفاهيم – وإن كانت في أصلها حميدة – إلا أنها حين تُنزَع من توازنها، وتُستعمل كمعايير للانتماء أو الاستحقاق، تنتج أُطرًا قانونية تمحو الحدود بين "الوظيفة" و"الوجود"، وتجعل الإنسان موظفًا قبل أن يكون ابنًا أو أبًا أو عبدًا لله. وقد كان العمل فيما مضى بابًا للرزق، وسعيًا في الأرض، ومجالًا لإعمار الدنيا بمعاني العبادة والاستخلاف، أما اليوم، فقد تَسَلل إلى كل تفاصيل الحياة، حتى أصبحت الشكوى العامة ليست من الجهد، بل من "الحضور الدائم" للعمل في الذهن والروح، من ملاحقته للنفس حتى في عطلاتها، ومن تسلّله الخفي إلى طمأنينة البيوت، وسكينة المجالس، وصفاء القلوب. |
وهم الاستحقاق |
ومن أخصّ أمراض المفاهيم في العقل المعاصر المصاب بوعكة النجاح: وهم الاستحقاق، تلك الفكرة الناعمة التي تتسرّب إلى قلب الإنسان كلما صعد قليلاً في سلّم المنجزات، فيحسب أن نجاحه ثمرةٌ خالصة لاجتهاده، وأن ما ناله، كان حتمًا سيُنال؛ لأنه فقط "سار على الخطة الصحيحة"، وتناسَى أن الموازين في السماء لا تُبنى على عدد الساعات، بل على مقدار الصدق والتوفيق. |
وهذا التصوّر الذهني للنجاح ليس وليد العصر وحده، بل يؤكده علم النفس الحديث في تعريفه الدقيق لمفهوم "الاستحقاق النفسي"، والذي عرّفه باوميستر وفوهس بأنه "اعتقاد عام بأن المرء يستحق أكثر من غيره"، وهو اعتقاد ثابت يلازم صاحبه في مختلف المواقف، ويجعله يرى ذاته الأحق دائمًا، ولو دون مسوّغ، وترتبط هذه النظرة بعدد من الآثار النفسية السلبية كالغضب عند الإخفاق، وقلة التعاطف، والانغلاق على الرأي، بل والعدوانية أحيانًا تجاه من لا يقدّر هذا "الاستحقاق المزعوم".[15] |
وهذا النمط من التفكير هو نَفَسٌ قديمٌ في النفس البشرية، لمّا قال قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص:78]، فكان الجواب: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾، ليبقى عبرةً متكررةً لكل من ظنّ أن الفضل وقفٌ على عبقريته، وأن النعمة توقيعٌ شخصيٌّ على عقله وهمّته. |
ويُنبّهنا القرآن بلطافة خفية إلى وجهٍ آخر للنعمة لا يُرى؛ إذ لا تكتمل نظرتك إلى نعم الله بمجرد تعداد ما أُعطيت، بل تُصبح بصيرًا بها حين ترى ما كُفيت، وفي سورة الكهف، لم يكن الحديث مع صاحب الجنتين تذكيرًا بما بين يديه فقط، بل تحذيرًا مما حُفّت به تلك النعم من احتمالات الفقد والتلف، ﴿فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ [الكهف: 40-41]. ليأتي الجواب تذكيرًا لا بما ناله، بل بما كفاه الله شرّه، من حُسبانٍ من السماء، أو صعيدٍ زلق، أو غورٍ في الأرض، وكأن الآيات تُعيد تشكيل إدراك الإنسان للنعمة: أنها ليست فقط ما تملكه، بل ما لم تُبتلَ بفقده. |
والوعي الإيماني لا يرى النعمة بمعزل عن التوفيق، ولا النجاح منفصلًا عن لطف الله، ولا السلامة مرادفة للمهارة، بل يُعيد كل ما مضى من خيرٍ إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53]، ويستشعر دائمًا أنه في حضرة الكافي، الذي يُعطي ويمنع، ويسوق ويصرف، بلطفٍ لا تُدركه الحسابات ولا تحيط به علوم الإدارة. |
