خسوف النية

27 مايو 2025 بواسطة توّاق #العدد 7 عرض في المتصفح
العبادة حين يُطفئها جليد العادة

كنّا في رحلةٍ يكسوها سكون المساء، وقد افترشنا الأرض في حضرة الطبيعة، نستدفئ بنارٍ وديعة، ونتسامر بنبض الرفقة الصادقة، وفيما نحن على سجيّتنا، شرع أحد الأصحاب يتلو من آي الذكر الحكيم، بصوتٍ خاشع تنساب معه الآيات كما تنساب الأنفاس في حضرة من نحب، فسكنت الأصوات، واستقرت الأنفاس، وكأن الوجود كله قد أنصت للقرآن.

غير أن وقع الآيات، على جلاله، لم يكن هو الذي زلزل قلبي، بل ذاك السؤال الصامت الذي دار في أعماقي: كم مرّة تلوتُ هذه السور؟ كم مرّة ردّدها لساني في الصلاة؟ كم خطبةٍ سمعتها؟ وكم ختمةٍ أتممتها، ثم قمتُ كما جلست، وخرجتُ كما دخلت؟ كم صلاة أديتُها ببدني بينما روحي كانت على هامش الركعة؟ وكم سجدةٍ سجدتُها وقد شرد القلب في سوق الدنيا وغاص العقل في تفاصيل الحياة؟!

وهناك، في تلك اللحظة التي اجتمعت فيها نار الحطب ونور الوحي، تذكّرت قول ابن أبي جمرة في [المدخل، لابن الحاج العبدري (٣/١)] "وددتُّ أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شُغلٌ إلا أن يُعلّم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد إلى التدريس في أعمال النيّات ليس إلّا، فإنه ما أُتيَ على كثير من الناس إلا من تضييع النيّات»، وبعد النظر لم تكن تلك الليلة جلسة أنس فحسب، بل كانت استدعاءً للمحاكمة، عندها أدركتُ: أن كل عبادة بلا أثر، هي في حقيقتها عادةٌ مستورة بثوب الطاعة.

قبر العادة

كنتُ أتأمل ذاك التصلّب الذي يصيب العبادات حين تسكنها العادة، فيفقد العملُ صفاءه الأول، وتتحوّل القُربة من منسكٍ روحي إلى إجراء موقّت، ومن معراجٍ إلى الله إلى طقسٍ آليّ خافت الإشعاع، مشلول التأثير.

وما كان هذا التأمل اندفاعًا شعوريًا طارئًا، بل انكشافٌ عن اختلالٍ في البنية العميقة للخطاب التعبدي حين يغيب عنه التوجّه، وتُسيّره الذاكرة المصنعية التي تعيد إنتاج ذات الفعل كل مرة بنفس الطريقة، وليس ذلك دليلاً على عجز الآلة وإنما سوء البيانات المدخلة، فأجسادنا تشهد غياب قلبي، ويكون التذكير بمثل هذه المعاني في اليوم الأول ثم تنسى ويتراكم عليها غبار الغفلة، تساءلت حينها: كيف ينحدر بعض العابدين من مرتبة "الإحسان" إلى حضيض "الاعتياد"؟ كيف تُختطف الشعيرة من مضمار السمو لتُحبس في ردهات الأداء الباهت؟ هذه اللحظة الفارقة بين "حضور الشكل" و"غياب الروح"، بين عبادةٍ تُؤدّى وعبادةٍ تُعاش، والفرق بينهما ليس في الهيئة، بل في المقصد؛ ليس في عدد الركعات، بل في خفوق القلب، وحرارة التوجّه، وحين تسكن العادة في قلب الطاعة، تبدأ العبادة بالتحجّر، ويضمحل منها المعنى، فلا يبقى إلا بقايا حركات، لا توقظ قلبًا، ولا تُصلح نفسًا، ولا تفتح للعبد بابًا من أبواب السماء.

وكنتُ أبحث عن مفتاح لهذا التآكل الخفي، ومن تلك العبارات التي تُفتح بها مغاليق النفس، وتنكشف بها علل الطريق، سطرها أرباب السلوك ومهندسو الباطن أن:"عاداتُ اليقظين عبادات، وعباداتُ الغافلين عادات" فإذا هي قاعدة فكرية تعبّدية تختصر معادلة الانحدار والارتقاء.

فالغافل، وإن أطال السجود، وداوم على الأذكار، ورفع لسانه بالتسبيح، إلا أنّه في حقيقته أسيرُ النمط، سجين التكرار، يؤدّي العبادة بذات الحركات، وبذات العبارات، لكنّ قلبه مقطوع الصلة، لا يخفق في السجود، ولا يضطرب عند التلاوة، كأنّ صلاته مشهد موقّت لتمثيل الواجب، لا بوابة حقيقية للعبور إلى الله.

بينما اليقظ، يعمل على الباطن قبل الظاهر، يُلبس عاداته لباس القُربة، ويوقظ نواياه من سبات العادة، فتصير تفاصيل يومه محاريب: نومه عبادة إن قصد به الاستعانة، وطعامه طاعة إن نوى به التقوّي على الواجب، وضحكته صدقة إن كان بها تطييب خاطر. وهذا الفقيه معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يقول" فأحْتَسِبُ نَوْمَتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتِي.." كما في صحيح البخاري.

ذاك الفرق الجوهري بين من يؤدّي العبادة بـ"جسدٍ بلا معنى"، وبين من ينقش النية في كل حركة، ويُمارس الشعيرة بـ"قلبٍ لهجٍ بالحضور"، وروحٍ تتعطّش للرضا، فهي ليست مسألة كثرةٍ في الأفعال، ولا مبالغةٍ في العدد، بل مسألة توجّه، ومقصد، وصدق عبودية. فمن غاب عنه "المقصد"، بقي حبيس "العادة"، ومن صحّت نيّته، تفجّر المعنى في كل التفاصيل، وسلك بصمتٍ في سُبُل القُرب التي لا تُرى، لكنها في السماء لا تخفى.

