العيد

بواسطة توّاق #العدد 5 عرض في المتصفح
بين الفرح المُهذّب والابتهاج المُنفلت

كنتُ أظن أن الفرح شعورٌ يأتي، فإذا بي أكتشف أنه يقينٌ يُبنى، وكأن العيد لا يأتي على أقدام الزمن، بل يهبّ على القلب من حيث لا يدري، كمسة لطفٍ ربّانية، توقظ ما غفا، وتستخرج من زوايا النفس بهجةً لا يصنعها السوق ولا تزخرفها الأقمشة، كنتُ أظنّ العيد طقسًا من الخارج، فإذا هو انبثاقٌ من الداخل، لا تُنيره المصابيح، بل تُوقظه دمعة خاشعة، أو تكبيرة صادقة، أو يقظة بعد طول غفلة، ثم آمنت أن العيد لا يبدّل فصول الحياة… بل يبدّل زاوية النظر، ومن تغيّرت زاويته… تغيّرت حياته.

في عالمٍ تتوزع فيه الأعياد بين فلسفات بشرية ومواضعات ثقافية، تُفرغ فيه المناسبات من معناها لتغدو طقوسًا خاوية تُعاد كل عام، يتجلّى العيد في الإسلام بوصفه مِرآةً صافية تنعكس فيها مقاصد الشريعة، ويتحول من طقس موسمي إلى لحظة إيمانية عميقة تُعيد ترتيب العلاقة بين العبد وربه، وبين الفرد ومجتمعه، وبين القلب ومسيرة التزكية.

فالعيد في التصور الإسلامي ليس زمنًا يُختلق فيه السرور لمجرد الأُنس، ولا مناسبةً اجتماعية تُستثمر في التزيّن والمجاملات العابرة، بل هو إعلانُ فرحٍ شرعيّ، فرحٌ بطاعةٍ أُتمّت، وفرحٌ بنعمة الهداية، كما قال الله جلّ في علاه:﴿قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا۟﴾ [يونس: ٥٨] ولذلك لم يكن للعيد أن يُفهم خارج سياق العبادة؛ فعيد الفطر لا يأتي إلا بعد الصيام، وعيد الأضحى لا يُقام إلا في ظل المناسك، وكأنّ الفرح في الشريعة مرهونٌ بتمام الطاعة، ومؤطَّرٌ بالعبودية، وحين دخل أبو بكر رضي الله عنه على بيت النبوة، فرأى جاريتين تنشدان يوم عيد، أنكر ما رأى، فقال ﷺ: «يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا» [البخاري]. فكان تصحيح النبي ليس تثبيتًا للهوى، بل تقريرًا لحقيقة: أن العيد في الإسلام ليس منبتًّا عن الهوية، بل هو من شعائرها، وأنه يوم فرحٍ مخصوص، لكنه فرح المؤمن لا ابتهاج الغافل.

وهكذا تتجلى رمزية العيد في بُعدها التربوي: إذ يكون لحظة تكريم، لا لحظة انفلات، ولهذا لم يكن الفرح فيه هو الانغماس في الشهوات، بل التجمل المشروع، والتوسعة المتزنة، والسرور النظيف، وإذا تأملت سنة النبي ﷺ، رأيت كيف كان يغتسل ويتزين لصلاة العيد، ويأكل قبل أن يخرج يوم الفطر، ويؤخر أكله يوم النحر، ويخالف الطريق في الذهاب والإياب، كل ذلك ليُشعر المسلم أن العيد ليس عادةً مكرورة، بل عبادة في ذاته، وله معالمه وشعائره، أما التكبير، فليس زينة صوتية تتردد على الألسن، بل إعلانُ ولاءٍ لله، وبيعةٌ إيمانية متجددة، ولهذا قال ابن مسعود: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» بتثليث التكبير أو تشفيعه، فالمقصود تعظيم الله، لا العدّ المجرد.