وفي دهاليز النفس خديعة تُزخرف الغرور وتؤنس العُجب؛ فإذا أقبل النجاح، نُسب إلى حنكة التدبير، وإذا نزل الفشل، صُرف إلى قسوة الأقدار! وهكذا يُراوغ التحيّز المعرفي الإدراكَ، فيخدّر الضمير ويخفي اليد المرتجفة خلف غبار الظروف، وهذه الانزلاقات الفكرية ما تُعرف في علم النفس بـ"تحيّز خدمة الذات" و"تحيّز الموافقة"، وهي من أخطاء العزو التي تفتّت ميزان التقييم في العقل الحديث. وقد فصّلت ذلك الباحثة Kendra Cherry في مقالها[16] "إذ يجنح الإنسان إلى عزو النجاح إلى ذاته ومهاراته، بينما يُسند الفشل إلى العوامل الخارجية، في حركة دفاع نفسي تحافظ على وهم التفوّق وتُغذّي خرافة الاستحقاق، وبهذا تُصبح النعمة دليلاً على الجدارة، لا منحة من الله، ويُقطع الخيط الواصل بين العبد وربّه في لحظة الغرور". |
والعبد إذا تملّكته أوهام الاستحقاق، فسدت رؤيته واهتزّ ميزان الامتنان في قلبه، إذ كيف يشكر الله على نعمةٍ يرى نفسه هو صانعها؟ وكيف ينجو من العُجب إذا ظنّ أن النتيجة حتمية بمجرد السعي؟ وإن الإيمان لا ينكر الأسباب، لكنه يُبقي الباب مفتوحًا للسماء، ويعلّق القلب لا بالخطة، بل بالمُوفّق. |
والنبي ﷺ حين علّم الأمة دعاءه العظيم في السجود: "اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين"[17]، كان يُربينا على حقيقةٍ تُفكّك كل وهم: أن النفس، بعقلها، وخبرتها، وتخطيطها، لا تملك لنفسها نفعًا إلا إذا أراد الله. فالنجاة ليست ذكاءً، والعافية ليست تخطيطًا، والفوز ليس ذكاءً إداريًا، بل كل ذلك رزق، وتوفيق، ومنّة. |
زيف الانشغال |
تأمل برهة من الزمن في وجوه كثيرة تمرّ بك كل يوم، وانظر إلى ملامحهم المكدّسة بتعبٍ لا تعلم مصدره، إلى نبراتهم التي تشي بأنهم “مشغولون جدًا”، إلى ألسنتهم التي تردد كمن يُلقّن: “والله ما لحقت”، “مضغوط جدًا”، “ما قدرت أكمل” ثم قف لحظةً واسأل: هل هذا الانشغال كلّه في ما يستحق؟ أم هو “تهرّب شرعي” من مواجهة الواجب الحقيقي؟ والإنسان في هذا الزمان قد اخترع “درعًا” يحميه من تبكيت الضمير اسمه: (الانشغال). |
فالطالب الذي يؤجل بناء ملكته العلمية، ويغرق في مراجعاتٍ عشوائية ومتابعة بثوثٍ متفرقة، يردد في داخله: “أنا مشغول”، بينما هو في الحقيقة يهرب من الخطوة الأصعب: الانضباط، والداعية الذي يتنقل بين الفعاليات واللقاءات، ويشعر بالرضا كلما تكرّر اسمه في اللافتات، يردّد لنفسه: “ليس لدي وقت للكتابة والتحرير العلمي”، لكنه لم يصرّح لنفسه بأن الكتابة تحتاج عُزلةً، ومكابدةً، وتجريدًا عن الضجيج، وهو لم يُرد أن يدفع هذا الثمن. |
