بهجة الوصول |
بواسطة توّاق • #العدد 3 • عرض في المتصفح |
بين مواسم التعب ومواقيت الفرح
|
|
![]() |
لم يكن "كتاب الطبيخ" لابن سيّار الورّاق مجرد دليل للطهو، بل كان سِجلًا لنكهة عصرٍ بأسره، يوم كانت الموائد مشاهد من حياة الخلفاء، حيث التوابل تأتي من تخوم الهند، جمع الورّاق في كتابه ما تناثر من مذاقات القصور، وما تسرّب من أسرار الطهاة، فجاء كتابه كأنّه ديوان مذاقات، وحين انتقل الطهي من بغداد إلى الأندلس، لم يكن ذلك مجرد عبور لوصفة، بل هجرة روح الطهي من بقعة إلى أخرى، فظهر كتاب "فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان"، تتويجًا للأناقة المغربية الأندلسية على صَفحة المائدة، فكان أبو الحسن التجيبي نَاقِدًا للطعام قبل أن يكون صانعًا له. |
ولم تكن السمبوسة طارئةً على الموائد كما يقول د. إبراهيم بن عبد الله المديهش، في بحثه عن السمبوسة في كتب التراث" وليست وليدة الأزمان المتأخرة، بل هي أكلةٌ ضاربة في عمق التاريخ، نُقِشت في كتب الفقهاء، وسُطِّرت في دواوين الأدباء، وجرى ذكرها في صفحات مؤلفي كتب الطبخ، حتى صار لها في التراث حُضورٌ لا يُدفع، وعُمرٌ موثق يتجاوز ألف ومئتي عام! هذا المثلث الذهبي، الذي يُحشى باللحم والتوابل، لم يكن مجرد لقمةٍ تُلتهم، بل كان صنعةً مُتقنة، تولّت وصفها أقلام أهل الطبخ والعلاج، فداوود الأنطاكي يُصنّفها ضمن الأغذية المقوِّية للأعصاب، المسمنة للأجساد، أما تسميتها، فقد دار حولها الجدل، بين "السنبوسة"، و"السنبوسج"، و"السنبوسك"، و"السمبوسة"، وما دام اللفظُ أعجميًا، فقد استساغته الألسن على اختلافها، وتناقلته الأفواه بمرونة لا تفسد المسمّى. |
وهكذا، تتكرر دورة الحياة بين الأيدي التي تُعدّ، والقلوب التي تنتظر، في طقسٍ يعيد صياغة مشهدٍ قديمٍ بلمساتٍ جديدة، فكما كانت الموائد العباسية والأندلسية انعكاسًا لحضارة الطهي وفنونه، فإن مائدة رمضان اليوم امتدادٌ لتلك الروح، حيث يلتقي الإتقان بالعرف، وتمتزج العادة بالعقيدة. |
لحظة الإفطار |
في كل بيت، قبل غروب الشمس، تضجّ المطابخ بحركةٍ لا تهدأ، منذ الظهيرة، وربما قبلها، تبدأ الاستعدادات؛ تخرج المكونات من الخزائن، تُغسل الخضروات، يُنخل الدقيق، تُدق التوابل، تُصنع العجائن، تُقطع الفاكهة، وتُرصّ الأطباق في تناسقٍ دقيق، صوت الماء ينسكب في الأواني، ألسنة اللهب تتراقص تحت القدور، والبخار يتصاعد برائحته التي تعم الأرجاء. |
هناك على الطاولة، أيادٍ تعجن، وأخرى تقطّع، وثالثة تراقب عجينًا يُخبز، وطفل صغير يحوم حولهم، يتشمم الروائح بشغف، يمد يده نحو قطعة تمرٍ مسروقة، فتبادله أمه نظرة تجمع بين اللوم والابتسامة. |
الأمهات والأخوات في معركةٍ صامتة، تتسابق فيها الأيدي، ويتقاطع البصر بين قدورٍ تغلي، وأطباقٍ تتهيأ، وعجائن تُفرد على الطاولات، الفرن يتقد كأنه مشتعلٌ بالحماس، والبخار يتصاعد محمّلًا بروائح الكرم، والهواء يعج بأصوات القدور وهي تُحرَّك، والصحون وهي تُصفّ، والملعقة تضرب الإناء كأنها تعلن قرب موعد الحصاد، ساعاتٌ طويلة من العمل، والكل في حالة استنفار، الجلبة تعمّ المكان، والحرارة ترتفع، والأمهات والأخوات لا يقطعن العمل إلا لحظاتٍ يرفعن فيها أيديهن ليمسحن التعب عن وجوههن. تعبٌ مرهق، لكنه لا يُشعر به، لأن الفرح الذي يأتي بعده يستحق كل دقيقةٍ مضت. |