فلعلّ عباداتنا قد تسلّلت إليها العادة، فطمست حضور القلب، وسلبت حيوية العبادة، فأدّيناها على سبيل الوراثة لا التديّن، وعلى هيئة الأداء لا الحب، ومن أراد الخروج من "قبر العادة"، فعليه أن يجاهد نفسه في كل حركة، ويستدعي قلبه في كل لحظة، ولن يخرج من هذا القبر إلا من قالها صادقًا: ﴿إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ﴾ لا بلسانه فقط، بل بخفقان قلبه، ودمعة عينه، وسجدة شوقه، وظمأ نيّته.

محراب القصد

حين يتأمّل المتدبّر طرائق الشريعة في رسم خريطة العبودية، لا يملك إلا أن يُدرك أن هذا الدين لم يُرد للمؤمن أن يتورّط في رتابةٍ مُمِلّة، ولا أن يتخشّب في نمطٍ تعبّديٍّ واحد، بل جاءت النصوص الشرعية بهندسةٍ ربانية تُجيد كسر جدران التكرار، وإحياء أرواح المكلفين من سباتهم التعبّدي.

وإنّ الله سبحانه لم يُرتّب عبادته على شكلٍ واحد، ولا ألزم عباده بنمطٍ تعبّديٍ متكررٍ يُفضي إلى البلادة الروحية، بل نوّع لهم الشعائر، واختار لهم من صور الطاعة ما تُجيد به الروح التنفّس في رياض القرب، وهنا تلمح بعين القلب مرادَ الله في تنويع العبادات، لا لمجرد تنويعٍ شكلي، بل لانتشال النفس من صقيع الشكل إلى دفء التوجّه، وهذا التنويع لم يكن ضربًا من الترف التعبّدي، بل هو مقصودٌ شرعيّ، يُربّي في النفوس أن العبودية ليست قالبًا جامدًا، بل حالة قلبية تسري في كل هيئة، وتنبعث في كل حركة.

هذه هي العبادة حين تُهذّب بالنية، وتُعجن بالإخلاص، وتُسقى بماء القصد؛ تتحوّل من عادةٍ مُفرغة، إلى زادٍ تتغذى به الروح، فالعبادة حين تُؤدى من غير قصد، تنقلب إلى قيد، وتخبو جذوتها، وتضيق على النفس، أما حين تُؤدى عن وعي، تتّسع وتثمر، وتُضيء ليل الروح ولو كانت في بساطة ابتسامة أو كلمة طيبة.

فالعبادة - في حقيقتها - ليست تقنيات أداء، بل منازل قصد، ومن لم يذق هذا المذاق، فليُراجع صيغة عبادته، وليفتّش عن حضور قلبه في محرابه، إذ لا تُوزن الصلاة بعدد ركعاتها، بل بمقدار ما أثّرت، ولا يُقاس الصوم بطول الجوع، بل بما زكّى من خُلق، وهكذا، فإن العبادة حين تُهذّب بالنية، تُثمر، وحين تُعتاد دون روح، تذبل وتيبس، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾.

وحين تتطهّر العبادة من شوائب التكرار وتُصفّى بماء القصد، لا تبقى مجرّد شعائر آلية، بل تغدو نَفَسًا مُتعَبّدًا يسري في أوصال الروح، ويهزّ أغصان القلب بثمرات الخشوع، وكان يقول يحي بن أبي كثير كما في - حلية الأولياء – لأبي نعيم – 3/70 "«تَعَلَّمُوا النِّيَّةَ فَإِنَّهَا أَبْلَغُ مِنَ الْعَمَلِ» في هذا الحين ترتقي العبادة من دائرة التكرار إلى مقام التوجّه، فتنقلب الحياة كلها مصلّى، ويتحول الزمن كلّه محرابًا، فلا يعود السجود محصورًا في فسحة الركعة، ولا الصوم مجرّد إمساكٍ عن الطعام، بل تصير الأفعال اليومية شواهد عبودية خفيّة، تسير في الجوارح، وتنتقش في الميزان، وإن لم يرها الناس ولا سمعوا بها.

وانظر إلى هذه الرحمة الإلهية العظيمة حين نوّع الله على عباده طرائق القُرب، فلم يجعلهم على نمطٍ تعبّديٍّ واحدٍ يُكرّرونه حتى تملّه النفوس، وتغشاه آفات الفتور، شرع لهم الصلاة وهي باب الخضوع، والصيام وهو باب التزكية، والزكاة وهي باب الرحمة، والحج وهو باب الشوق، وشرع لهم برّ الوالدين، والسعي في مصالح العيال، والجلوس مع الأهل، والمزاح الخفيف، والبضع بين الزوجين، وجعلها كلها محاريبَ تُسجل فيها الأعمال، كل ذلك من أجل أن يبقى القلب في حالة من التقلّب الخاشع، والتفاعل الصادق، والتوجّه المستمر، فيخرج بذلك العبد من ضيق التكرار إلى سَعة الحضور.

قال صلى الله عليه وسلم: "وفي بضع أحدكم صدقة". وهذا التوجيه النبوي البديع الذي يرفع أدنى مظاهر المعيشة إلى أعلى درجات القربة، متى ما صحّ المقصد، وفيه إشارة إلى أن النية الصادقة تُبدّل هيئة الفعل، وتُغيّر تصنيفه من العادة إلى العبادة، ومن تأمّل هذا الفقه، وعاشه، ذاق ما كان يردّده ابن المبارك رحمه الله: "ربّ عمل صغير تُكبّره النية، وربّ عمل كبير تُصغّره النية." ذلك أن العبرة ليست بحجم العمل، بل بمستوى الصدق الذي سُكِب فيه، ودرجة الإخلاص الذي بُني عليه، وما أكثر ما تسرق العادة روح العبادة، فتجعلها خاليةً من أثرها!

