العُزلة |
بواسطة توّاق • #العدد 4 • عرض في المتصفح |
بين غياب الجسد واعتكاف القلب
|
|
![]() |
العزلة في زمن يكره الهدوء |
في عام 1840م، كتب إدغار آلان بو عن | الرجل من الحشد |، ذاك الرجل العجوز الذي يهرب من نفسه عبر الاندماج في زحام لندن، وكأنَّ الانغماس في صخب الآخرين يُعفيه من مواجهة ذاته، تلك الفكرة لا تزال صالحةً اليوم، حيث يموج الناس في زحام الحياة، ويضطربون في مسالك الدنيا بين مطالبها التي لا تنتهي، يجد القلب نفسه في معركةٍ لا تهدأ، كلما أوشك أن يأنس، نادته مشاغل الحياة، وكلما حاول أن يستكين، جذبه صخب العصر وضوضاؤه. |
الناس اليوم لم يعودوا كما كانوا، كانت العزلة قديمًا أمرًا يختاره الإنسان، يسير إليها بكامل إرادته، أما اليوم، فهي ضربٌ من المقاومة! فالضجيج يحيط بك حيثما كنت، العالم يدخل إلى غرفتك دون استئذان، والأصوات تتزاحم في رأسك دون أن تقرع الباب، والعيون تلاحقك حتى وأنت في خلواتك، وكأن العصر قد استحال سجناً، لا يحجب فيه بابه، ولا تُغلق فيه نافذة. |
ولعل أعظم ما يهدد القلب في هذا الزمن، أن يُحرم خلوته مع الله، أن يُمنع من لحظات السكون التي يراجع فيها نفسه، ويتفكر في وجوده، ويستعيد فيها صلته بمولاه، ولذا قال يوماً ابن القيم: "في القلب شعثٌ لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته[1]" |
فالذكر في العزلة ليس استحضارًا لغائب، كما يقول الإمام الغزالي، بل هو حضورٌ منك بعد غيبة، وإفاقةٌ منك بعد غفلة. حينها، يصبح الذكر خيطًا يصل العبد بخالقه. |
العزلة بين زمنين: عزلة السلف وعزلتنا اليوم |
كانت العزلة قديمًا تُدرَك بلا عناء، فالدنيا لم تكن تجذب القلب كما تفعل اليوم، ولم تكن سبل الإلهاء تحاصر العبد من كل اتجاه، فكان المرء إذا أراد العزلة، وجدها في مسجدٍ خالٍ، أو في صحراءٍ ساكنة، أو في زاويةٍ لا يقطنها إلا الذكر والدعاء، أما اليوم، فإن العزلة أصبحت ضربًا من الجهاد، لا في هجر الناس، بل في هجر الملهيات، وفي انتزاع القلب من قبضة الشاشات، فالعزلة في هذا الزمن لا تعني فقط مفارقة الناس، بل تعني إغلاق الهاتف، وإطفاء الإشعارات، وترك التصفح، وإسكات الأصوات التي لا تكفّ عن طرق العقل، حتى يستطيع القلب أن يسمع صوته، وأن يخلو بربه كما ينبغي، ولعل ابن عطاء الله السكندري أدرك هذا المعنى في حكمه حين قال" ما نفع القلب شيءٌ مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة." |
و لم يعد الحديث عن العزلة اليوم ترفًا فكريًا، ولا شجنًا يطرق أبواب المتأملين في ساعات الصفاء، بل صار حاجةً مُلِحّة، ومخرجًا من دوامةٍ تتسارع حتى تكاد تُذهِب بالعقول قبل القلوب، فنحن نعيش في عصرٍ تنصبّ فيه المعلومات على الإنسان انصباب السيل، فلا يكاد يجفُّ في ذهنه خاطرٌ حتى يداهمه سيلٌ آخر، ولا يكاد يخلو صدره من ضجيج الحياة حتى يغمره طوفانٌ جديد من الأخبار والمستجدات والتفاهات التي تحاصر العقول وتخدر الأرواح، والمفارقة الكبرى أن هذا السيل لم يزد الناس رشدًا، بل زادهم تشتتًا، ولم يمنحهم بصيرةً، بل حرمهم اليقين، فبدلًا من أن يكون الاطلاع وسيلةً للفهم، صار وقودًا للقلق والاضطراب، وبدلًا من أن تكون المعارف سلمًا للعقل، صارت كومةً من التشويش لا يخرج الإنسان منها إلا كما دخل: متعبًا، مضطربًا، مجهَد القلب. |
العزلة الإعدادية |
في سيرة النبي ﷺ، نجد أن العزلة لم تكن خيارًا عبثيًا، بل كانت مدخلًا للوحي، مقدّمةً للاصطفاء. "ثم حُبِّب إليه الخلاء"، وكأنَّ العزلة باباً للعبور إلى حقيقةٍ أكبر، لا تُدرك وسط الضجيج، بل تُلتقط في لحظات الخلوة الصافية، يشرح الإمام النووي هذا الميل الفطري للخلوة فيقول: "الخلاء شأن الصالحين، لأنه يتيح فراغ القلب، ويعين على التفكر، ويحرر الروح من مألوفات البشر". فلا بد لكل قلبٍ يُراد له أن يُؤثر في هذا العالم من لحظة عزلة، من خلوةٍ تعيده إلى جوهره، وتُهيئه لما هو أكبر من ضجيج الحياة العابرة. |