إننا حين نخاف من العمل الحقيقي؛ نلوذ بما يُشبهه، ونُشغل أنفسنا بـ”أعمال جانبية” تمنحنا جرعة مؤقتة من الإنجاز، لكننا نعلم يقينًا في قرارة أنفسنا: هذا ليس هو الطريق، أليس عجيبًا أن ترى أحدهم يمضي يومه بين ملفات ومواعيد، وحين يُسأل: أين مشروعك الأساسي؟ يخفت صوته، وتتوارى الإجابة خلف “أعذار مزخرفة”؟ لقد صار “زيف الانشغال” هو الواجهة الاجتماعية الجديدة للمتحايل على الوقت، لا يريد أن يُتهم بالكسل، لكنه لا يريد أن يدفع ثمن التقدم الحقيقي، وما أكثر ما تغدو “الانشغالات” ذريعة لدفن الأسئلة المؤلمة التي تطرق على أبواب العقل: أين أنا من إصلاح نفسي؟ ما موقعي من قضايا أمتي؟ |
وهكذا، يبيت العبد وقد ظن أنه مجتهد، فإذا وزن يومه في ميزان الآخرة، لم يجد ما يرجى، فإن العمل الحقيقي ليس ما يتراكم في رُزنامات الهاتف، بل ما يتراكم في صحيفة العمل الصالح، وفي عمق الأثر، وفي تجريد القلب لله. وشتّان بين مشغولٍ بالله، ومشغولٍ عن الله. |
من الضحك إلى الموت |
ربما يبدو العنوان في ظاهره غريباً، غير أنّه يختزن في باطنه حقيقة تُعلّمها لنا الحياة بصرامة الدرس وهدير التجربة، وهي أنّ الإنسان حين يخطو أولى خطواته نحو الحياة، فإن أول ما يَظهر فيه هو الضحك، بل قد يكون هو أول دليلٍ على وعيه، وتفتّح روحه، فالطفل في الرابعة من عمره يضحك – كما تقول الإحصاءات – مئة مرة في اليوم، كأنما السعادة فطرته، والفكاهة وطنه الأول، لكنه ما إن يتلمّس العتبات الأولى من "العالم الحقيقي" حتى تبدأ ابتسامته في الذبول، ويبدأ صوته بالخفوت، لا لأن الحياة أقل جدارة بالضحك، بل لأنه الآن أصبح "جديًّا بما يكفي لئلا يضحك"![18] |
في استطلاعٍ ضخمٍ أجرته مؤسسة "غالوب" عام 2013م على أكثر من مليون وأربعمائة ألف إنسانٍ في 166 دولة، رُصِد تدهورٌ حادّ في معدلات الضحك لدى البشر، حيث يبدأ الانحدار عند سن الثالثة والعشرين تحديدًا، وقد رصدت هذا المنحدر – المسمى "منحدر الفكاهة" – كلٌ من جينيفر آكر ونعومي باجدوناس في كتابهما اللافت: Humor, [19]Seriously (2021)، حين ذكرتا أن البالغ في الأربعين يحتاج شهرين ونصف ليضحك بقدر ما يضحكه طفلٌ في يومٍ واحد! |
ولعلّ ذلك لأن الإنسان في الثالثة والعشرين غالبًا ما يخرج من دفء الطفولة وبهاء المراهقة إلى برودة الواقع وتكاليفه الثقيلة: التخصص، الوظيفة، الترقّي، العلاقات، أوهام الطموح، قلق الارتباط، سباق الإنجاز، صراع المكانة، كلها تهبط على النفس دفعة واحدة، فتستنزف لحظتها، وتستبدل الضحك بالتخطيط، والبساطة بالحذر، والعفوية بالحسابات. |
لكن الأعجب من ذلك، أن منحنى الضحك يعاود الصعود عند مشارف الثمانين، فهل يكون السرّ في أن الشيخ الكبير خرج – أخيرًا – من العالم الحقيقي؟ لا مالٌ يخاف عليه، ولا منصبٌ يُنافس عليه، ولا نظرةٌ يُبرّرها، ولا قرارٌ يثقله، ولقد خفّت الأثقال، وتكشّفت الأوهام، وعاد القلب إلى فطرته الأولى: أن يضحك لما يضحك له، بلا أقنعة. |
