الرياض و أخواتها

بواسطة توّاق #العدد 6 عرض في المتصفح
عن خدش المدن للأرواح

ثمّة تحوّلات لا تُعلن عن نفسها، ولا تُباغتك بصوتٍ عالٍ، لكنها تُغيِّر كل شيء بهدوء، يتبدّل الإيقاع، ويتسرّب شيءٌ من دفء الحياة، دون أن يُغادر أحد، المدينة ما زالت قائمة، والأرصفة ذاتها، والوجوه ذاتها، كأن المعاني التي كانت تؤثث الحياة تراجعت، وصار القلب يُحسّ أنّه في مكانٍ يعرفه تمامًا، ولا يعرفه أبدًا.

هكذا تمضي المدن حين تنفتح على العالم، وهكذا تبهت ألوانها شيئًا فشيئًا، تحت إلحاح التغيير، كانت الرياض، بالأمس القريب، تحمل ملامح القرية الكبرى: دفء اللقاءات، وبساطة العيش، ومودة الأرواح التي تتلاقى على العفوية والطمأنينة.

أما اليوم، فقد جرفها تيار التبدل السريع، فانقلبت معايير القرب، وأصبحت سرعة الإيقاع تسابق نبض الناس أنفسهم، منذ سنوات أنفر من التغيير السريع، أخشاه على ملامح الوجوه كما أخشاه على معالم الأمكنة، وكنت أتحسر حين أرى الرفاق يتوارون خلف جدران الانشغال وأنا منهم، تتسارع بهم الحياة نحو غايات لم يعودوا يتأملونها، وها نحن نرى المدن تكبر حجماً، وتضيق روحًا: تُشحذ فيها الأبراج والطرقات، بينما الأرواح تزداد غربةً ووحشة.

المدينة الحديثة اليوم تستهلك الإنسان: تستهلك وقته، وهدوءه، وتماسكه العاطفي، وصفاء ذهنه، تكاليف الحياة تصعد، والعلاقات تتقلص إلى مصالح سريعة، ثم تتبخر مع أول هبة اختلاف، لا بيوت عامرة بالأهل، ولا مجالس تفيض بالمحبة، بل تواصل أشبه ببرقيات إلكترونية جافة، وعلاقات سرعان ما تسقط مع أول اصطدام بالأنانية الحديثة.

من الرياض إلى سائر المدن الخليجية، في مشهد تحسبه ظاهرياً عمرانًا، ولكنه يخفي في طياته تصحرًا بطيئًا يصيب الأرواح والعلاقات، تكاد تشعر أن الناس تتسابق لبناء مدنها الحجرية، بينما مدن القلوب تتداعى دون أن يحسوا بذلك.

أكثر ما يخيف في هذا التحول: خفوت المروءة عن البعض، وتراخي خيوط الصلة بين الأرحام، نقرأ معدلات الطلاق تتصاعد، وتفكك الأسر يتمدد، وكأن المدنية حين تغزو العمران تسحب معها صلابة الروابط، والخطر في المدنية الحديثة ليس في المظاهر العمرانية، بل في نسف المنظومة التي كانت تحفظ الإنسان متماسكًا مع ذاته وأهله وربه، ثم ليس الخوف من تغير الأسواق والمطاعم والشوارع، بل من تصحر القلوب وتيبس العلاقات التي كانت تروى يوماً بماء الرحمة والمودة.

وفي زمنٍ مبكر، وقبل أن تُنظّر الجامعات لعلاقة المدينة بالقرية، لمح الأديب حمزة شحاتة أثر التحول العمراني على الأخلاق، فربط بين ازدحام المدينة وظهور الكذب بوصفه ضرورة اقتصادية، فقال: الكذب أقل في القرية من المدينة بسبب قلة الزحام على أسباب العيش… لكن الكذب في المدينة العامرة، ضرورة اجتماعية واقتصادية، تعين على الرواج، انتعاش حركة التبادل والإقناع، فلو ساد الصدق فيها، أُصيبت مجالات الحركة والنشاط بشلل…) (الرجولة عماد الخلق الفاضل، ص 75–76) في لفتةٌ مبكرة تكشف أن التحوّل الأخلاقي قد يبدأ من شكل المكان لا من ضعف الضمير.

ثم حين تُفتح بوابات المدن على مصاريعها أمام رياح “العولمة”، لا تدخل التحولات وحدها، بل تدخل معها هندسة جديدة للوجدان، وتُعاد صياغة المعاني قبل أن تُعاد صيانة الشوارع، المدن المدنية المعاصرة، ما لبثت أن باغتها سيل المدنية المتدفّق، لا من جهة البناء، بل من جهة البُنى؛ فاختُزلت الروابط في نسق مصلحي هشّ، وتحوّلت بوصلة الحياة من الطمأنينة إلى التسارع، ومن الامتلاء الوجداني إلى الكثافة الإجرائية.

أصبحت المدينة تُنبت ناطحات، لكنها لا تُنبت أنسًا، وتُعبّد الطرق، ولكن لا تُعبّد النفوس، وتلك المفارقة هي جوهر التحول المعاصر: أن الإنسان يركض وهو لا يعرف إلى أين، يتواصل كثيرًا لكنه لا يتواصل حقًا، يعيش في التجمع، لكنه يتوحّد شعوريًا، حتى باتت البيوت متقاربة في الخرائط، متباعدة في الأرواح.