فمن ذا الذي يكون أعظم من محمد ﷺ، وهو يتفكر في غار حراء، بعيدًا عن أسواق مكة، بعيدًا عن صخب الحياة، بعيدًا عن الأحاديث التي لا تفضي إلى شيء؟ كان يختار العزلة، لا استيحاشًا من الناس، بل بحثًا عن المعنى الأعمق، واستعدادًا للوحي الذي سيغير مجرى التاريخ، وفي زحام الحياة ودوّامة مشاغلها، تذوب الأرواح في عادات المجتمع، تتماهى مع إيقاعه الرتيب، وتصبح أسيرة عرفه السائد، لكن حين يختار المرء أن ينفصل، أن يعتزل ولو برهة، تبدأ روحه في التمدد خارج نطاق المألوف، تلتقط إشارات الكون، وتتصل بمصدر لا تدركه الأبصار، لكنه يُبصر القلوب، هكذا كان محمد ﷺ قبل البعثة بثلاث سنوات، يخرج إلى غار حراء مستشعرًا أن ثمّة خطأ عميقًا يعتري عقائد قومه، لكنه لم يكن يملك خارطة واضحة للحق، ولا طريقًا قاصدًا يوصله إلى اليقين، وإنما كان يشعر أن عليه أن يبتعد، أن يُنصت، أن يتأمل. |
وما كان هذا الشعور إلا تمهيدًا لأمر عظيم، إذ بدأت رحلته الروحية بالخلوة في غار حراء، كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء."[2]وعلّق على ذلك الإمام القسطلاني بقوله: "وفيه تنبيهٌ على فضل العزلة، لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا، وتفرغه لله تعالى، فتنفجر منه ينابيع الحكمة."[3] وفي هذه العزلة، انخلع ﷺ من أسر العادة، وتمرّن على رؤية ما وراء المشهد الظاهري، كان يتأمل تفاصيل الوجود، يحدّق في الجبال الممتدة، والسماء المتسعة، والليل حين يغشى، والنهار إذا تجلّى، يستشعر وقع هذه الآيات على قلبه، فيمتلئ بروح الترقب، حتى تتهيأ روحه لاستقبال أعظم وحي عرفته البشرية. |
فالعزلة لم تكن فرارًا من الواقع، بل كانت إعادة ضبط، تصفية للروح، وتأهيلًا للمرحلة القادمة، فالروح التي ستُغيّر مسار التاريخ لا بد أن تتحرر أولًا من سلطان المألوف، أن تعتاد الاستمداد من مصدر أرفع من تقاليد الناس، أن تعيش لحظات طلاقة كاملة بعيدًا عن أسر العرف السائد، حتى تدرك أن هناك حقيقة أكبر، وأفقًا أوسع، وقبلة أخرى ينبغي للإنسان أن يولّي وجهه نحوها. |
وهكذا كان تدبير الله لنبيه ﷺ، أن يخرج عن صخب مكة، ليعتاد الصمت، ويتهيّأ لاستقبال النور، أن ينعزل عن الناس، ليعتاد صُحبة الملأ الأعلى، أن ينظر في آيات الكون، حتى يحين موعد نزول أول آية من كلام الله. |
العزلة.. انفصالٌ يهبك الرؤية |
كان توماس ميرتون، الراهب والكاتب، ممن جرَّبوا العزلة سنين طويلة، حتى خلُص إلى أن "لا نستطيع أن نرى الأمور بوضوح إلا إذا ابتعدنا قليلًا." هذه الحقيقة تبدو جليَّةً في الحياة اليومية، فالعين لا ترى الصورة كاملةً إن كانت غارقةً في تفاصيلها، وكذلك الإنسان، لا يدرك مواضع الخلل في مسيرته إلا إذا ابتعد عنها قليلًا، وتأملها من زاويةٍ مختلفة. |
وحين يبتعد المرء عن ضوضاء المجتمع، لا يعود يرى الأشياء بذات الانحيازات السابقة، ولا يتبنَّى الأفكار دون تمحيص، بل تُتاح له فرصةٌ نادرةٌ لمساءلة القناعات، ومراجعة الأولويات، والنظر في ذاته دون مؤثرات، وهنا تكمن قيمة العزلة؛ فهي ليست انقطاعًا عن العالم، وإنما تصفيةٌ للذهن، واستعادةٌ للقدرة على الرؤية بعيدًا عن مؤثرات الجماعة، إنها لحظةٌ يستعيد فيها المرء صلته بمصدر النور، قبل أن يعود إلى درب الحياة أكثر يقينًا وأشد بصيرة. |
وهذا المعنى الذي التقطه الفلاسفة والمفكرون في سياقاتهم المختلفة، هو نفسه الذي أدركه السائرون إلى الله، فقد قال السباعي رحمه الله: "يجب على الداعية إلى الله أن تكون له بين الفينة والفينة أوقات يخلو فيها بنفسه، تتصل فيها روحه بالله، وتصفو فيها نفسه من كدورات الأخلاق الذميمة."[4] |
رهبة الخلوة |