وإذا كان الضحك يُهاجر من وجه الإنسان في ريعان شبابه، ويعود إليه في شيخوخته حين تخفّ الأثقال وتتساقط الزينة، فإن ما يتبدّل ليس الضحك فحسب، بل موازين الحياة كلها؛ إذ يبدأ المرء عمره بصدق الشعور، ثم تأخذه زحمة الطموحات وتكلفة الأدوار، فيخفت صوت الفطرة، ويتكثّف ضباب الإنجاز حول بصيرته. لكنّ الدنيا – كما علمتنا النهايات – لا تظل تُجامل الإنسان طويلًا، بل تمهله حتى يطوي صفحاتها، ثم تُريه وجهها الحقيقي عند مشهد الوداع الأخير، فحين تقترب النهاية، ويحين وقت الارتحال، تُحشرج الروح عند الحلقوم، ويُعرض شريط العمر على عين البصيرة في لحظاتٍ خاطفة، هنالك تنكشف معاني النجاح التي أغرت الناس، وتتهاوى الشعارات التي ملأت المجالس والصفحات، فلا يبقى في ميزان الروح إلا ما كان لله، عند سكرات الموت، حين يذوب صقيع الغفلة، ويبرد وهج الدنيا، فالموت غربالُ المعاني، لا يبقى فيه إلا ما صفا، ولا ينفذ من ثقوبه إلا ما كان خالصًا، فيبحث بين طيّاته عن شيءٍ يربطه بالله، فإذا به – في غمرة الإنجاز – نسي الغاية، وضيّع المقصد، وظنّ أن الحياة تُقاس بمدى “تحقيق الذات”، لا بمدى معرفته لله وخوفه منه ورجائه له. |
وفي مشهد النهاية، حيث لا يبقى للمرء من صخبه إلا أنينه، ومن صيته إلا صداه الخافت، تتبدّى الحقيقة التي طالما هربت منها الأرواح خلف الألقاب، وتحت ظلال الإنجاز: أن الحياة لا تُوزن في بورصات التحفيز، بل تُوزن عند شفير القبر. وهنا، تتجلّى نفاسة ما قرّره نجم الدين المقدسي في "مختصر منهاج القاصدين" حين قال "فمعنى الموت انقطاع تصرف الروح عن البدن، وخروج البدن عن أن يكون آلة لها، وسلب الإنسان عن أمواله وأهله بإزعاجه إلى عالم آخر لا يناسب هذا العالم، وإن كان لا يفرح إلا بذكر الله تعالى والأنس به، عظم نعيمه وتمت سعادته إذا خُلي بينه وبين محبوبه، وقطعت عنه العوائق والشواغل"[20] |
فالموت – في إشراقاته القرآنية – عبور مهيب، وانكشاف عظيم، وإزاحة للستار عن كتابٍ مطويّ في أعماق القلب، تزيّنه زينة الحياة الدنيا، وتكتنفه ألوان البهرج الفاقع، حتى إذا جاء ميقات الحق، ارتفع النداء العلوي: ﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾، وحينذاك يحل ميعاد الغروب، فتتهاوى الزينة، وينكشف القلب على حقيقته، وهناك ينقشع غبار الادعاء، وتظهر صفحات العمر على سجيتها، في صفاءٍ لا يداخله تحرير، وفي وضوحٍ لا يزاحمه تجميل. |
والنجاح الحقيقي لا يُعرَف في أروقة الحياة، بل عند باب القبر، فإذا قيل للعبد: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾، فهذا هو النجاح، وإذا أُعرض عنه، فما جدوى كل “التحقيقات الذاتية” التي لم تُروّض على الخضوع لربها؟ كل نجاحٍ لا يصعد في صحيفة، ولا يُبارك في ختام، ولا يُتوج برضا الله، هو نجاحٌ يُصفّق له الناس في الأرض، وتغلق دونه أبواب السماء. |