ومن لطائف العيد أنه لا ينتهي عند الفرد، بل يفيض من القلب إلى المجتمع، فلا يكتمل إلا بالتهنئة، وصلة الأرحام، وزيارة الوالدين، والرحمة باليتيم، والمواساة للمهموم، وكأن العيد اختبارٌ لقدرتك على أن تفرح دون أن تنسى من حولك، أن تضحك وأنت تمسح دمعة غيرك، أن تعيش العيد وأنت تصنعه لغيرك، وفي ظل عالم تزدحم فيه المؤثرات، وتتنافس فيه المحفّزات اللحظية على استلاب المشاعر، يرتفع الإسلام بمفهوم الفرح ليغدو شعورًا أخلاقيًا عظيمًا، فالفرح لا يُقاس بضحكةٍ مسموعة، بل بسكينةٍ مغمورة.

وهذه نثارُ خواطرَ، لا يجمعها إلا نَسَماتُ العيد وأشتات عن الفرح، ولا يؤلف بين سطورها سوى بهجةٌ صافيةٌ:

·طمأنينة الإيمان

الفرح في الإسلام ليس انفعالًا سطحيًا مؤقتًا، ولا لحظة نشوة عابرة تزول بانقضاء ظرفها، بل هو طمأنينة تغمر القلب حين يستقر على الحق، ويأنس بالقرب من الله، ويوقن أن لا خير إلا فيما أراده الله ورضيه لعبده، وهو بهذا المعنى لا يُستجلب من الخارج، بل ينبع من الداخل، من الإيمان العميق، ومن معرفة الطريق، ومن التعلق بمن لا تتغير محبته، ولا تنقطع رحمته، وقد ألمح القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ )يونس: 58 (فهو فرح لا يقوم على كثرة المال، ولا على تصفيق الجماهير، بل على معرفة الفضل، والإقامة في رحاب الرحمة، ولذلك، فإن فرح المؤمن لا يُقاس بظروفه، بل بإيمانه، ولا يتوقف على ما في يده، بل على ما في قلبه من رضا.

بهجة الخلوة

بعض الفرح لا يُصاحَب بضحكةٍ عالية، ولا يُعلَن عنه في المجالس، بل يمرّ خافتًا في القلب مرّ النسيم، لا يشعر به إلا من ذاق لذّة القرب وهدأة الخلوة، فرحٌ لا يعرف الصخب، إنما يعرف السجدة الطويلة، ودمعةً تتسلّل بهدوءٍ في لحظة صفاء، وارتجافةَ شكرٍ بعد ركعةٍ بكى فيها القلب قبل العين، وابتسامةً لا يراها الناس، لكنها تشرق في النفس حين تتمتم الروح بخشوع:﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾.ذلك الفرح الذي لا يتغذى على المواقف، بل يتخلّق في زوايا القلب من معرفة الله، ومناجاته، والأنس به، هو الفرح الذي لا تكتبه القصائد، بل تخطه السكينة في صفحات الأرواح، حين توقن أن كل ما فات لم يكن لك، وأن كل ما كتبك الله له، سيسوقه إليك، ولو مشى إليك على أقدار الغيب.

·  حكمة البلاء

حين تستقرّ معاني الرضا والتسليم في شغاف القلب، لا يعود الإنسان ينظر إلى الوقائع بعينيه المجردتين، بل بعين البصيرة الموصولة بعلم الله، فينقلب إدراكه للأحداث، وتتبدّل المفاهيم في وجدانه، فيصبح البلاء في حسّه الجديد بابًا مواربًا على النعيم، وتغدو الشدّة لا نقمةً بل تهيئة للفرج، ويعي أن الفرح الحقيقي لا يكمن في زوال الابتلاء، بل في اكتشاف ما خلفه من لُطفٍ إلهي، ومعنى ربّاني، وفتوحٍ لا تُعطى إلا للصابرين.