قد يبدو الحديث عن العزلة في زمنٍ يعيش فيه البشر متصلين دومًا ضربًا من الترف، غير أن الحقيقة أن العزلة باتت ضرورةً أكثر من أي وقتٍ مضى، ففي عالمٍ يُفرض عليك فيه أن تكون متاحًا على مدار الساعة، حيث كل رسالةٍ غير مُجابةٍ تُعدُّ تقصيرًا، وكل اتصالٍ فائتٍ يُعتبر إهمالًا، تصبح القدرة على الانفصال مهارةً للبقاء النفسي قبل أن تكون مجرد خيارٍ متاح، ثم إن هذا العالم يزداد صخبه، ويتسع ضجيجه، يُعَدّ الانسحاب إلى عزلة هادئة نوعًا من الشذوذ، وطلب الوحدة انفصالًا عن "الواقع"، المجتمع الحديث، بشبكاته وتراكماته، يجعل الوحدة جريمة غير معلنة، ويجعل التواصل المفرط معيارًا للصحة النفسية والاجتماعية، الجميع في حالة هروبٍ دائم من الخلوة، يملؤون ساعاتهم بالمجالس، والأحاديث، والضوضاء الممتدة من مقاعد المقاهي حتى إشعارات الهواتف. لكن الإنسان، مهما هرب، يبقى وحيدًا. |
وحيدٌ في جوهره، لأنه المسؤول عن نفسه، عن اختياراته، عن خطواته التي ستحمله إلى مستقرّه الأبدي، سيموت وحده يوماً ما، سيدخل القبر وحده، وسيُبعث وحده، ومع ذلك، يهرب من مواجهة وحدته، يحيط نفسه بالآخرين لعله ينسى أنه سيقف في يوم الحساب بلا رفيق، بلا مساعد، بلا شريكٍ يحمل عنه بعض العبء (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)، نحن نخشى الصمت لأنه يضعنا في مواجهة الأسئلة الكبرى، نخاف من العزلة لأنها تجردنا من ضجيج الجماعة، تجعلنا نواجه أنفسنا بلا حجاب، فتنكشف هشاشتنا، وتلوح لنا حقائق مصيرنا كما هي، دون تزويق ولا مجاملة، الصخب مهربٌ مريحٌ من سؤال "إلى أين؟"، والجماعة درعٌ يخفف وطأة الإحساس بالمسؤولية الفردية، والمسؤولية هي جوهر الاختبار. |
إن الذين يخشون العزلة، ويملأون كل فراغٍ في يومهم بمُلهياتٍ لا تنتهي، يعانون في الواقع من خوفٍ دفينٍ من مواجهة أنفسهم، ولذلك تراهم يسارعون إلى ملء كل لحظةٍ فارغةٍ بصوتٍ خارجي، حتى لا يضطروا إلى سماع الصوت الداخلي، ولكن، حين يتجرَّأ الإنسان على مواجهة نفسه، حين يجلس وحده دون مؤثرات، حين لا يُشغِل ذهنه بشيءٍ سوى الإصغاء إلى داخله، حينها فقط، تبدأ رحلة التعافي، ويصبح قادرًا على رؤية الأمور بحجمها الحقيقي، بعيدًا عن مبالغات المجتمع وضغوط الجماعة. |
العزلة ليست انقطاعًا عن الحياة، لكنها اتصال أعمق بحقيقتها، هروبٌ من زيف الجماعة إلى صدق الإنسان مع نفسه، فمن كان لله كان الله له، ومن استوحش من الخلق استأنس بالخالق، نولد فرادى، نعيش مع الناس كأننا ننتقم من وحدة الرحم، ثم نموت فرادى من جديد، لنكتشف أن وحدتنا الحقيقية ليست العزلة عن الناس، بل العزلة عن الله، وأن كل ضجيج الأرض لن يملأ وحشةً في القلب لم يملأها الإيمان. |
العزلة المثمرة |
هذه العزلة ليست ممارسة ميكانيكيةً يكفي أن يلجأ إليها المرء ليحصد فوائدها، إذ لا بد من شروطٍ تجعلها أداةً للبناء لا للهدم، يشير الطبيب النفسي كينيث روبين إلى أن العزلة لا تؤتي ثمارها إلا إذا كانت طوعية، ومنظمة، ومصحوبةً بقدرة على الاندماج في المجتمع عند الحاجة، فليست كل عزلةٍ منتجة، إذ قد ينزوي المرء على ذاته في عزلةٍ بائسة، تحبسه في دوامةٍ من القلق والهواجس، دون أن توصله إلى صفاء الذهن المطلوب، ومن هنا، لا بد أن تكون العزلة واعيةً، ذات هدف، لا مجرَّد انكفاءٍ على الذات بلا معنى. ولذلك كان يقول ديستوفسكي "العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله." هناك حقيقةٌ لا نكتشفها إلا حين نبتعد عن كل شيء: كثيرون يعيشون حياتهم دون أن يلتقوا بأنفسهم حقًا، العزلة تمنحنا هذا اللقاء، تكشف لنا وجوهنا الحقيقية التي قد نكون غفلنا عنها ونحن نرتدي أقنعة التفاعل الاجتماعي اليومي، تمنحنا فرصة أن نواجه أنفسنا بلا مجاملات، أن نطرح الأسئلة التي طالما أجلناها، أن نكتشف كم تغيّرنا دون أن نشعر، وكم من الأمور العالقة في داخلنا لم نعطها حقها من التأمل، يقول كافكا: "خجلتُ من نفسي عندما أدركتُ أن الحياة حفلةٌ تنكرية، وأنا حضرتُها بوجهي الحقيقي." |