حين تقول النفس: “أريد أن أعيش حياتي”، فإن القرآن يردّ بلغة أعلى وأثقل: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، أي لا حياتي لي، ولا موتي لي، بل كلاهما لله، وما بين هذا الشعار القرآني وتلك الأمنية الدنيوية، تقف النفس في مفترق طريقين: طريق التزكية، وطريق التزيين، وطريقٌ يبدأ بالتوبة وينتهي بالرضا، وآخر يبدأ بالإعجاب وينتهي بالندم، فالموت غربال المعنى، به تُصفّى الحياة من زخرفها، وتُوزَن الأرواح على ميزان الصدق، وما لم تُربّ النفس على هذا الميزان وهي في شبابها، ستهرم على سراب. |
حين يتوضأ الطموح |
الطموحات ليست مذمومة في أصلها، ولا تُعدّ خصلةً مدنّسة في فطرة الإنسان، بل هي نبض الحياة، وسرّ الحركة، وبذرة الاستخلاف، لكنها – ككل شيء في عالم العبد – إمّا أن تتّصل بالله فتصفو، أو تنفصل عنه فتجفو، إنما الذي يُفسد الطموحات ليس سموّها، بل وجهتها، وليس ارتفاعها، بل انحراف مسارها، فالطموح الذي لا يبتدئ باسم الله، ولا يتجه إليه، ينقلب من سلّمٍ للارتقاء إلى قيدٍ يلتف حول الروح، يخنقها باسم الإنجاز، ويثقلها باسم الإنتاج. |
وهنا تأتي اللحظة الكاشفة: أن يُعاد تعريف الطموحات في ضوء العبودية، لا في ضوء الثقافة الرأسمالية، وأن يُصبغ هذا الجهد الحثيث بالإيمان، فيتحول من فتنةٍ تسرق النية إلى عبادةٍ تُزكّي القلب، لأن الأصل في الطموح أن يُحرّك الهمّة، لا أن يُربك النفس، أن يُسهم في بناء الروح، لا أن يُغرقها في وهم الصعود، فإذا انقطعت الطموحات عن مقاصدها التعبدية، استحالت سباقًا فارغًا لا يهدأ، وظلّ العبد يسير فيه دون أن يعرف لماذا يسير. |
وهنا تظهر قيمة إعادة التعريف، أن لا تُترك الطموحات في عراء المنافسة، بل تُساق إلى مورد التزكية، أن تُمسَك كل فكرة، وكل مشروع، وكل إنجاز، ويُسأل: هل صفا لله؟ هل حمل من اليقين ما يُزكّي النفس؟ أم من التوتر ما يُكدرها؟ هل هو مشروع تزكيةٍ أم تكديس؟ وهل هو عبادةٌ خفية أم استعراضٌ معلن؟ لأن الطموحات – وإن عظُمت – إذا لم تُغسل من علائق النفس، كانت سببًا في هلاك صاحبها، ولو علت مكانته في الأرض. |
فليس المطلوب كسر الطموح، بل تصفيته، لا إطفاء جذوة الإنجاز، بل إعادة توجيهها، من سباقٍ يستهلك الأعمار إلى سيرٍ يثقل الميزان، أن يُعاد وصلها بالله في كل مفصل: في بدايتها نية، وفي وسطها محاسبة، وفي ختامها تضرّع ألا يُحبطها الله، أن تُعلَّق مشاريع الإنجاز على جدار التزكية، فيُستخرج منها ما يُطهّر القلب، لا ما يُبهر السيرة. |
والدعوة اليوم ليست إلى قعود، ولا إلى كساد، بل إلى تحويل مشاريع الإنجاز إلى مشاريع تزكية: أن يكون أثر المشروع في قلب صاحبه أكبر من صداه في آذان الناس، فإن الطموحات حين تُصبغ بالإيمان، تصبح سلمًا للترقي إلى الله، لا إلى الناس، وتصير وسيلة للتجرد لا للتفاخر، وتتحول من قيدٍ يعذب النفس إلى زادٍ يُنجيها، وتلك – والله – أعظم المعاني: أن تبني صرحًا للآخرة من حجارة الدنيا، وأن تكون مشاريعك في ظاهرها عمل، وفي باطنها عبادة، لأن الغاية التي لا تنتهي إلى الله، لا تنتهي إلى شيء. |
نهاية الوهم |