·  ازدواج الشعور

في ضوء هذا الفهم، تنحلّ عقدة التناقض بين الفرح والحزن، ويكتشف المؤمن أن الإسلام لا يصنع من الفرح قشرةً عاطفيةً تصطدم بالحزن وتلغيه، بل يصوغ فرحًا ينساب في العروق جنبًا إلى جنب مع الأسى، ويُقيم في النفس مع الحزن مقام الشريك الرفيق، فكم من مؤمنٍ بكى تحت سحائب البلاء، ومع ذلك، لم تفارقه أنوار الطمأنينة، ولا انطفأ في عينيه بريق الرجاء! وهنا يستبين الفرق الجوهري: أن الفرح الإيماني ليس ردّ فعلٍ آنيًا على ظرفٍ مريح، بل هو ثمرة يقين، ونتاج فهم عميق لسنن الله في الكون، حيث يُوقن القلب أن ما من لحظةٍ تمر، ولا شدةٍ تُصاب، إلا وهي داخلةٌ في حسابات الرحمة الإلهية، وعين الله لا تغفل، وعدله لا يغيب.

• ومضات القرب

حين يُرزق المرء بقلبٍ موصولٍ بالله، لا تعود أفراحه مرهونةً بهدير العالم، ولا محتجبةً خلف أسوار المنجزات الدنيوية، بل تغدو حياته سلسلةً من الإشراقات الصغيرة التي تُضيء له الطريق في الظلمة، ركعةٌ في سكون الليل تصبح عنده أعظم من دويّ الاحتفالات، وسلامٌ عابر من صديق يُصبح رسالةً خفيةً من السماء، ونَفَسٌ يخرج بسهولة يُصبح دلالة على بقاء المنّة، وبابٌ يُفتح بعد انسدادٍ يُصبح توقيعًا ربانيًّا يقول له: إني قريب.

·   منحة الصدق

الفرح الذي يبذله الله للقلوب الصادقة، ليس ثمرة ظرفٍ، ولا نتيجة حدثٍ عابر، بل هو فضلٌ إلهي، يمنحه الله لمن آثره على شهوات النفس، ورضي به بديلًا عن زخرف الدنيا، هو فرحٌ لا يملكه الخلق، فلا يُعطى منهم، ولا يُسلب بسخطهم؛ لأنه منحة ربّانية لا تُنال إلا على عتبة الصدق.

·  تهذيب الفرح

من أروع ما في الشريعة الغرّاء، أنها لم تحظر الفرح، ولم تُقصِه عن مشاعر الإنسان، بل هذّبتهُ ونقّتهُ ورفعت به الروح إلى معارج السكينة، فالفرح في الإسلام ليس ميوعة ولا طيشًا، بل هو شعور منضبط بمعايير التزكية، يُبشّر القلب دون أن يُطغيه، ويُبهج النفس دون أن يوقعها في الغفلة، و الفرح في الإسلام ليس استهلاكًا شعوريًا، بل عبادة. نعم، عبادة! تفرح لأنك عبدٌ لله، وتُحسن الظنّ به، وتبتهج لأنك في صراطه المستقيم، ذلك الفرح، لا يصنعه إعلان، ولا تسويقه ضحكة، بل تُنبتُه تربة الطهارة في النفس، ويثمر حين تُشرق على القلب أنوار اليقين، وترتوي جذوره من ماء الصبر.

· يقين النعمة

 الفرح في الإسلام ليس نشوةً خاطفة، ولا انفعالًا يُبعثر في ضحكات سريعة، بل هو يقظة قلبٍ أبصر النعمة في موطنها الصحيح، في لحظة صفاء، يرى فيها العبد فضل الله عليه، لا لذّة المتعة في ذاتها، ويوقن أن الخير ليس في الشيء، بل فيمن أنعم به، الفرح الحقّ أن تُسند ظهرك إلى السماء، وتطمئن، أن كل ما كتبَه الله لك، هو الخير، وإن غابت عنك علله.

·   وحدة الفرح

في العيد، تذوب الفوارق، تُنسى الرتب، وتُمحى المسافات، وتلين القلوب كما تليق بها الرحمة في موسم الفرح، تُصافح الغني والفقير، تُعانق القريب والبعيد، وتُهدي من كنت تختلف معه بالأمس، كأنّ للعيد روحًا تربت على صدور المتباعدين وتقول: ارحموا من في الأرض، الفرح في الإسلام لا يقف على باب الذات، بل يُفتح على الناس، فليست فرحتك في العيد مكتملة حتى ترى نورها في عيون غيرك، حتى تُدخِل السرور على قلب يتيم، أو تزيل كربة عن محتاج، أو تبتسم في وجه من أساء، فتُعلن للعالم أن الأخلاق أثمن من العداوة، وأن للفرح وظيفة أسمى من الضحك، أن يجمع لا أن يفرّق، أن يُصلح لا أن يُقصي.