العزلة الساذجة |
أن تنعزل لأنك ترى نفسك أطهر، أو أطيب، أو أذكى من الناس، فهذا ليس زهدًا ولا صفاءً، بل هو هروب مزيّن بالمبررات، إن الإنسان الذي يفرّ من مخالطة الخلق لأنه يظن أنه أرقى منهم لم يختر إلا الطريق الأسهل، حيث لا عناء في التعامل، ولا صبر على الطبائع، ولا مجاهدة للنفس في معترك العلاقات. |
والعزلة الأصيلة لا تعني احتقار الناس، بل هي إدراك أن الغرق في تياراتهم قد يسلبك ذاتك، وأن الاحتفاظ بالمسافة هو أحيانًا السبيل لرؤية الأمور كما هي، ولكن، ليس كل من وقف أمام عقله عاد منه أكثر نضجًا، فبعض العقول حين تعتكف، تغرق في ظلامها، وتخرج أكثر تيهًا مما كانت عليه، فالعزلة التي تُثمر، ليست عزلة المتشائم الذي يرى الناس دربًا من العذاب، وليست عزلة المتعالي الذي يظن نفسه فوق البشر، ولا عزلة اليائس الذي ينطوي على نفسه لأنه لم يجد من يفهمه. |
العزلة: هندسةٌ للحياة |
وقد أدرك العظماء سرَّ العزلة، فكانوا يلجأون إليها حين يريدون أن يصنعوا شيئًا لا تتيحه فوضى الحياة اليومية. أبو حامد الغزالي، حين ضاق عليه أمره، لم يهرب إلى الناس، بل هرب إلى نفسه، اعتزل الدنيا عشر سنين، عاد منها بتراثٍ فكريٍّ شكَّل علامةً فارقةً في تاريخ المعرفة السلوكية، حتى صار كتابه "إحياء علوم الدين" من أعمدة التزكية الإسلامية، وكتابه "المنقذ من الضلال" شهادةً صادقةً عن رحلة البحث عن الحقيقة. |
أبو فراس الحمداني، لم يكن ليكتب "أراك عصي الدمع" لو لم يجد نفسه سجينًا في قلاع الروم، حيث لا أنيس إلا صوته الداخلي، حتى هتلر، رغم ما في فكره من انحراف، إلا أن سجنه في لاندسبرج لم يكن مجرد احتجاز، بل كان مختبرًا فكريًا خرج منه بكتابه" كفاحي" الذي أعاد تشكيل النظام الدولي لعقود، كثيرٌ ممن تركوا أثرًا في العالم لم يكونوا ليصلوا إليه لولا أن اختاروا العزلة، ولو لفترةٍ من الزمن، العزلةُ، حين تُحسن، تصبح مصنعَ الأفكار، ومختبرَ المعرفة، ونافذةً يُطل منها القلب على المعاني العميقة للحياة. |
العزلة و محراب الفكر |
في العزلة، يعمل الفكر بأقصى طاقته، ما كان يُختطَف في لحظات التشتت، يُمنَح الآن ساعاته، بل أيامه، ليُبصر النور كما يجب، كل شيءٍ مهيأٌ للعقل كي يحتضن الفكرة، ويمنحها الوقت لتنمو، بعيدًا عن ضوضاء الالتزامات التي تسرق منا أعمق لحظاتنا. والعقل، كلما زادت أصالته، زاد ميله للعزلة، وكأنَّ الفكرة لا تنضج إلا في مناخٍ من الصمت، حيث لا تُحاصرها مقاطعات الواقع، ولا تُقيّدها الحدود المفروضة من الخارج، لهذا أوصى كبار المفكرين الغربيين، من نيتشه إلى إمرسون، بالعزلة، ولكن قبلهم، سبق إلى هذا الإدراك أئمة الإسلام وكبار العلماء الذين جعلوا العزلة بابًا للصفاء، ومدرسةً لتنقية الفكر، وسبيلاً لارتقاء القلب، ومن جميل ما قاله الإمام الغزالي في بيان أثر الخلوة وضرورتها: وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم الحوض تنصب إليه مياهٌ كدرةٌ قذرة من أنهار الحواس، ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه، ومن الطين الحاصل منها، ليتفجر أصل الحوض، فيخرج منه الماء النظيف الطاهر.[5] |
ماذا يحدث للقلب في العزلة؟ |
إن القلب حين يعتكف، يمرّ بأطوار لا يشعر بها إلا من ذاقها: |
1. في البداية، تهاجمه الدنيا |
في اليوم الأول من العزلة، يشعر المرء وكأنه يُنتزع من عالمه، وكأن الدنيا تقاوم خروجه من قبضتها، تأتيه أخبارٌ تشده، وتطرق عليه وساوسُ التأخير، ويشعر بأن كل شيءٍ في الخارج ينتظره. |
2. ثم يبدأ في الاستسلام للصمت |
بعد أن تمرّ الساعات، يبدأ القلب في التأقلم، ويبدأ ضجيج العالم في التلاشي، ويشعر الإنسان لأول مرة أن العزلة لم تكن صمتًا فارغًا، بل كانت مساحةً يمتلئ فيها القلب بالله وحده. |
3. ثم يأتي الصفاء |