عند نهاية كل رحلة فكر، وحين توشك الورقة أن تنثني، يبقى علينا أن نلمّ شتات هذه المفاهيم التي أرَّقت وعينا، ونستعيد معًا خيوط السرد، لا لنعيد ما قيل، بل لنربطه بنقطة النور التي هرب منها الإنسان المعاصر في زحمة الضجيج، لعلّ في هذا الربط بصيرةً لمن غفل، وتبصرةً لمن تعثّر. |
لقد سلكنا في هذا المقال دروبًا وعرة من معابر الضلال تلك الطرق المُزيّنة بالألوان البرّاقة، حيث يخطف بريق “النجاح” الأبصار، قبل أن ينهب البصيرة، وتبدأ المفاهيم المسمومة في التسرّب إلى الدم الأخلاقي والثقافي للناس، فتتسع المسافة بين “الغاية” و”الوسيلة”، وبين “المعنى” و”المنظر”، فيتكوّن وهم لا يُرى بالعين المجردة: وهم التحقّق المزيف. |
وفي هذا المعترك، تتجلّى سلطة المفاهيم، التي لا تمارس قهرها بالسوط، بل تُعيد تعريف الحياة نفسها، وتجعل من سُلَّم الترقّي المادي صراطًا مستقيمًا لا يُشك فيه، وهنا تتدخّل هندسة الوعي، لا على طريقة المفكرين والمصلحين، بل على أيدي الحملات، والإعلانات، والخُطب المحنّطة، والخطابات المحنّاة بالأمنيات، وفي ظلال هذه الهندسة، تُعاد صياغة موازين النجاح، بحيث يُقاس الإنسان بقدر ما يملك، لا بقدر ما يتّقي، ويُثمَّن بمرآة الآخرين، لا بحقيقة ما بينه وبين ربّه. |
ومن هذا، لم يكن غريبًا أن نتساءل: كيف تشوّهت المفاهيم؟ وكيف استحال الفلاح إلى “أداء”، والتزكية إلى “مشروع”، والعبادة إلى “منجز شخصي”؟! فهنا بدأت خيوط الاختزال المفاهيمي تتضح: حين قُلِصت الحقيقة لتُناسب الشاشات، وهُذّب الشرع ليُرضي الجماهير، واختُصر الإنسان إلى صورة حسابه الشخصي، أو إنجازٍ يُروّج له. |
ثم جاء التحوّل العنيف؛ ليس انقلابًا على الموروث فحسب، بل على الفطرة نفسها، إذ انقلب الطموح إلى هوس، وأُجهِضت البراءة في مهدها حين صُوّرت الحياة كمعركة دائمة، يخرج منها من يملك أكثر لا من يخاف الله أكثر، ومن معتقل هذا التحوّل، نشأت أغلال الطموح، وهي أغلال مخملية، لا تُشدّ بالحبال، بل بالأمنيات الحالمة. |
ولم تكن القضية في الكثرة أو القلة، بل في البركة، لذا ظهرت معادلة: البركة مقابل الكفاءة؛ فمن الناس من يسعى بالكفاءة فلا يُفلح، وآخر يخطو متعثّرًا ولكن ببركة خفية، فيسبق الأولين إلى رضوان الله، فالمعيار القرآني لم يكن في النتيجة، بل في النية، لأن النية لا النتيجة هي التي تُوزَن بها الأعمال عند من لا تخفى عليه خافية. |
وما بين التزكية التي نادى بها القرآن، والتزويق الذي روّجت له شعارات اليوم، ظهرت فجوة سحيقة: من التزكية إلى التزويق، حتى صار الدين غلافًا أنيقًا لنفسٍ متضخمة، لا ترى الله إلا مرآة لطموحاتها. |