·  أثر السرور

من تمام العيد، أن يتسع قلبك كما اتسعت رحمة الله، وأن يكون لك في كل فرحة نصيبٌ في فرحة غيرك، فإن "أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم"، وهكذا… تتحول فرحة العيد من مناسبة زمنية، إلى مشروع إصلاح اجتماعي صغير، يبدأ بالسلام، ويثمر بالصفاء.

· نُبل التجاوز

الفرح في العيد ليس تناسيًا للألم، بل تجاوزه بنُبل، أن تضع على كتفك حُزن الأمس، وتقول له: اليوم للرضا، لا للشكوى، اليوم تكبير لا تأفف، تسليم لا تبرم، شكر لا تسخط، في العيد، تتبدل معايير الفرح؛ فلا تُقاس بثمن الثياب، ولا صخب المجالس، بل بما يختلج في الصدر من طمأنينة، ومن لحظة ركوعٍ مطوّلة، وسجدةٍ مطمئنة يُتلى فيها الحمد على نعمٍ لا تُحصى، أو على مغفرةٍ تُرجى.

· ثمرة المجاهدة

العيد في الإسلام دعوةٌ مفتوحة أن ترى وجه الحياة من جهة أخرى، أن تؤمن أن الله يُبدل المواسم كما يُبدل الأحوال، وأن بعد كل صيامٍ فطر، وبعد كل تعب راحة، وبعد كل عبرة فرحة، ومن أراد فرح العيد دون عناء المجاهدة، فقد طلب النتيجة بلا سعي، والمقامَ بلا مُقام، الفرح في العيد ليس هدية مجانية، بل ثمرة لما زرعته في ليالي التهجد، وساعات الجوع، ودقائق الاستغفار.

·    نقاء الطفولة

العيد درس تربويّ، يُعيد ترتيب أولوياتك، ليهمس في أذنك: الطمأنينة ليست في المظاهر، بل في المعنى، والفرح الحقيقي لا يكون لمن تجمّل للناس، بل لمن تجمّل لله، وفي هذا اليوم، حتى الأطفال يضحكون بنظافة، لأنهم لم يذنبوا. وأنت إن تبت عدت طفلًا في نقائك.

·تكبير التثبيت

في صبيحة العيد، حين يصدح صوت التكبير، ليس المطلوب أن نختبئ خلف ابتسامات مُتكلّفة، ولا أن نتجاهل آلام الأمة وجراحها، بل أن نُبصر الصورة كاملة: هذا يومٌ يُعلِن فيه المؤمن أنه – رغم البلاء – باقٍ على الطريق، ثابتٌ على العهد، راضٍ بقضاء الله، منتشٍ بأن الله وفّقه لموسم الطاعة، مُستبشرٌ بعفوٍ يُرجى، ورحمةٍ تُؤمّل، وفرجٍ قادمٍ لا محالة.

· بشائر الصابرين

  ومن أعجب ما تراه في هذا السياق، أن يُبتلى بعض عباد الله في أجسادهم أو أوطانهم أو أرزاقهم، ومع ذلك يُبصر في وجوههم نورًا لا تخبو جذوته، لأنهم قد أدركوا معنى الفرح الحقيقي، الذي لا تشتريه الأسواق، ولا تصنعه المظاهر، ولا يُقاس بوفرة ولا يُنتزع بفقد، بل هو عطيةٌ ربانيةٌ تُغدق على من آثر الله، ورضي بحكمه، وأقبل عليه بقلبٍ سليم، وها هم إخوتنا في غزة وغيرها، يقفون شاهدًا على هذه الحقيقة، فمن بين الأنقاض، وبين نُدوب الحصار، تتعالى صيحاتهم بالتكبير، ويُشعّ نور الرضا من عيونهم، ليس لأنهم لا يرون الألم، بل لأنهم يرونه بميزان آخر، ميزان الجنة التي وُعدوا بها، والدرجات التي يُرفعون إليها، والبشارات التي سبقتهم في سيرة السابقين، وفي كل واحدٍ منا، متسعٌ لهذا النور، مساحةٌ لهذا الفرح المربوط بالسماء، افرح أيها الفقير، فإن الغنى الحقيقي في الاستغناء عن الخلق، وافرحي أيتها الثكلى، فإن الأجر أعظم من الفقد، وافرح أيها المهموم، فإن الله قد وعد الصابرين، وأن الفرج يأتي بعد كسرٍ يظنه العبد النهاية.