افتقار الروح

وليست المشكلة – في مواطن كثيرة من حياتنا التعبّدية – في صورة العبادة، بل في حرارة القصد، وفي مساحات الحضور التي يغمر بها القلب تلك اللحظة التي شُرّف بها بالوقوف بين يدي الجبّار سبحانه، ولستَ بحاجة إلى عدسة فقه لتُدرك البون الشاسع بين عبدٍ دخل محرابه وقد نال منه التعب، لكن قلبه يرفرف شوقًا، وروحه تتأهب لمعراج اللقاء، وعبدٍ آخر يصلي بجسده فقط، بينما قلبه يتقافز في أروقة الدنيا، يعدّ المصابيح، ويراجع حساب المبيعات، ويرنو بعقله إلى مشهدٍ لا يمتّ للخشوع بصلة.

وإذا مددتَ بصرك إلى مشهد التعبّد في مجتمعاتنا اليوم، وجدت أن الخلل لم يَعد في الإهمال الظاهري وحده، بل تَغلغل إلى لبّ العبادة، تسلّل إليها التكرار الرتيب، حتى تغلّف ظاهرها بقشرة العادة، وتكلّس باطنها بغبش الاعتياد، ولذلك فابن القيم في الفوائد (185) ينقل هذا الدرس الإيماني عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال: إنِّي لا أحمل همَّ الإجابة ولكنْ همَّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإنَّ الإجابة معه، وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته..).

والعبادة، حين تُجتزأ عن مقصدها، وتُختزل في طقوسٍ موقوتة، وتُمارس دون شعور الانكسار ولا رجفة اللقاء، فإنها لا تَزكّي، ولا تُطهّر، ولا تُورث أنسًا ولا حياة، ومتى فقدت العبادة دفءَ التوجه، غدت حركات ميكانيكية لا تختلف عن العادة، وإن كانت بأفصح الألفاظ وأدقّ الهيئات، وإنما الشأن، كلّ الشأن، في القلب المتيقظ، في النيّة المتوثّبة، في خشوعٍ لا يُؤخذ من هيئة الظهر ولا من موضع اليدين، بل يُولد في صميم الشعور حين يقول العبد بصدق: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، فهنا فقط، تبدأ العبادة بالتحرر من قفص العادة، وتعود إلى مسلك التزكية، وترتفع من أرض الأداء إلى سماء الإحياء.

ذاك التكرار البارد الذي يدخل على العبادة، لا يُضعف الأثر فحسب، بل يُشكّل طبقةً من البلادة الشعورية، فلا يعود القلب يتفاعل، ولا العين تدمع، ولا الروح ترتجف، وتغدو الصلاة عادة اجتماعية تُؤدّى كما تؤدّى التحية، دون أن تُنبّت خشية، أو تُصلح خُلُقًا، أو تُورث تقوى، ولذلك، فليست المشكلة أن تُصلّي خمس مرات، بل أن تبقى بعد ألف صلاة كما كنتَ قبلها، أن لا تتحوّل في لسانك، ولا في سلوكك، ولا في وِجهة قلبك، أن تُكثر من الركوع والسجود، بينما لم تسجد نفسك يومًا في محراب الافتقار لله الكريم سبحانه.

والخطر كل الخطر أن نألف العبادة دون أن نحيا بها، أن نُتقن الحركات بينما تتآكل المعاني، أن نسير في طريق الطاعة دون أن نصل إلى مقام المعرفة، ومن علامات العبادة المتخشبة أن يغدو لها وقت محفوظ، لكن بلا توقير، وأن تُؤدى بانتظام، لكن دون رغبة، وأن تُتلى فيها آيات الوعد والوعيد، لكن دون أن ترتجف الجوارح أو تفيق النفس من غفلتها.

وحين يصل العبد إلى هذا المقام من الاعتياد، فلا دواء أنفع له من أن يسأل نفسه بصدق: أين حرارة الخشية؟ أين شوق المناجاة؟ أين أثر العبادة في الطباع والسلوك؟ ثم يأخذ نفسه بالمجاهدة، يوقظ قلبه قبل بدنه، ويُحرّض روحه قبل جوارحه، ويُعيد العبادة من رُكن التكرار إلى فَناء التذلّل.

فما شرعت العبادات إلا لتُصلح القلوب، وما فُرضت إلا لتُصفّي النفوس، وما خُصّصت لها الأوقات إلا لتكون محطات تَزوُّد، لا لحظات إسقاط واجب، ولن تثمر العبادة ثمرتها حتى تُؤدى بقلبٍ يستشعر المقام، ويأنس بالمناجاة، ويذوق لذّة التوجّه، ويستحيي من أن يُخاطب ربه وقلبه شارد، أو أن يُثني عليه ولسانه غافل.

هنا فقط تتحقق العبادة كما أرادها الله، فلا تكون طقوسًا مجزّأةً، ولا ممارساتٍ معزولةً، بل تكون حياةً متكاملةً، تسير في دربها الروح، ويتسابق في ميدانها القلب، حتى يصير حال العبد كما وصفه الله: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" [الأنعام: 162]، فيكون السجود سجودًا للجبهة، وسجودًا للقلب، وسجودًا للحياة كلها، ويغدو العبد عبدًا لله في كل آنٍ، وفي كل حالٍ، حتى يلقى ربه وهو ساجدٌ بقلبه قبل جبينه.