لكن العقلاء لا ينخدعون، بل يتعلمون من عثراتهم، ويتفقهون في سيرهم، وهنا يأتي فقه التعثر، لا بوصفه فشلًا، بل كمحرار إيماني يعيد القلب إلى موضعه الصحيح، وإن في سير الأنبياء، لا سيما أولي العزم منهم، صورة نقيّة لـلنجاح في سير الأنبياء، فقد عُدّ نوحٌ شكوراً، وهو الذي لم يُؤمن معه إلا قليل، وهذا إبراهيم الذي قال الله تعالى عنه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ﴾ [النحل: 120]، وقال قومه عنه ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: 60] فعند الله لا تُقاس القلوب بعدد الأتباع، بل بصدق الاتباع. |
وهذا ما يجعلنا نتحفّظ عند تغريب الخطاب، حين يُنزع من الوحي نوره، ليُغلف بلغة السوق والمهارات، فنجعل من الوحي وسيلة تسويق للنجاح بدل أن يكون طريقًا للفلاح، فـ النجاح في محراب الوحي لا يُقاس بالمنجزات، بل بالخضوع والخشوع، وهو النجاح الذي يرفع الله به أقوامًا، ويضع به آخرين. |
وما بين هذه الانحرافات، برز مفهوم جديد من قداسة العمل، التي أُريد بها التغطية على فراغ المقصد، فجُعل العمل إلهًا، والإنجاز طقسًا، وتُرك السؤال الكبير: "لمن؟ ولماذا؟". |
وبجانب هذا، وُلد وهم الاستحقاق، حين ظنّ المرء أن عبادته تستلزم مكافأة عاجلة، وأنه بما قدّم من خير، له الحق في العوض كما يشاء، ونسِي أن الله يبتلي أحب خلقه، وأن العوض قد يكون رضًا، لا رصيدًا، ولمّا كثُر التزاحم، انتشرت ظاهرة زيف الانشغال، فأصبح التكدّس دلالة جدّ، والحركة علامة نبوغ، والفراغ تهمة، حتى غرق الناس في التشتت وتراكم المهام، وهربوا من التأمل باسم “الإنتاجية”. |
ثم جاءت لحظة الحقيقة، حين انتقلنا من “الحياة الصاخبة” إلى من الضحك إلى الموت، فكل شيء ضحكنا عليه ذات يوم، سيبدو لنا تافهًا في اللحظة الأخيرة، لحظة سكون الروح، عندها فقط يتوضأ الطموح من ركام الغفلة، ويصحو على صوت الحق، ويفهم الإنسان أنّه لم يُخلق ليصنع مجدًا لنفسه، بل ليعبد ربّه. وهنا تتجلّى النهاية الحقيقية، نهاية المفاهيم المغلوطة، والغايات المشوهة، فـ نهاية الوهم هي بداية الحقيقة. |
فغواية المفاهيم أخطر من غواية الشهوات، لأنها تمسّ التصورات لا الرغبات، وتُعيد تشكيل الطريق قبل أن تبدأ فيه الخُطى، ومن لم يُنقّ قلبه من هذه الغواية، عاش عمره في بناء مشاريع على غير القبلة. |
فاللهم خلّصنا من الأوهام التي تتسلّل في ثياب النجاح، واهدِنا إلى ظلال الفلاح، ذلك النجاح الذي يُرضيك، ويُقربنا إليك. |
انتهت الحكاية. |
_______________________________ |
المراجع |
[1] Kiss, K. M., & co-author. (2024). Learning from Failure and Factors Influencing Failure. Periodica Polytechnica Social and Management Sciences. |
[2]Eskreis-Winkler, L., & Fishbach, A. (2019). Not Learning From Failure—the Greatest Failure of All. Psychological Science, 30(12), 1733–1744. |
[3] مجلة الرسالة ٦٩٢/٢٢ — أحمد حسن الزيات (ت ١٣٨٨) ١٤ = ١٩٤٦ م [٦٥٣ - ٧٠٤]←العدد ٦٩٢←الخائبون. . .! |
[4] كتاب الفشل البناء لجون سي ماكسويل. |
[5] الراوي: عبدالله بن عباس - المصدر : صحيح مسلم | رقم الحديث : 220 |