· زاوية النعمة

إن من أبلغ ما يراه المتأمل: أن العيد لا يغيّر المآسي، الأحباب الذين رحلوا لن يعودوا، والدماء المسفوكة لن تتوقف فجأة، والضيق الذي يسكن النفوس لن يزول بجرعة حلوى، لكن العيد – مع ذلك – يغيّر زاوية النظر. كأنّه يدعوك: انظر إلى ما تملك، لا إلى ما فُقد. عدّل بوصلة بصرك قليلاً لتدرك أن ما لديك، كافٍ لتفرح، إن كنت ترى بنور الإيمان، والعقلاء هم من ينظرون إلى الحياة كأنهم يروْنها لأول مرة… أو لآخر مرة. هذا المعنى هو ما فقده الغافلون، حين استبدلوا دهشة الأطفال ببرودة العادة، وحين جعلوا أعينهم لا ترى إلا عبر عدسات التذمر، وقلوبهم لا تبصر إلا نقص النعمة، ولذا، كانت أعظم نكبة يعيشها الإنسان – أن يعتاد النعمة حتى تغيب عنه حقيقتها، فتفسد عليه متعة الشكر، وتتحول الهبة الربانية إلى "أمر طبيعي"! وها نحن نعيش الحياة كأنها حلقة مفرغة، لا جديد فيها إلا ثقل التكرار، ولا طعم لها إلا مرارة الركض وراء سراب لا يُمس،. ثم يأتي العيد، كأنه استراحة مُقَدّرة من الله، ليس محطة زينة وجلبة، بل لحظة تأمّل في مكسبٍ خفي: أنك ما زلت تؤمن، ما زلت تأمل، ما زلت تركع وتسجد، وتعرف الطريق إلى الله، وهذه – والله – أعظم نعمة.

· انبعاث الرجاء

فيا أيها الحزين، لا بأس أن تفرح. ويا أيها المُثقل بالذكريات، لا حرج أن تبتسم، فليس الفرح خيانة للألم، بل غلبة عليه. وليس التبسّم تفاهة، بل إيمان بأن لله في هذه الحياة أبوابًا من الفرج، تُفتح حين نُحسن الظنّ، سامح في العيد، لا لأن الآخرين يستحقون، بل لأن قلبك يستحق أن يتحرر. اغفر لنفسك زلاتها، ولا ترفع سوط جلد الذات كلما تذكرت سقوطًا قديمًا، اغتنم هذا الفاصل الرباني لترتب فوضاك، وتنفض الغبار عن نوافذك الروحية، وتهمس لقلبك: لا يزال في العمر متسع للتوبة، وللصفاء، وللبدايات الجديدة، وإياك والرسائل المستنسخة! لا تهنئ أحدًا بعبارة مسروقة، ولا تتلقى كلمات معلبة على أنها شعور صادق. فالمحبّ لا يكتب إلا باسمه، ولا يهنئ إلا بروحه، ولا يصل قلبًا إلا بكلمة خرجت من قلب.

·  الفرح مشروعٌ إيماني

الفرح في الإسلام ليس مجرد حالةٍ نفسيةٍ عائمة على سطح اليوم، بل هو بناءٌ تعبّديٌ مقصود. يُشرّعه الله، ويضبطه الوحي، ويهذّبه الذكر… فرحٌ له مقاصد، يُربّي فيك التوازن، لا الفوضى. يملأ قلبك رضا، لا خفةً سطحية.