وهذا ابن الجوزي في صيده يقول: تأملت على أكثر الناس عباداتهم؛ فإذا هي عادات، فأما أرباب اليقظة، فعاداتهم عبادة حقيقية. فإن الغافل يقول: سبحان الله عادة، والمتيقظ لا يزال فكره في عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق، فيحركه الفكر في ذلك، فيقول: سبحان الله! ولو أن إنسانا تفكر في رمانة، فنظر في تصفيف حبها، وحفظه بالأغشية لئلا يتضاءل، وإقامة الماء على عظم العجم، وجعل الغشاء عليه يحفظه، وتصوير الفرخ في بطن البيضة، والآدمي في حشا الأم، إلى غير ذلك من المخلوقات: أزعجه هذا الفكر إلى تعظيم الخالق، فقال: سبحان الله! وكان هذا التسبيح ثمرة الفكر، فهذا تسبيح المتيقظين، وما تزال أفكارهم تجول، فتقع عباداتهم بالتسبيحات محققة، كذلك يتفكرون في قبائح ذنوب قد تقدمت، فيوجب ذلك الفكر حركة الباطن، وقلق القلب، وندم النفس، فيثمر ذلك أن يقول قائلهم: أستغفر الله. فهذا هو التسبيح والاستغفار. فأما الغافلون، فيقولون ذلك عادة. وشتان ما بين الفريقين.

بواعث النية الغزالية

حين يكتب الغزالي عن النية، فإنه لا يُعرّفها بمصطلحٍ منطقي جاف، بل ينحتها من لُبّ التجربة الإيمانية، باعتبارها جذوة انبعاثٍ قلبيّ تسبق كل عبادة وتصبغ كل عمل. وقد حاولتُ مقاربة كلامه العظيم في "الإحياء" (4/361–368) بتصرفٍ يسير، لإبراز مركزية النية في مسار العبودية، وارتباطها الوثيق بثنائية العلم والعمل. فليس شيءٌ أدقّ وأخفى من هذا الوصف القلبي الذي لا يصحّ الظاهر إلا بصحته " فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى أن يتعلم النية أولًا لتحصل المعرفة ثم يصححها بالعمل بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص اللذين هما وسيلتا العبد إلى النجاة والخلاص، فالنية، والإرادة، والقصد، ألفاظ متقاربة المعنى، تدل على وصف في القلب، تحيط به حقيقتان: العلم والعمل، فالعلم يتقدم لأنه الأصل والشرط، والعمل يتبع لأنه الثمرة والفرع، فكل حركة أو سكون اختياري لا يتحقق إلا بثلاثة عناصر: علم، وإرادة، وقدرة. إذ لا يمكن للإنسان أن يريد ما لا يعلمه، ولا أن يعمل ما لم يرده.

والإرادة تعني انبعاث القلب إلى ما يوافق غرضه، سواء في الحال أو في المآل، فالإنسان قد خُلق بحيث يلائمه بعض الأشياء وتنافره أخرى، فهو بحاجة إلى إدراك النافع وجلبه، ومعرفة الضار ودفعه. ومن لا يعرف الغذاء لا يمكنه تناوله، ومن لا يدرك النار لا يهرب منها. ولهذا خلق الله له أدوات المعرفة من الحواس الظاهرة والباطنة، لكن المعرفة وحدها لا تكفي، فلا بد من ميل ورغبة وشهوة تدفع نحو الفعل. فالمريض مثلًا، وإن رأى الغذاء وعرف ملاءمته له، لا يتناوله لانعدام الرغبة. وإذا وُجد الميل فلا بد من قدرة تحرك الجوارح، فالله خلق القدرة والأعضاء المتحركة لتتم بها الأفعال، وهي لا تتحرك إلا إذا وُجدت الإرادة، والإرادة لا تنبعث إلا إذا سبقها علم أو اعتقاد يغلب على الظن موافقة الفعل للمقصود، فالنية إذن هي تلك الإرادة المتوسطة بين العلم والقدرة، وهي انبعاث النفس نحو ما تراه ملائمًا لغرضها في الحال أو في المآل. فالباعث الأول على الفعل هو الغرض المطلوب، والمقصد المنوي، والانبعاث هو النية، وتحرك الأعضاء هو العمل.

ثم يتطرق الحديث إلى تفصيل مراتب البواعث، ويقسمها إلى أربعة أقسام:

1.   النية الخالصة: أن يكون الباعث واحدًا مستقلًا، كمن يفرّ من سبع هجم عليه، فلا يريد من قيامه إلا النجاة. وهذه نية خالصة والعمل خالص، لأنها لم تتلوث بغرض آخر.

2.   مرافقة البواعث: أن يجتمع باعثان، كل واحد منهما كافٍ لو انفرد. كمن يساعد فقيرًا قريبًا بدافع الفقر والقرابة، أو يصوم يوم عرفة بدافع الطاعة والحمية. فكل باعث منهما كان كافيًا وحده.

3.   مشاركة البواعث: أن لا يكفي أي من الباعثين وحده، لكنهما إذا اجتمعا نهضا بالفعل، كمن لا يعطي الفقير الأجنبي ولا القريب الغني، لكنه يعطي القريب الفقير. وكذلك من يتصدق للثواب والثناء معًا، ولا يكفي أي منهما وحده لدفعه إلى الفعل.

4.   المعاونة: أن يكون أحد البواعث قويًا كافيًا، والآخر ضعيفًا يعينه. كمن يتصدق في خلوته، لكنه يجد سهولة في الفعل إذا حضر الناس، فلو خلا لم يفتر، لكنه مع الناس يجد راحة.

وهذه الأنواع الثلاثة: المرافقة، المشاركة، المعاونة، تؤثر في الإخلاص، وقد فصل في بيان حكمها في باب الإخلاص، أما المقصود هنا فهو بيان أقسام النيات، لأن العمل تابع للنية ويكتسب حكمه منها.

ثم يفسر الإمام الغزالي الحديث: "نية المؤمن خير من عمله". فيرد على بعض الفهوم السطحية: أن النية خير لأنها سر لا يطلع عليه إلا الله، أو لأنها تدوم، أو لأنها أفضل من العمل المجرد. ثم يبيّن أن النية والعمل إذا اشتركا في أصل الطاعة، فالنية خير من العمل، لأن أثرها في تحقيق المقصود – وهو تصفية القلب – أعظم.