[6] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (479)، وعبد بن حميد (1214) واللفظ لهما. |
[7] محمد نعيم جافيد وساجد إقبال شيخ، مجلة الوفاق، 2021، 4(2)، ص103–117. |
[8] Hafid Gafaïti, Hyperculturization after September 11: The Arab-Muslim World and the West, Substance, Vol. 37, No. 1 (2008) |
[9] إشكالية التميز، ص 110 |
[10] في هذا الفصل، كان النظر في جملة من المراجع التفسيرية واللغوية والفقهية، استضاء بها الفقير، وتأملها، ثم صاغ ما تيسّر من أفكار وأنوار ومقاصده بلغةٍ محاولاً فيها مُلامست مسالك التبصّر، لا على سبيل التقريرات الناقلة فحسب، بل بما يضمّه الفهم والتأمل، مع تصرّفٍ وتعبيرٍ بقلم أعرج، ومن تلكم المراجع التي كان لها بعد الله أثرها في بنيان هذا الفصل: |
· غريب القرآن، لابن قتيبة، ص٢٨، والمفردات للراغب الأصفهاني، ص٥٣٧. |
· تيسير الكريم الرحمن، للشيخ السعدي، ص٢٧٤. |
· تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ٤/٢٨٣، و٧/٣١٥، و٦/٢٩٦، و٤/٢٥٤. |
· مقاييس اللغة، لابن فارس، ١/٣٩٧. |
· بصائر ذوي التمييز، للفيروزآبادي، ٢/٣٥٦. |
· جامع البيان، للإمام الطبري، ١٢/١٤١، و١٦/٢٠٥. |
· محاسن التأويل، للقاسمي، ٦/١٣. |
· تهذيب اللغة، للأزهري، ٤/١٧٠، ولسان العرب لابن منظور، ٤/٣٨٤. |
· المحرر الوجيز، لابن عطية، ٩/٧٣، و١١/٨٧، و٨/٢٤٩. |
· التحرير والتنوير، لابن عاشور، ١١/٢٥٠، و١٠/٢٩١. |
· روح المعاني، للألوسي، ١٨/١٢. |
وقد كان استحضار هذه المراجع لا لأجل استعراض النقول، بل لاستنطاق المعاني. |
[11] The Social Life of Achievement, Book Chapter, Berghahn Books, 21 Oct 2022. |
[12] إعلام الموقعين (4/170). |
[13] Reinhard Pekrun, Achievement Emotions, in: The Social Life of Achievement, Berghahn Books, 2022, pp. 319–334. |
[14] Asai, Toshiko; Hayashi, Hidehiko; Minazuki, Akinori. "Fostering a 'Monozukuri (Manufacturing)' Organization Suitable for the 21st Century Digital Economy." In New Knowledge in a New Era of Globalization, IntechOpen, 1 August 2011. Also published in Romanian Economic Business Review, Vol. 12, No. 2, pp. 57–71. Retrieved: 27 February 2018. |
[15] Baumeister, Roy F., & Vohs, Kathleen D. (2007). Psychological Entitlement. In: Encyclopedia of Social Psychology. Edited |
[16] Kendra Cherry, Understanding Attribution in Social Psychology: Errors in Attribution Are Why We Sometimes Get People Wrong, Updated February. |
[17] التخريج : أخرجه أبو داود (5090)، وأحمد (20430) |
[18] تدوينه بقلم الأنيق أ.عبدالله الوهيبي : حسرة الأيام الأخيرة. |
[19] Aaker & Bagdonas, Humor, Seriously, 2021. Gallup Global Emotions, 2013. |
[20] مختصر منهاج القاصدين، ١/٣٩٧. |
التعليقات