بعد أن يخلو القلب من شواغله، يبدأ في استقبال نور الطمأنينة، ويشعر الإنسان وكأنه لم يعرف نفسه إلا في هذه اللحظة. |
4. ثم يتحول إلى لذة |
في الأيام الأخيرة، تصبح العزلة محبوبة، ويصبح الاعتكاف جنة، ويجد العبد في المسجد من الأنس ما لم يجده في الناس، ومن السكينة ما لم يجده في العمر كله. |
العزلة ونعم التفاصيل |
ومن لطائف العزلة أنها تتضمن إعادة ترتيب للذاكرة. فجأة، تُخرج الذاكرة ما لديها، كأنّ قفلًا كان يغلق بابها فانكسر، تلك التفاصيل الصغيرة التي لم نكن نلتفت إليها، تصبح فجأةً ذات معنى، ذات حضورٍ طاغٍ، كم من مرةٍ عبرت بنا لحظاتٌ لم نُعرها انتباهًا، فإذا بنا الآن نستعيدها وكأنها صورٌ حية؟ كوب الشاي الذي كنا نرتشفه بلا اكتراث، نداء الزوجة قبل الخروج، قبضة يد الابن وهو يركض نحونا، ابتسامة المارّة التي لم نكن نلحظها وسط زحام الأفكار. في العزلة، نتعلم أن نحمد الله على النعم الصغيرة التي غفونا عنها، حتى باتت الآن عندنا عظيمة. |
العزلة بين الانهيار والولادة |
وأحيانًا تكون العزلة إجبارية، لا اختيارية. أحيانًا يُفرض علينا أن نكون وحدنا، كما في حصار المدن، كما في المرض، كما في النفي، هناك من يخرج من هذه العزلة منهارًا، وهناك من يخرج منها وقد وُلد من جديد، والعزلة ليست مجرد مكانٍ يُغلق بابه، بل هي امتحانٌ في كيفية التعامل مع الزمن، مع الوحدة، مع الذات، هناك من يجعل منها فرصةً للإبداع، وهناك من يجعل منها مقبرةً لروحه، واللبيب يخرج منها وقد أصبح هو كما يريد، لا كما يريد العالم أن يكون. |
قد تبدو العزلة في ظاهرها انقطاعًا، لكنها في حقيقتها امتدادٌ للرؤية، سفرٌ نحو الداخل، انعتاقٌ من أسر المجتمع للوقوف مع الذات في أصدق لحظاتها، ولذلك فإن العزلة ليست فراقًا، بل لقاءٌ مع من كنت تجهله فيك، في العزلة، نكتشف أن كثيرًا من الآلام التي ظنناها أبدية، لم تكن إلا سحابةً صيفية، وأن الأشخاص الذين منحناهم أكثر مما يستحقون لم يكونوا يستحقون كل هذا الحضور في وجداننا، فهذه الخلوة تُعيد ترتيب الأولويات، تُعيد تقييم العلاقات، تُعيد إلزامنا بذاتنا قبل أن يُلزمنا بها أحد. |
بين العزلة والوحدة[6] |
ليستا وجهين لعملةٍ واحدة، ولا كلمتين تتبادلان المعنى، بل لكلٍّ منهما دلالته العميقة، وأثره المتفرد في النفس، فالباحثة حنّا أرندت، الفيلسوفة الألمانية حيث تفرّق بينها وبين الوحدة. "العزلة هي أن تكون مع نفسك، والوحدة هي أن تكون بلا أحد حتى نفسك". وهذا فرقٌ جوهري، لأن العزلة تعني أن تحافظ على صحبة ذاتك، بينما الوحدة تعني أنك فقدت حتى هذه الصحبة، بمعنى أن : |
![]() |
شوائب الناس ومصفاة العزلة |
ليس من الهيّن على النفس أن تبتعد عن الناس، فالبشر خُلقوا للتآلف، وأُودعت فيهم غريزة الاجتماع، يستوحشون الفراغ، ويخشون الصمت، وتشدّهم الأحاديث حتى لو كانت فارغةً من المعنى. ومع ذلك، فإن اللحظات التي يحتاج فيها الإنسان إلى العزلة ليست لحظاتٍ طارئة، بل هي قانونٌ ثابتٌ في دورة النفس البشرية، كلما أثقلتها الزحام، لجأت إلى خلوة تنقيها، وكلما ضجّ الرأس بالأصوات، بحث القلب عن صمتٍ يطهره من شوائب الأيام. |
وليس الاعتزال دومًا فرارًا، فقد يكون تمهيدًا للعودة، وفرصةً للتأمل، ومدرسةً لإعادة التوازن، وهو في بعض الأحيان طريقٌ لنضوج الفكر، وتحرير البصيرة من ضباب الاعتياد. وفي هذا المعنى يقول الإمام الشافعي: "ومن أحب أن يفتح الله قلبه، ويرزقه العلم، فعليه بالخلوة، وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء."[7]، فالعزلة إذن ليست قطيعةً، ولكنها مسافةٌ ضرورية بين المرء وصخب العالم، مساحةٌ يلتقط فيها أنفاسه، ويختبر فيها عمق علاقاته. فمن ثبت في قلبك رغم بُعدك، فهو الصديق، ومن غاب عنك بمجرّد أن أدرت ظهرك، فقد كفاك الله مؤونة الودّ الزائف |