·   عيدُ أهل العبودية

هو عيدُ من صام عن المعصية، لا عن الطعام فقط. من جاهد هواه، لا من أحصى عدد الأيام. من عرف الله في رمضان، فتعلّق قلبه بمناجاة الليل، وختمة الفجر، ودمعة الخلوة. هؤلاء لا يفرحون بانتهاء العبادة، بل يفرحون لأنهم وُفّقوا إليها… فلا عجب أن تكون أفراحهم غريبة عن الغافلين.

· السعادة على منهاج النبوة

ليس لنا أن نخترع طرائق الفرح. النبي ﷺ علّمنا كيف نفرح: بكلمة “الله أكبر”، بصفاء القلب، وببساطة لا يخرقها الإسراف. تكبّر كما كبّر، تتهجّد كما تهجّد، تفرح كما فرح… فالسعادة ليست ابتكار، بل اتباع.

· فرحٌ تحت سقف الشكر

في خلفية كل ضحكة صادقة في العيد، تكبيرٌ خاشع، الفرح المباح لا يُزهر إلا تحت سقف الشكر. تكبيرات العيد ليست زينة صوتية، بل إشعارٌ أن هذه البهجة قائمة على أساس متين من الامتنان واليقين.

·  الأفراح المؤقتة لا تشبع

من ذاق فرحًا موصولًا بالله، شبع عن أفراح تُستهلك سريعًا. لأن ما يُصنع بالإعلانات والموائد، يبهت مع الوقت، أما ما يُصنع بالمجاهدة والدموع، فيبقى في القلب زمنًا لا يُقاس بالساعة.

·  تكبيرٌ في وجه الدنيا

العيد ليس إذنَ خروجٍ من العبادة، بل هو تمديدٌ لها. والتكبير ليس صوتًا عاليًا، بل “نَفَس” تطلقه الروح حين تنجو من ضغط الدنيا، وتجد أخيرًا شيئًا من الطمأنينة بعد المجاهدة.

· عبادة الفرح

في الإسلام، الفرح نفسه عبادة. حين تُربّى البهجة على الشكر، ويُحاط السرور بسياج من الذكر، يصير الفرح طريقًا إلى الله. ليس الفرح مفرًا من الحزن، بل وجهًا من أوجه العبودية.

·  نهاية العبادة بداية الفرح

العيد ليس فصلًا بين مرحلتين، بل نتيجةٌ روحية. تمرّ بك العشر الأخيرة كالسفر الطويل، فإذا بالعيد يأتي كالوصول إلى دار الأمان. طمأنينة في القلب، وسكينة في الطريق… تلك هي ثمار من مشى بصدق.

·  الفطر بعد الصوم سرّ البهجة

الصوم هو الامتناع الذي يُنضج الشوق، والفطر هو لحظة الوصل بعد الحرمان. ولذلك، فإن لذة الفطر لا تكمن في المائدة، بل في القلب الذي صبر. ولذا كل صبر بعد انقطاع هو عيد. وكل ابتسامةٍ بعد بكاء هي وَلادةٌ روحية، هكذا هو العيد في الإسلام ليس مهرجانًا، بل مقامًا. ليس ترفيهًا، بل ترقية. ليس موضةً، بل منحة. ومن التزم بحدود الفرح، ورسم ضحكته داخل دائرة الذكر كان من أهل التكبير، ومن أهل البصيرة.

·  فرحٌ تحت المراقبة

العيد في حقيقته ليس انفلاتًا وجدانيًّا يُطلق فيه الإنسان العنان لشهواته ويُذيب قلبه في عواطف مبتذلة، بل العيد فرحٌ يمشي على صراطصراطٌ لا تتخطى فيه ضحكتك حدًّا من حدود الله، ولا يُقترف فيه باسم "الفرح" ما يسخط وجه الله.ذلك لأن الفرح الذي لا يحرسه التقوى، يتحول إلى غفلة.وما أفسد كثيرًا من أفراح الناس إلا أنها انفلتت من المراقبة، فصارت من حيث لا يشعرون طريقًا للغفلة، لا سبيلاً للشكر.