ثم تأتي اللحظة الحاسمة، لحظة الإفطار. |
ينطلق صوت الأذان، فتنقلب الضجة إلى سكون، والعيون تترقب التمرة الأولى التي ستلامس اللسان الجاف، وكأنها أول نعمةٍ تُذَاق بعد خلق الإنسان، يُمدّ الجميع أيديهم إلى التمر والماء، ويُسمع أول زفرة ارتواءٍ بعد يومٍ طويل من الصيام، دقائق معدودة، لكنها تستحق كل هذا التعب، لأنها ليست مجرد لحظة أكل، بل لحظة فوزٍ وأجر، لحظة فرحٍ للصائم، يلتقي فيها جهد الجسد مع راحة الروح، ويندمج فيها تعب الساعات مع لذة الامتثال لله. |
وهذا المشهد الذي يتكرر كل يوم، هو نفسه ما يتكرر في معركة الحياة الكبرى، الجهد الطويل لا يُبذل عبثًا، بل من أجل لحظةٍ واحدة، لحظة تستحق أن يُنفق العمر كله لأجلها. |
سنوات المهر |
حين وقف موسى -عليه السلام- غريبًا في أرض مدين، لم يكن يعلم أن اللحظة التي مدّ فيها يده ليسقي للمرأتين ستكون بداية لامتحانٍ طويل، “إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ على أن تأجرني ثماني حجج”، جاءه العرض الذي سيكلفه سنواتٍ من العمل، فكانت الصفقة واضحة: عشر سنواتٍ من الجهد في مقابل عقد الزواج. |
ثماني سنوات، بل عشر، في رعاية الأغنام، والسير بها بين المراعي، في الصباح الباكر، والظهيرة الحارقة، والمساء البارد، كان موسى -عليه السلام- يطوف خلفها، يراقب الصغيرة منها، يحميها من الذئاب، يعيدها إن شردت، يسقيها إن عطشت، في دورةٍ يومية لا تنتهي، سنواتٌ مضت، كلها تعب، كلها سعي، كلها انتظارٌ للحظة، لحظة العقد، لحظة البيت الذي يسكن إليه بعد سنواتٍ من الغربة والتيه، لحظة السكينة التي يستحقها بعد كل هذا العناء، عشر سنواتٍ من العمل، كانت كلها مهرًا للحظة واحدة، لحظة زواجه، لحظة تكوين بيته واستقراره، عشر سنواتٍ لم تُمحَ من الذاكرة، لكنها لم تكن شيئًا حين جاء اليوم الذي وجد فيه نفسه بين أهله، قد بلغ الأمان، وحقق المراد. |
الأنفاس الباقية |
ليس الحديث عن معاناة العلماء ترفًا علميًا أو تذكيرًا بقصص الأوّلين لمجرد الإعجاب بها، بل هو استقراءٌ لحقيقةٍ طالما غفل عنها كثيرٌ من الناس: أن التحصيل العلمي الجادّ طريقٌ محفوفٌ بالمكابدة، وأن السير في ميادين المعرفة لا يكون إلا لمن صبر على وعثاء الرحلة، وصارع لأواء الطلب، وضحّى بكل شيءٍ في سبيل هذا الإرث الثقيل. |
كانوا -رضي الله عنهم- يطوون الليالي كما يطوي السائر دجى الطريق، لا يعرفون لذة الوسائد الوثيرة، ولا يسكنون إلى راحة الجسد، أعمارهم وقودها الورق، ومدادها الحبر، وأيامهم تُنفق بين سطور المخطوطات، لا يطلبون بذلك دنيا تُنال، ولا منزلةً تُرتجى، إنما يسعون وراء لحظةٍ واحدة! لحظةٍ تتبدّد فيها حيرةٌ طال مكوثها، أو يشرق فيها فهمٌ استعصى، أو تتكشف لهم في طيات الكتب حقيقةٌ طالما أجهدوا الفكر في إدراكها. |