وهنا، يكون السؤال الأهم: متى نحتاج إلى العزلة؟ ومن نعتزل؟ |
حين يثقل العالم على القلب، وتضيق النفس بالناس، وتصبح الحياة جريًا بلا معنى، فهذه إشاراتٌ أن الوقت قد حان لوقفة، لاعتكافٍ صغير، لانسحابٍ مؤقت، لا لشيءٍ إلا لأننا إن لم نمنح أنفسنا فرصةً للهدوء، سنُسحق في دوامة الحياة دون أن نشعر. |
العزلة ليست موقفًا من الناس، بل موقفٌ من شوائبهم، ولهذا، فإن الإنسان لا يعتزل الحياة، لكنه يعتزل: |
1. أصحاب النفوس المثبطة |
أولئك الذين كلما هممت بمشروع، ألقوا عليك عشرات الأسباب التي تؤكد أنه سيفشل، لا لأنهم يدركون حقيقته، بل لأنهم اعتادوا الفشل ويريدون للجميع أن يكونوا مثلهم. |
2. المتقلبون في ودّهم |
الذين تراهم معك ما دامت حاجتهم بك قائمة، ثم إذا ما وجدوا من هو أكثر نفعًا منك، انصرفوا عنك كما لو لم يكن بينكم عهد، هؤلاء لا يتركون في القلب فراغًا، لأن فراغهم كان قائمًا قبل أن يرحلوا. |
3. الذين يعيشون لإطلاق الأحكام |
الذين يرون أنفسهم معيار الصواب، يتحدثون عن الناس وكأنهم موكلون بمحاسبتهم، ولا يكاد يخلو لسانهم من ذكر فلان وفلانة، في معرض النقد لا النصيحة، وفي مقام الغيبة لا التقويم. |
4. مؤرخ الإساءة |
الذي لا ينسى زلةً، ولا يغفر خطأً، يعيش على إعادة شريط الماضي، ويجعل قلبه صندوقًا مغلقًا لا يُفتح إلا ليسترجع أحقاد الأمس. |
5. كثير الشكوى |
الذي لا يرى في الحياة إلا وجعها، يُمطر أذنك كل يوم بقائمةٍ جديدةٍ من الشكاوى، وكأنه الوحيد الذي تكالبت عليه الأقدار، لا يرى إلا العوائق، ولا يتحدث إلا عن الظلم، حتى يوشك سامعه أن يشعر أن الحياة كلها قائمةٌ على مؤامرةٍ ضده. |
العزلة… تهذيبٌ لا انعزال |
كانت حنّا أرندت، الفيلسوفة الألمانية التي هربت من النازية، ترى أن الحرية لا تكتمل إلا حين يكون الإنسان قادرًا على التفكير بمفرده، بعيدًا عن تأثير الجماهير. لا يمكن الحديث عن العزلة دون العودة إلى الفلسفة القديمة. كان سقراط يرى أن "العيش مع الآخرين يبدأ من القدرة على العيش مع الذات"، لأن من لا يستطيع أن يُجري حوارًا داخليًا، لا يمكنه أن يكون حوارُه مع الآخرين حقيقيًا. أما أفلاطون، فقد صوّر الفيلسوف الحقيقي في كهفه، بعيدًا عن ضوضاء الجماعة، حيث يستطيع أن يرى النور دون أن تحجبه ظلال الواقع المزيف. |
حين تجد الروح موطنها |
وتلتمس أنفاسها في هدأة الليل وسكون القلب، تأتي العشر الأواخر موعدًا سنويًّا مع الرحمة، لقاءً مع النفس، وانقطاعًا اختياريًا عن كل ما يثقل الروح، ويشوّش القلب، ويبعثر الفكر، فالاعتكاف ليس مجرد بقاءٍ في المسجد، أو انقطاعٍ عن الدنيا ببعدٍ جسدي، وإنما هو انقطاعٌ داخلي، عكوف القلب على مولاه، واستغراق الروح في أنوار القرب، حيث لا يشغله شاغل، ولا يلتفت إلى شيء، إلا إلى ذلك النور الذي يبحث عنه في داخله، والذي يمده الله به في هذه الليالي المباركة. |
والنفس، مهما علت، تعتلّ، ومهما سمت، يصيبها الغبش، وتعلوها الكدورات، فلا تجد شفاءها إلا في الانقطاع إلى الله، والارتماء في رحابه، وإعلان الفقر الكامل بين يديه. ﴿وَاذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ (المزمل: 8)، فبقدر ما يكون الذكر إقبالًا على الله، يكون التبتل انقطاعًا عما سواه، كما قال العلامة أبو السعود في تفسيره: "وانقطع إليه بمجامع الهمة، واستغرق العزيمة في مراقبته، وتجريد النفس عن العوائق، وقطع العلائق عما سواه"[8] |
وهكذا، كانت العشر الأواخر ميقاتًا لطالما كان موئلَ الهاربين من صخب الحياة، وجنةً للمشتاقين إلى صفاء القلب. ومن هنا، يتصل المعنى بما قرره الإمام المالكي أحمد زروق حيث يقول: "الخلوة أخص من العزلة، وهي بوجهها وصورتها نوعٌ من الاعتكاف، ولكن لا في المسجد، وربما كانت فيه مثل رمضان، والقصد بها تطهير القلب من أدناس الملابسة، وإفراد القلب لذكره سبحانه، وحقيقة واحدة، ولها فتوحٌ عظيم، وقد لا تصح لأقوام، فليعتبر كل أحد بها حاله."[9] |