ويشرح الغزالي هذا بالتمثيل الغذائي: كما أن الخبز خير من الفاكهة بالنسبة للقوت، فالنية خير من العمل بالنسبة إلى مقصد الدين، وهو سلامة القلب وسعادته بلقاء الله. ولا ينال هذا اللقاء إلا المحب، ولا يكون الحب إلا بالمعرفة، ولا تكون المعرفة إلا بالفكر، ولا يتفرغ القلب للفكر إلا إذا انقطع عن الدنيا، ولا ينقطع عنها إلا إذا انصرف عنها وأقبل على الآخرة. وهذا الانصراف لا يتم إلا بميل قلبي، يؤكد بالعمل.

فالعمل يغذي الصفات القلبية ويقوّيها، تمامًا كما يغذي الغذاء الجسد. فالتواضع مثلًا، إذا وافق صورة السجود، تأكد في النفس، وإذا فُعل السجود بلا نية أو مع الغفلة، لم يُحدث أثرًا في القلب، بل إن الرياء يضعف نية الطاعة ويؤكد صفة مذمومة، فيكون العمل سببًا في الشر لا الخير".

سنن الأكابر

بكل وعيِ العارفين وحنكة المربّين، يُطلّ علينا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في مشهدٍ باذخ الدلالة، ليعلّمنا أن حتى المزاح، حين يُشحَن بقصدٍ صالح، ويُلبَّس بثوب النية، يمكن أن يتحوّل إلى قُربةٍ تُسجَّل في ديوان العبودية، لا في هوامش الترف، ذلك حين سمع إشاعةَ طلاق النبي ﷺ لزوجاته، فما كان باعثه في الحراك حينها مجرّد غيرةٍ أبوية على حفصة، بل كانت قضيته أعمق: أن لا يُرى وجه رسول الله ﷺ مهمومًا، وأن لا يستقرّ العبوس على جبين النبوّة.

دخل عمر على النبي ﷺ، فوجده في مقام الصمت، لا مقام البسط، فعمد إلى مزاحٍ مقصود، وقال – وهو يبتغي من ضحك الحبيب ما يَجْبُر به همّه –:"يا رسول الله، جئنا إلى الأنصار، فوجدنا نساءهم يغلِبنهم"، فابتسم الحبيب ﷺ، وابتسم الكون كله له، ليست الكلمة في ظاهرها مزاحًا، بل كانت محاولة استرضاء، ومقام تلطّفٍ مشروع، ومراوغة عاطفية لفتح أبواب البِشر على الحبيب ﷺ.

هذه الضحكة النبوية، ما كانت لتكون، لولا فقه عمر الذي أدرك أن من أعظم القُرب: أن تُدخل السرور على قلب نبيٍّ أثقلته تبعات الرسالة، وأن المزاوجة بين الجدّ والرفق، إنما هي من سنن الأكابر، إذا كانت من باب حسن القصد لا تفلت اللسان، فالموقف يُورث درسًا عميقًا: أن العبودية ليست محصورة في القيام والركوع، بل تمتدّ إلى هيئة الكلمة، ومقصد البسمة، وسياق المزاح، متى ما شُحِنت بقصدٍ صالح، وأُلبست ثوبًا من النية، وأن في الدين سعةً تُدخل فيها الضحكة في صحيفة العمل، إذا كانت على هيئة استرضاء، أو تجبير خاطر، أو مسح همٍّ عن قلب متعب.

العبادة حين تفقد مقصدها، تفقد روحها، وتغدو قالبًا خاويًا مهما حسُن ظاهره. ترى صاحبها يُتقن الحركات، ويؤدي الأركان، ويجيد التجويد، لكنه يخرج من العبادة كما دخلها؛ لم تتهذّب له نفس، ولم ترفرف في قلبه خشية، ولم يُولَد فيها أثر، وإن أشد ما يُخشى على العابد أن يعتاد القُرب، فيفعلها لأجل الفعل، لا لأجل القرب، ويؤديها ليُقال قد صلّى، لا لأنه اشتاق لمناجاة ربّه.

وما أكثر من حُرموا أثر الصلاة لا لقلّة الركعات، بل لأنهم لم يُقيموها في قلوبهم قبل أن يُقيموها على أبدانهم، يدخل أحدهم في صلاته وهو يفكّر في أمواله، ويخرج منها كما خرج من اجتماعٍ تجاري، هذه هي العبادة التي استقرّت في "تابوت العادة"، فأُدّيت لإسقاط التكليف، لا لإحياء القلب، فإن قمت للصلاة وأنت تتثاءب من ملل، وتقرأ القرآن وعقلك يطوف في المشتتات، وتصوم شهرًا لا تهذّب فيه لسانك ولا تُغضّ فيه بصرك، فاعلم أن العبادة قد اختُطِفت منك، وأنك أديت جسدها وتركت روحها.

ولئن كانت العبادة تذبل حين تُؤدّى بغير نية، فإن الفعل العادي نفسه يزهر ويعلو إذا سُقي بماء القصد، وهذا ما تُجليه لنا طرائف الفقهاء لا على سبيل النوادر، بل ليرسموا بها معالم الفقه الباطني الذي يُقيم المعاني قبل المباني، ويُقدّم النيّة على الحركة، فقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية (188/12) عن الإمام أبي الفضل الهمذاني الشافعي – وكان والده فقيهًا – أنه قال: "كان والدي رحمه الله إذا أراد ضربي، يقول: نويت أن أضرب ولدي تأديبًا كما أمر الله، حتى لا يكون ظالمًا في ضربه، وإلى أن يُنهي نيته، كنت قد هربت!" وقد يبتسم القارئ لهذا المشهد، لكن المتأمل فيه يرى وجهًا آخر من فقه التربية وعمق الشعور بالمسؤولية؛ إذ كيف لا يُسمّى الضرب أدبًا إلا إذا قُدِّم بين يديه قصدٌ مشروع، ونيّةٌ تُهذّب الفعل وتُقوّمه، وإن من دقائق الشافعية – كما في قواعدهم – استحباب التلفظ بالنية في العبادات، لا تعصبًا للشكل، بل تقويةً للتوجّه، وكسرًا لجمود العادة، وتذكيرًا للعبد في كل طاعة أن المقصود قبل الأداء، والقصد قبل الحركة، وأن الفعل – وإن استوفى هيئته – يظل معلقًا في الميزان، لا يوزن إلا حين تُنقش عليه نيةٌ من نور.