ليست المدينةُ مجرد إسمنتٍ وشوارع، بل هي “منظومة قيم” تُعاد هندستها مع كل توسّع عمراني، ولئن كانت الصحراء تخلو من الماء، فإن المدينة الحديثة – في نسختها المعاصرة – تخلو من الروح، حين تُسلِمُ المدينةُ نفسها لمدِّ التحديث، دون كوابحٍ من الوعي، فإنها لا تكبر فحسب، بل تتحوّل إلى كائنٍ آخر، تُعاد فيه صياغة الإنسان والزمان والعلاقات.

ولقد أصبح الإنسان في المدينة الحديثة، كائناً استهلاكياً قبل أن يكون إنساناً أولاً؛ يُقاس حضوره بقدر إنفاقه، ويُحدّد قدره بما يملكه لا بما يؤمن به، واختلطت قيم الإيمان بأرقام الشراء، حتى غدا الدين عند بعضهم – إلا من رحم الله – امتداداً لهويّته المدنية: تدينٌ أنيقٌ لا يُزعج أحدًا، ولا يُزعزع شيئًا، هذا النموذج “التدين المدني”: تديّنٌ ناعم، يُختزل في المناسبات، وتُقاس صلاحيته بمدى توافقه مع الذوق العام والارتياح النفسي، لا بمدى صدقه مع الوحي ومطابقته للسنة، ويمكن القول بأنه التدين الذي لا يزعج إيقاع المدينة ولا يعكّر تطورها، تدينٌ خفيفٌ على النفس، سهلُ التسويق، يتماهى مع المظاهر لا المضامين، يتحدث عن جمالية الإسلام كثيرًا، لكنه لا يجعل الدين محورًا في قراراته اليومية.

في كتابه علم الاجتماع الديني، يرصد سابينو أكوافيفا تراجع التدين في إيطاليا، لا بوصفه انحرافًا عقديًا مفاجئًا، بل نتيجة لتحول اجتماعي أعمق:"شهد نمط التدين تدهورًا في إيطاليا في مطلع الخمسينات بحسب أكوافيفا بسبب تحول المجتمع من النمط الزراعي إلى النمط الصناعي. رافق الانتقال إلى النمط الصناعي، الانتقال من الريف إلى المدينة. وشكلت مسألة الانتقالية من الزراعة والريف إلى الصناعة والمدن المعجزة الاقتصادية، وبسبب هذه العوامل ارتفعت العلمنة وتراجع الدين في إيطاليا.”

وهكذا يُظهر أكوافيفا أن العلمانية لم تدخل من أبواب الجدل العقدي، بل من نوافذ التحول العمراني والمعيشي، حيث تستبدل المدينة إيقاعها باللهاث، وتستبدل الروح بالآلة، فتتراجع معاني الإيمان إلى هوامش الوعي، في نموذج ناعم من “التدين المدني”.

وهنا يأتي الجفاف الروحي كأثر حتمي، لا لأن الناس لا يُصلّون، بل لأنهم يصلّون بقلوب مرهقة، محاصرة بشاشات التسوّق، وإعلانات الترفيه، وفواتير المظاهر، وأصبحت تلك الروح تتنفس عبر “شرايين زمنية” ضيّقة، تُسمّى لحظات الصفاء، لكنها سرعان ما تُغلق بجدول مزدحم، أو موعد في مقهى، أو نقاشٍ فارغ في نافذة رقمية.

وفي قلب المدينة الحديثة، يتحوّل الإنسان من كائنٍ ذاكرٍ متأمل، إلى مستهلِكٍ دائم القلق، تدور حياته بين مركز تجاري وآخر، ويقيس يومه بعدد ما اشتراه، لا بما أدركه أو تذكّره من حقائق الوجود. هذه الحياةٌ يُعاد فيها تعريف “السعادة” لتغدو مجرد “امتلاك”، ويُعاد فيها تعريف “القيمة” لتصبح “ماركة”.

وإذا لم يُحصّن ساكن المدينة قلبه، بوردٍ من القرآن، وصحبةٍ تذكّره بالله، ومجالسةٍ لأهل الإيمان، فإن “المدينة” ستبتلعه في دوامة لا نهاية لها، وتُلقي به في مجاهل الزحام، حتى يغدو رقماً في طابور طويل من المستهلكين، لا يميّزه إلا نوع هاتفه، وعدد متابعيه، ومكان جلوسه في المقهى.

ثم إن المدينة الحديثة ياصاحبي: تصنع لك خارطة وصول إلى كل مكان، لكنها لا تصنع لك خارطة رجوع إلى قلبك، فضلاً عن ربك.

رحيق مختومافتتان أحمدرحمة6 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة توّاق البريدية

نشرة توّاق البريدية

هذا البريد خيطٌ رفيعٌ يربطني بما يستحق أن يُحفظ في الذاكرة، فليس مجرد سطرًا في قائمة، ولا إشعارًا ينطفئ مع الوقت، بل هو لحظة توقّف وسط الركض، ومجال للتأمل في عالمٍ لا يكفّ عن الاندفاع.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة توّاق البريدية