إذن، ليست العزلة فرارًا من الناس، ولكنها فرارٌ إلى الله، انسحابٌ من الفوضى لا من الحياة، وانقطاعٌ عن المشاغل لا عن المعنى، حيث يذوق القلب لذة العبودية الصافية، ويجد في خلوته بالله ما لا يجده في ازدحام الدنيا، فهناك حيث الصفاء، تنكشف الحقيقة، ويتجلى نور القرب لمن خلّص قلبه من شوائب الانشغال والتعلّق بغير الله. |
رمضانُ، ذاكَ الحبلُ الذي يُلقى في جبِّ الغفلةِ فيتشبثُ به من شاءَ الخلاص، رمضانُ، الذي ينتشلُ أرواحنا من مقابرِ المومياء التي أعددناها لأنفسنا، تلك التي سنكون فيها ذات يومٍ مجرد خلفيةٍ لهاتفِ سائح، أو عيّنةَ تأملٍ لعالمِ آثارٍ يعجبُ كيف حنَّط الإنسانُ المعاصرُ نفسه بنفسه. |
لماذا نحتاج إلى الاعتكاف؟ |
الإنسان كائنٌ مشغول، حياته مليئةٌ بالتزاماتٍ لا تنتهي، مسؤولياتٌ تتكاثر، علاقاتٌ تفرض نفسها، ومخاوفُ تُحاصره. ومع مرور الوقت، ينسى قلبه وسط هذا الضجيج. قد يكون داعيةً، عالمًا، أبًا، زوجًا، موظفًا، لكنه في زحام كل ذلك، كم بقي لله وحده؟ كم من الوقت كان فيه مع الله دون أن يشغله شيء؟ |
وهنا، يكون الاعتكاف استدراكًا للنقص، تعويضًا عن لحظات الغفلة، تذكيرًا للروح بمسارها الحقيقي. في الاعتكاف، يتخفف القلب من أثقاله، وتعود الروح إلى صفائها الأول، والروح التي يُراد لها أن تصنع فرقًا، أن تهزّ الأرض وتغيّر مسار التاريخ، لا تُصقل في زحام الناس، ولا تُشحذ في صخب الحياة، بل تحتاج إلى لحظات من العزلة، إلى خلوة تتخفف فيها من ثقل العادات والتصورات الجاهزة. |
الاستغراق في الواقع، بكل ما فيه من طقوس مألوفة، يجعل النفس تستكين، تتشرب تفاصيله حتى لا تعود ترى إمكانيةً لتغييره. أما حين تنفصل عنه لحظة، حين تخرج من تياره الجارف، وتطلّ عليه من بعيد، تدرك حدوده وتعرف مواضع الخلل فيه، حينها فقط، تصبح قادرة على إعادة تشكيله. |
الاعتكاف.. اختبارٌ للنفس وارتقاءٌ للروح |
إذا كان الصيام يضبط الجوارح، فإن الاعتكاف يحرر القلب، وهو بحق مدرسةٌ تهذب المرء، تعلمه كيف يختلي بنفسه دون أن يهرب منها، كيف يواجه أفكاره دون أن يغرق فيها، كيف يكون صادقًا مع ربه حين يخلو به بعيدًا عن أعين الناس. |
في الاعتكاف، يتعلّم المؤمن كيف يكون مع الله في كل لحظة، كيف يملأ قلبه بذكره، كيف يجعل كل سجدةٍ نداءً، وكل دعاءٍ رجاءً، كيف يجعل من كل سجدة حوارًا بينه وبين ربه، ومن كل لحظةٍ قربًا لا يشغله عنه شيء، وهو وقتٌ لاختبار الإخلاص، حيث يكون العبد وحده، بعيدًا عن أعين الناس، حيث لا مديحٌ يسمعه، ولا ثناءٌ يُنتظر، فقط هو وربه، لا أحد بينهما. |
لكن، ليس كل من اعتكف، قد اعتكف حقًا، فهناك من يجعل الاعتكاف مجرد تجمعٍ للنائمين، أو فرصةً للتعارف والحديث، أو مناسبةً لتمضية الوقت دون أن يتغير شيءٌ في داخله، والاعتكاف المطلوب ليس مجرد وجودٍ في المسجد، بل هو وجودٌ في رحاب الله، ليس مجرد مكثٍ، بل مكابدة، ليس مجرد صيامٍ وصلاةٍ، بل عيشٌ حقيقيٌ لمعنى العبودية. |
يقول ابن القيم -رحمه الله- في الفوائد: "إذا طلع نجم الهمة في ليل البطالة، وردفه قمر العزيمة، أشرقت أرض القلب بنور ربها."وهذا هو المقصد الأعظم للاعتكاف؛ أن يصبح نور القلب متصلًا بنور الله، أن تتوهج الروح، أن يشعر الإنسان أنه بدأ من جديد، بقلبٍ أنقى، بهمّةٍ أعلى، وبروحٍ لم تعد تثقلها الدنيا كما كانت تفعل من قبل. |
وإذا كانت العزلة دواءً في كل وقت، فإن العشر الأواخر هي موسمها الأعظم، فمن لم يختلِ في هذه الأيام، فمتى يختلِ؟ ومن لم يعتكف بقلبه، ويخلو بروحه، ويجعل لهذه الليالي حُرمةً تليق بجلالها، فمتى يفعل؟ |