والعبادة حين لا تُثمر خُلقًا، ولا تُزكّي قلبًا، ولا تُعيد تشكيل سلوكك؛ فاعلم أن الخلل ليس في النصوص، بل في طريقة تلقيك لها. فقد ينهمر الوحي في السمع، لكن القلب مسدود بغشاوة الغفلة، والنية غارقة في العادة، والوجدان مأسور بهوامش الحياة، وإن من علامات العبادة الحقيقية أن ترى آثارها بينك وبين نفسك، ثم في علاقتك بالناس، ثم في بصيرتك بالعالم.

الصوم.. حين يُصبح حمية غذائية: ليس الصوم عن الطعام فحسب، بل صوم العين عن النظر، وصوم اللسان عن البذاءة، وصوم القلب عن الحسد، ومن لم يصم بهذه الصورة، فصومه مجرّد انقطاع غذائي لا يساوي عند الله شيئًا، وقد قال النبي ﷺ: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". والصوم حين يفقد آثاره السلوكية، يُصبح عادة صحية، لا شعيرة ربانية، والصوم الحقّ هو الذي يترك أثرًا بعد الإفطار، ويصوغك بعد رمضان، وتبقى حرمته في قلبك ولو سقطت الشمس عن الأفق، هو الذي يُولد فيك خشية الله، لا حين يرى الناس صيامك، بل حين لا يراك إلا الله، واجعل من صيامك طريقًا إلى التقوى، فذلك ما أراده الله حين قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

ومن دلائل صدق النيّة ورفعة المقصد، أن العبد إذا خلصت وجهته لله، لم يعد يرى المشقة مشقة، ولا الخسارة خسارة، بل يُبدّل الله في قلبه معايير الألم والمكسب، فيغدو كل بذلٍ رفعة، وكل فَقْدٍ غنيمة، وكل تعبٍ خطوةً في طريق الرضا، فالمخلِص – كما قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله –:"قد علَّق قلبه بأكمل ما تعلقت به القلوب من رضوان ربه وطلب ثوابه، وعمل على هذا المقصد الأعلى؛ فهانت عليه المشقات، وسهلت عليه النفقات، وسمحت نفسه بأداء الحقوق كاملة موفورة، وعلم أنه قد تعوّض عما فقده أفضل الأعواض، وأجزل الثواب، وخير الغنائم." وهذا القلب الذي لم يعد يتاجر مع الناس، بل يبيع لله، ويشتري منه، ويزن دنياه بميزان الآخرة، فيا من ضاقت عليه العبادة، ووهنت همّته في طريق الطاعة، لا تفتّش في البدن، بل فتّش في المقصد؛ فحين تصدق النيّة، تُختصر المسافة، وتطوى عنك المشقة، لأنك لم تعد تمشي بجسدك فقط، بل تسير بقلبٍ قد علّق وجهته بالله، ورضي بما عنده، واستراح إلى وعده.

الخروج من التابوت

النية هي سرّ العبور من درك العادة إلى فردوس العبادة، تلك الشعلة الخفيّة التي لا تراها العيون، ولكنها تُحرّك جبالًا من الأجر، وتغيّر تصنيف الفعل في سجلات السماء، الناس في الظاهر قد يتشابهون: يمشون، ويضحكون، ويأكلون، ويجلسون مع أهليهم، ولكن في الملأ الأعلى، ليسوا سواء؛ فثمّة من يُسجّل في صحيفته جلوسٌ عابر، وآخر يُكتب له مجلسُ برّ وصِلة؛ لأن ذاك نوى الترفيه عن والدَيه، أو تعليم أولاده، أو إدخال السرور على قلب زوجته، النية ليست لفظًا يُتمتم به اللسان، بل مقصِدٌ عميق يُسكب في جوف الفعل، فيُبدّله من أرض العادة الميتة إلى سماء القربة الباذخة، ولذلك، فإن أخطر ما يُمكن أن يطرأ على حياة المتدين أن تتحوّل عباداته إلى سلسلة من الطقوس المجوّفة، يؤدّيها كما يُؤدى العرف، ويسقطها كما يُسقط الحرج، لا حرارة فيها ولا شوق، لا شوق فيها ولا قُرب، لا قُرب فيها ولا عبودية، النية هي الميزان الذي يُعيد ترتيب الحياة كلّها؛ فلا يعود النوم راحةً جسدية، بل استعدادٌ لقيام الليل، ولا يكون الطعام شهوةً مُباحة، بل تقويةٌ على أداء الرسالة، ولا يصير الصمت غفلة، بل تدبّرًا، ولا يُصبح المزاح هزلًا، بل بلسماً يُدخل السرور على قلب مؤمن، وهكذا تُبنى الحياة كلّها على شعورٍ عميق أن "كل خطوة تُقرّب"، متى ما سُكبت فيها النية.