هذا الإمام البخاري، يجوب الأمصار في طلب حديث، يقطع الفيافي والصحارى، يُجوع نفسه ربما من أجل حديثٍ واحدٍ قد لا يتجاوز سطرًا واحدًا! يتفقد الرواة، ويمحص الأخبار حتى جمع "الصحيح" فصار علَمًا على رأس الدهر. وذلك أبو حاتم الرازي، يسير ألف فرسخٍ على قدميه في طلب حديثٍ واحد، يجوع في بعض المراحل حتى يقتات أوراق الشجر، لكن جوعه لم يكن للبدن، إنما جوع العلم هو الذي قاده في تلك الرحلة الطويلة، لو قيل لأحدهم إن تعبك هذا سينتهي بمجدٍ يملأ الآفاق، لما ازداد إلا إخلاصًا لله واحتسابًا. أيُّ نفوسٍ تلك التي تترك اللذات، وتنبذ الملهيات، وتسير خلف العلم في صبرٍ كصبر الأنبياء؟! |
وهكذا كانت حياة الإمام ابن تيمية، معركةٌ مستمرة، بين السجن والمنفى، بين القلم والمناظرة، بين الحبس والفتوى، سنوات من العناء لم تكن عبثًا، بل كانت لأجل لحظة واحدة، لحظة تُقرأ فيها كتبه بعد قرون، فيجد فيها طالب العلم ضالته، ويتعلق بها الباحث عن اليقين، لحظة تنطق فيها كلماته بعد موته، وكأن أنفاسه لا تزال تسري في أروقة المكتبات. |
ليس الغرض من ذكر هذه النماذج رفع سقف المعاناة، ولا جعلها مقياسًا وحيدًا لنجاح طالب العلم، لكن ليُعلم أن الطريق لم يكن يومًا معبّدًا، وأن أبواب العلم العميق لا تفتح لمن أرادها عَرَضًا، أو طلبها متكئًا على أريكته، بل هو مضمارٌ لا يصبر عليه إلا من أيقن أن كل تعبٍ فيه إنما هو ثمنٌ لحياةٍ ممتدة، تبقى فيها الكلمات وإن فنيت الأجساد، ويحفظ فيها العلمُ صاحبه حتى بعد موته. |
مثقال الذرة |
يعيش الإنسان عمره كله، يسعى، ويكدح، ويجمع الحسنات، ويسأل الله القبول، لكنه يوم القيامة يقف أمام الميزان، وكل أعماله تتوقف على مثقال ذرة، لحظةٌ واحدة تُحسم فيها رحلته كلها. “فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره” (الزلزلة: 7-8). سنواتٌ من الجهد، وربما لحظةٌ واحدة في الدنيا ترجّح كفة الميزان، سجدةٌ أطالتها روحٌ صادقة، دمعةٌ خالصة خرجت في خلوة، كلمةٌ قيلت في موضعها، كلها قد تكون أثقل في الميزان من سنينٍ عاشها الإنسان. |
ميزان الخلود |
وكذلك هي الدنيا كلها، عمرٌ يُبذل، وجهدٌ يُسكب، وساعاتٌ تُسهر، كلها في سبيل لحظةٍ واحدة، لحظة العبور إلى الجنة، لحظة الوقوف بين يدي الله وقد رضي، لحظة رؤية وجهه الكريم، لحظة سماع “سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ”، لحظة الاستحقاق التي من أجلها صام الصائمون، وقام القائمون، وتصدّق المتصدقون، وضحى الصادقون. |
في ميزان الخلود، الدنيا ليست إلا لحظة، وثانيةٌ واحدة في دار النعيم تزن عمر الدنيا كله. فمن يُنفق ساعاتٍ طوال لإعداد الإفطار من أجل دقائق معدودة، ومن يقضي عشر سنوات من العمل لأجل لحظة عقد الزواج، فكيف بالبذل من أجل الخلود؟ كيف لا يُسخّر العمر كله من أجل لحظةٍ واحدة يُقال فيها: “ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ”؟ |
الذين فهموا هذه القاعدة لم تثقلهم الطاعات، ولم يجزعوا من الابتلاءات، لأنهم عرفوا أن الأثمان العظيمة لا تُدفع إلا لأجل الجزاء الأعظم، وأن دقائق الفوز تُستحق بسنوات الجهد، وأن الخلود في النعيم لا يُنال إلا بالعمر الذي يُبذل لله، وليس العاقل من ينظر إلى تعب الطريق، بل من يرقب بهجة الوصول. |
التعليقات