لقد كان النبي ﷺ إذا دخلت العشر، شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، ولم يكن ينام عنها كما كان يفعل في غيرها، لأنه يعلم أن فيها ليلةً هي خير من ألف شهر، لحظةٌ واحدة فيها تكتب للعبد عمرًا جديدًا، وترفعه درجاتٍ لا يبلغها بالسعي الدنيوي، ولا بالتخطيط المادي، بل بوقفة صدقٍ بين يدي الله، وانطراحٍ خالصٍ في ساحات رحمته. |
الاعتكافُ هو اتفاقيةُ اعتراف |
يأتي الاعتكافُ ليكون كهفَ الأمانِ الذي يلوذُ به كلُّ من استطاع إليه سبيلًا، فهو انسحابٌ عن الدنيا، لا عن الحياة، وهو ابتعادٌ عن الفوضى، لا عن المعنى، الاعتكافُ هو اتفاقيةُ اعتراف، بأنَّ القلبَ قد أنهكته التقلباتُ، وأنَّ الروحَ لم تَعُد تجدُ مأمنًا في هذا العالمِ الصاخب، فهو ليس عُزلةَ بدنٍ عن الناسِ بقدر ما هو عُزلةُ القلبِ عن غير الله، يقول ابن القيم: "بعكوف القلب بكليته على الله عز وجل، لا يلتفت عنه يمنةً ولا يسرةً، فإذا ذاقت الهمة طعم هذا الجمع، اتصل اشتياق صاحبها، وتأججت نيران المحبة والطلب في قلبه لله[10]". |
الاعتكافُ هو انعتاقٌ إلى السماء، لونٌ من العبودية، يعيد جمع الخاطر، وصفاء القلب، والتفرغ للطاعة، والتشبه بالملائكة، والتعرض لنفحات ليلة القدر، يقول الجُرجاني في تعريفه للاعتكاف: "تفريغ القلب عن شغل الدنيا، وتسليم النفس إلى المولى، وقيل: الاعتكافُ والعكوفُ: الإقامة، معناه: لا أبرحُ عن بابك حتى تغفر لي". [11] |
اعتكاف القلب.. لا مفرّ منه |
في نهاية الأمر، كلُّ قلبٍ معتكفٌ.. فإما أن يكونَ عاكفًا على الله، أو يكونَ عاكفًا على غيره. ومن لم يعتكف قلبُه على الله وحده، عَكَفَ على التماثيلِ المتنوعة، كما قال إمام الحنفاء لقومه: ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾. فإما أن يكون القلبُ معتكفًا في رحاب الإله، أو يكون معتكفًا على شهواته، وأوهامه، ومادياته، هذا هو الفرق بين قلبٍ يبيت في حضرة مولاه، وقلبٍ يبيتُ مشغولًا بأعباء الحياة، قلبٌ يعتكفُ ليخلو بربِّه، وآخرُ يعتكفُ ليخلو بمخاوفه، وأوهامه، وأرقه، واشتغاله بما فاته وما سيأتيه، لكنها انفصالٌ مؤقت عن فوضى الخارج، لكي يستعيد الداخل صفاءه، ويسترجع القلب لياقته الروحية التي أنهكها الصخب. |
ماذا بعد العشر؟ كيف نحمل نورها معنا؟ |
إن أجمل ما في الاعتكاف، ليس اللحظة التي ينقطع فيها العبد عن الناس، وإنما الأثر الذي يتركه بعد انقضائه، والعشر الأواخر ليست محطةً يقف عندها العبد ثم يمضي كأن شيئًا لم يكن، وإنما هي زادٌ يحمله معه لما بعد رمضان، وللزمن أثرًا في الإنسان، فهو يشكّله كما يشكّل النهر مجراه، وينحته كما تنحت الريح وجه الجبل، ولا عجب أن كان لكل عصرٍ طريقته في بناء النفوس، وصياغة العقول، وإعادة تشكيل الأرواح، لكنّ زمننا هذا – بكل ما فيه – قد بلغ في تشتيت القلوب مبلغه، حتى صار لزامًا على من أراد أن يحفظ قلبه أن يلجأ إلى عزلةٍ لا يحفظ بها نفسه فحسب، بل يرمم بها ما تبعثر من روحه في زحام الحياة. |
يا الله، إن في القلب وحشةً لا يؤنسها إلا قربك، وفي الروح ظمأً لا يرويه إلا ذكرك، فامنحنا في هذه العشر سكينة الخلوة، وأنس المناجاة، ونور الطاعة، اجعلها محطةً تتجدد بها أرواحنا، ونعود منها بقلوبٍ نقية، لا تبتغي إلا رضاك، اللهم لا تحرمنا فضل ليلة القدر، ولا تخرجنا من رمضان إلا وقد كتبت لنا عتقًا لا يعقبه أسر، وقربًا لا يعقبه بعد، آمين يا رب العالمين ولكل عين قارئة. |
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |
[1] مدارج السالكين – ابن القيم -154/3 |
[2] رواه البخاري، حديث رقم 3. |
[3] إرشاد الساري-(ج1، ص62) |
[4] مذكرات في فقه السيرة، ص18. |
[5] إحياء علوم الدين، ج3، ص66 |
[6] محاولة اجتهادية لتقريب المفارقة بين العزلة و الوحدة. |
[7] بستان العارفين، للإمام النووي، ص47. |
[8] تفسير أبي السعود، ج8، ص338. |
[9] "قواعد التصوف" (ص39). |
[10] مدارج السالكين – ابن القيم -94/3 |
[11] التعريفات – للجرجاني - 25 |
التعليقات