وما أحسن ما قاله الغزالي " العمل بغير نية عناء والنية بغير إخلاص رياء " المجاهدة هي طريق الخروج من التابوت، التابوت الذي يُقيّد العبادة في إطار العادة، ويُفرغها من حرارتها، ويحوّلها من ميدان تربيةٍ وتزكية إلى حركات مكرورة لا تُنبت تقوى، ولا تُغرس خُلقًا، ليس الخروج من هذا التابوت طريقًا مفروشًا بالورود، بل هو طريق المجاهدة، ومضمار الانتباه، وجسرٌ من التعب لا يُقطعه إلا من رغب في مقام الإحسان، واشتد شوقه إلى أن تكون عبادته حياة لا عادة، وروحًا لا جمودًا، المجاهدة أن تُفتّش عن قلبك في كل سجدة، أن تستنطق نيتك في كل ركعة، أن تُمسك بزمام نفسك حين تُقبل على الطاعة فتنفض عنها رداء الغفلة، وتلبسها كساء القصد، المجاهدة لا تعني المثالية المستحيلة، بل اليقظة المستمرة، أن تستشعر أن قلبك يتفلّت، فتسترجعه، أن تشعر بثقل الطاعة، فتُصابر، أن تلمح دخان العادة يزحف على عبادتك، فتُنذر قلبك بالحرب، وتُقاوم لا بالترك، بل بالإحياء، لا بالهجر، بل بالتصحيح. ولأن هذا الطريق شاق، جاء وعد الله لأهله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]، فمن جاهد نفسه ليُقيمها على مقام القُرب، هداه الله، وساق إليه أبوابًا من النور لم يكن ليراها في حال الفتور، ومن صابر نفسه على استحضار النية، ومراقبة القلب، وتتبّع آثار العبادة في سلوكه، رزقه الله فتحًا من فهم، ونورًا من بصيرة، وذوقًا من حلاوة العبودية لا تُشترى بكدّ ألف عملٍ بلا نية.

المجاهدة هي خريطة العبد إلى الله، وحين يغيب عنها، تغيب عنه الحياة الحقيقية للعبادة، ويكتفي منها بالكسوة، لا الجوهر، وبالواجب، لا بالشوق، وبالعدد، لا بالأثر. فاحمل سلاح المجاهدة كلما شعرت ببرود الطاعة، وأوقد شعلة النيّة كلما امتدّ ظل العادة، واصبر على طول الطريق، فإن كلّ خطوة تُقرّبك، وكل لحظة إخلاصٍ تُرفع لك، وكل دمعة خفية في محاريب المجاهدة تُكتَب لك عند ربٍ لا يضيع عنده مثقال ذرة. فيا من سكنتْ عباداته في تابوت الرتابة، افتح هذا التابوت بالمجاهدة، واجعل من قلبك جناحًا لا طقسًا، ومن عبادتك عبورًا لا تكرارًا، وسِر في درب الذين جاهدوا، وفي الأنوار الكاشفة - قال العلامة ‏المعلمي: (وسنّة الله عز وجل في المطالب العالية والدرجات الرفيعة: أن يكون في نيلها مشقة؛ ليتم الابتلاء ويستحق البالغ إلى تلك الدرجة شَرَفَهَا وثوابها).

وحين تتسلل العادة إلى العبادة، تبدأ بالتكلّس، تُطفئ جذوة الشوق، وتُسكّن حركة القلب، وتُحيل القُرب إلى رسم خاوٍ، وحين يفقد العبد شعور "المناجاة"، ويُؤدي الفريضة وقد غاب عنها الخضوع، ويختم القرآن دون أن يمرّ على قلبه أثر آية، فليعلم أن عبادته دخلت "تابوت العادة"، واستقرّت هناك، وإنّ الخروج من هذا التابوت لا يكون بزيادة عدد، ولا بإطالة ركعات، وإنما يكون بإحياء النية، وتحريض القلب، وفتح باب المجاهدة، ذلك أنها ليست خيارًا تكميليًا، بل مدخلًا إلزاميًا لكل من أراد أن تكون عبادته حيّةً تُثمر وتُزكّي، المجاهدة أن تصارع غفلتك قبل وساوسك، وأن تستحي من التكرار الفارغ كما تستحي من الذنب الظاهر، هي أن تُجبر قلبك على أن يعيش العبادة لا أن يؤدّيها فحسب، وإذا كانت النية هي وقود العبادة، فإن المجاهدة هي طريقها، وإذا فقدت إحداهما، تخلّفت الثمرة، وغاب الأثر.

النية العملة المؤثرة.

وهكذا فإنّ العبادة ليست طقسًا جسديًا يُؤدّى في لحظة زمنية ثم يُطوى، وإنما هي انخراط وجوديّ كلّي في ميثاق العبودية، هي اصطلاح على مقام "الافتقار المستديم"، ومزاولة واعية لمناسك القُرب في حضرة الملك الحق، عزّ وجل، وحين يغيب هذا المعنى الكليّ، ويتحوّل التديّن إلى مجرّد سلوك اعتيادي يُؤدى تحت سقف التكرار، تكون العبادة قد انسحبت من معناها، ووضعت على  "نعش العادة"، حتى تُصاب بجمود الشعور وتخشّب القصد.

والخطورة هنا ليست في نقصان عددٍ أو ترك شعيرة، بل في استبطان العادة داخل أروقة العبادة، حتى لا يعود القلب يتفاعل، ولا الجوارح ترتجف، ولا الذهن يستحضر عظمة الموقف، تغدو الصلاة حركةً بدنية خاوية من شوق اللقاء، ويغدو الصيام حمية موسمية بلا أثر تهذيبي، ويغدو الذكر تكرارًا لفظيًا لا يُخلّف أثرًا في الضمير. وذلك هو الخلل العميق الذي تُنذر به العبادة حين تفقد مقصدها وتتحوّل من "مِعراجٍ إلى الله" إلى "واجب يُسقطه التقويم".

وفي خضم هذا الخطر الصامت، تبرز النية كجوهر التحوّل، والنية هي هندسة باطنية تُعيد توجيه السلوك إلى قبلة القُرب، وهي العملة المؤثرة التي تُتداول في بورصة الغيب، فإذا صلحت صلح الفعل، وإذا فسدت بقي العمل في دنيا الناس، لكنه سقط من ديوان السماء.