·  من الغفلة إلى التهليل

العيد ليس استراحةً من الذكر، بل امتدادٌ له.إنه نقلة رقيقة من همس المناجاة إلى جهر التهليل، من ليل التضرع إلى صبح الحم، عيد المؤمن ليس القفز من التراويح إلى الاستراحات، بل عبور هادئ من العبودية الخاصة إلى الفرح المشروع.

الزينة الظاهرة والبهجة الباطنة

جميلٌ أن يتزيّن المسلم في العيد، أن يلبس أحسن ما عنده، فذلك من السنّة، لكن جمال العيد لا يبلغ كماله إلا إذا اقترن بنقاءٍ باطنيّ: زينة السريرة، وطهارة القلب، الوجه الذي يضحك في العيد، وهو يحمل في صدره حقدًا أو غلًّا، ليس بهيجًا كما يظن، فالزينة التي تُبهج الناس يوم العيد، لا تكتمل حتى تُسرّ الله بباطنك.

· فرحٌ مؤسَّس لا مُستعار

الفرح الذي ينبني على تقوى، يبقى، أما الفرح الذي يُستورد من مظاهر الناس، أو يُستعار من صوت المهرجانات، فإنه ينهار عند أول خلوة مع الذات، السعيد حقًا في العيد، ليس من ضحك كثيرًا، بل من كانت ضحكته مؤسسة على شعور بالقبول الإلهي، على أملٍ أنه خرج من رمضان مغفورًا له.

·                   فرحةٌ خالية من الأذى

الفرح الذي يبنيه الإسلام، لا يُؤسس على أذى أحد، فمن أزعج الناس بمظاهر فرحه، أو أسرف، أو تكبّر، أو استعلى، لم يفرح فرحًا إسلاميًّا، بل فرحًا جاهليًّا، عيدنا ليس عيدًا فرديًّا أنانيًّا، بل عيدٌ جماعيّ، تتقاسم فيه السعادة مع المحتاج، وتواسي فيه المهموم، وتواكب فيه الجراح القديمة بنُبل.

·                   بهجة بلا تبذير

الفرح الذي يتطلب قروضًا، ليس فرحًا، والعيد الذي يرهق الأسرة ماديًّا لإرضاء نظرات الآخرين، ليس عيدًا، بل مشقة اجتماعية، البهجة الإسلامية هي في كفافٍ مصون، في بساطةٍ عميقة، في سكينةٍ لا تحتاج إلى بهرجة لتثبت وجودها.

وهكذا يمضي العيد، لا كموعدٍ على تقويمٍ مزدحم، بل كصفحةٍ ربانيةٍ تُقلّب في كتاب القلب، يعلمنا أن الفرح ليس زائرًا يُطرق بابه مع الصباح، بل هو ساكنٌ يُقيم في منازل الإيمان، لا يدخلها إلا من طهّر زوايا نفسه من السخط، وزرع فيها بذور الرضا، نكتشف مع العيد أن الأيام لا تمنح معناها من تلقاء ذاتها، بل تُضاء بزاوية النظر التي نختار أن نُبصر منها، فاللهم اجعل عيدنا في قلوبنا، قبل أن يكون في ثيابنا، وفي صلاتنا قبل أن يكون في مجالسنا، وفي صدقنا قبل أن يكون في زينتنا، اللهم اجعل أفراحنا مما لا تزول بزوال الزينة، ولا تنطفئ بانطفاء الأنوار، واجعل في زاوية نظرنا نورًا يبدّد العتمة، ويكشف جمالًا ما كنا نراه.

وكل عام وأنتم جمال العيد.

رحمَـةيوسفكلمة و معنى7 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة توّاق البريدية

نشرة توّاق البريدية

هذا البريد خيطٌ رفيعٌ يربطني بما يستحق أن يُحفظ في الذاكرة، فليس مجرد سطرًا في قائمة، ولا إشعارًا ينطفئ مع الوقت، بل هو لحظة توقّف وسط الركض، ومجال للتأمل في عالمٍ لا يكفّ عن الاندفاع.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة توّاق البريدية