وهذا النص البديع لابن الحاج العبدري(ت 737 هـ)قال: "ولا يختلف العلماء أن العلم أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله عز وجل، وإذا كان أفضل الأعمال فيتعين تخليصه لله تعالى فيبتدئه أولا بالإخلاص المحض؛ حتى يكون الأصل طيبا فتأتي الفروع على هذا الأصل الطيب فيُرجى خيره، وتكثر بركته، والقليل من العلم مع حسن النية فيه أنفع وأعظم بركة من الكثير منه، مع ترك المبالاة بالإخلاص فيه، ومن مراقي الزلفى للقاضي أبي بكر بن العربي - رحمه الله تعالى - قال بعض السلف: من طلب العلم لوجه الله لم يزل مُعَاناً، ومن طلبه لغير الله لم يزل مُهَاناً انتهى. هذا إذا كان هو الداخل بنفسه لطلب العلم، فإن كان وليه هو الذي يُرْشِدُه لذلك فيتعين على الولي أن يعلمه النية فيه، وليحذر أن يرشده لطلب العلم بسبب أن يرأس به، أو يأخذ معلوما عليه إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، فإن هذا سم قاتل يخرج العلم عن أن يكون لله تعالى بل يقرأ، ويجتهد لله تعالى خالصا كما تقدم ذكره، فإن جاء شيء من غيب الله تعالى قبله على سبيل أنه فتوح من الله تعالى ساقه الله إليه لا لأجل إجارة، أو مقابلة على ما هو بصدده إذ أن أعمال الآخرة لا يؤخذ عليها عوض.

وقد رُوِي أن يحيى بن يحيى راوي الموطأ لما جاء إلى مالك ليقرأ عليه فقال له مالك: اجتهد يا بُنَيّ، فإنه قد جاء شاب في سنك فقرأ على ربيعة، فما كان إلا أيام وتوفي الشاب فحضر جنازته علماء المدينة، وَلَحَدَهُ ربيعة بيده، ثم رآه بعد ذلك بعض علماء المدينة في النوم، وهو في حالة حسنة فسأله عن حاله فقال: غفر الله لي، وقال لملائكته: هذا عبدي فلان كانت نيته أن يبلغ درجة العلماء فبلغوه درجتهم فأنا معهم أنتظر ما ينتظرون. قال فقلت: وما ينتظرون قال: الشفاعة يوم القيامة في العصاة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان ذلك كذلك فينبغي له أن لا يسعى لطلب المعلوم، ولا في زيادته، ولا في تنزيله في المدارس، ولا في الوقوف على أبواب من يرجى ذلك منهم، فإن فعل شيئا مما ذكر كان ذلك قدحا في نيته..."  والنص بطوله في كتاب «المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على بعض البدع والعوائد التي انتحلت وبيان شناعتها» لأبي عبد الله محمد العبدري المعروف بابن الحاج(ت737هـ)، (1/315).

ماذا لو كانت نوايانا تُعرَض للناس…؟

لو أن الله شاء — لحكمةٍ ما — أن يجعل النيّة لا في سويداء القلب، بل على جبين العبد مكتوبة، أو على طرف لسانه منطوقة، أو على صفحة كتفه مرئية؛ فصار الناس يرون نوايا بعضهم كما يرون هيئاتهم، ويدركون مكنونات صدورهم كما يدركون أطوالهم وألوانهم فكيف كنا سنعيش؟ تخيّل أن تصعد المنبر لتخطب، أو تقف بين الصفوف لتصلي، أو تنشر آية أو فائدة في مجلسٍ عام، ثم يُرى إلى جوارك سطرٌ يقول: "نيّته: لِيُقال خطيبٌ، أو ليُقال فقيهٌ، أو ليُقال مثقفٌ واعٍ!" وتخيّل أن تُقدّم الصدقة في يد مسكين، وفي يدك الأخرى لوحة مكتوب عليها: "يرجو بها مدحَ الناس، أو صورة في مقطع، أو إعجابًا في الشبكة."

النية اليوم مستورة، ولكنّ الله يراها، وغدًا تُكشف، ولكن لا للناس، بل في يوم لا ينفع فيه مدحُ الناس ولا تصفيق الجمع، بل في يوم ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق: 9]، يومٍ لا تُسأل فيه عن شكلك، بل عن صدقك، ولا عن مقالك، بل عن قصدك، ويا لله لو كُشف المستور، لربّ عملٍ صغير عند الناس، عظيم في صحيفة صاحبه، لأن فيه نية خفيةً خالصةً، لا يعلمها إلا الله، ولربّ عملٍ عظيم في الظاهر، ضئيلٌ في ميزان الله، لأن نيته نخرتها المجاملة، أو أثقلتها الرياء، أو لوّثتها المنافع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اللهم يا مقلّب القلوب، أقبل بقلوبنا إليك، واقطع عنها حبال العادة، وانقلها من هوامش الأداء إلى صميم القُرب، ومن طقوس الجسد إلى معارج الأرواح، اللهم لا تجعل عباداتنا رسوماً خاوية، ولا سُجودنا أطلالًا ميتة، ولا صيامنا عادةً موسمية، بل اجعلها كلها نوافذَ تُطلّ بها أرواحُنا على رضوانك، ومنازلَ نرقى بها إلى مراتب الإحسان، اللهم إنّا نعترف بين يديك بثقل الغفلة، ووحشة الاعتياد، وضياع النية في زحام التكرار، فهبْ لنا من لدنك يقظةً تُعيد ترتيب المقاصد، ومجاهداتٍ تُنقّي مدارك الطاعة من شوائب العرف الموروث، اللهم اجعل نيتنا في كل طاعة خالصةً لك، لا رياء فيها ولا اعتياد، وازرع فينا يقين العارفين، وخشوع المخبتين، وشوق المنيبين.

آمين...آمين.

حنينالمعتز باللهياسر6 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة توّاق البريدية

نشرة توّاق البريدية

هذا البريد خيطٌ رفيعٌ يربطني بما يستحق أن يُحفظ في الذاكرة، فليس مجرد سطرًا في قائمة، ولا إشعارًا ينطفئ مع الوقت، بل هو لحظة توقّف وسط الركض، ومجال للتأمل في عالمٍ لا يكفّ عن الاندفاع.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة توّاق البريدية