الأنامل المرتجفة |
بواسطة توّاق • #العدد 1 • عرض في المتصفح |
بين أثر اللحظة وخلود الفكرة
|
|
![]() |
كلما تأملت في هذا الكم الهائل من الحروف التي أُفرغت على الورق، والأصوات التي ترددت في المجالس ثم خمدت، يتبادر إلى ذهني سؤالٌ ملحٌّ: ما الذي يجعل بعض الكلمات تُعمّر، وبعضها الآخر يُطوى كأن لم يكن؟ لماذا تموت آلاف الكتب بعد صدورها مباشرة، وكأنها لم تُكتب أصلًا، بينما تظل نصوصٌ أخرى نابضةً بالحياة، تُتداول بين الأجيال وكأن أصحابها لم يغبوا عن الدنيا طرفة عين؟ |
الكتابة: معركة ضد الفناء |
لو كان للخلود بابٌ يُطرق، لكانت الكتابة مفتاحه الأول، ولو كان للبقاء سرٌّ يُكشف، لكان مداده الحبر وأوراقه صفحات التاريخ، فمنذ أن خطّ الإنسان أول نقشٍ على الصخور، كانت الكتابة جسر العبور من زمنٍ فانٍ إلى زمانٍ ممتد، ومن حياةٍ محدودة إلى أثرٍ خالد. |
فالكاتب الذي يطلب البقاء لا يكتب لمزاج اللحظة، بل يكتب ليؤسس فكرًا، يبني مدرسة، يُرسي أصولًا، يُعيد ترتيب العقل، فالكتابة التي تبقى ليست تراكمًا لفظيًا، ولا زخرفةً لغوية، بل هي رؤيةٌ تسابق الزمان، وفكرةٌ لا تبلى مع تقادم الأيام. |
ولأن الكتابة ليست مجرد هواية، بل فعلٌ يتجاوز الذات ليُسجّل الحضور في الوجود، نجد بول أوستر يُجمل هذا المعنى في قوله: "بالنسبة لي، ليست الكتابة مسألة إرادة حرة، بل هي فعلٌ من أجل البقاء". |
وهنا تأتي الفكرة الأولية: ليس كل كاتبٍ يبقى، وليس كل ما كُتب سيُعاد قراءته، فديمومة النص مشروط بأن تحمل في طيّاتها حقيقةً لا تزول، وصدقًا لا يُستهلك، وقيمةً لا تنتهي صلاحيتها مع تغيّر الأزمان، فالكتابة ليست مجرّد ترفٍ ثقافي، ولا هوايةٌ تُملأ بها الفراغات، بل هي أشبه ما تكون بمعركةٍ يخوضها الكاتب ضد النسيان، ضد زحف الفناء الذي يطوي الأيام ويمحو الذكريات، فأنت حين تكتب، فإنك تعلن الحرب على العدم، تسجّل حضورك في صفحات الدهر، وتقاوم السقوط في غياهب النسيان. |
وإن كان بعض الكتّاب يكتبون لمتعة اللحظة، فإن آخرين يرون في الكتابة فعلًا أشبه بولادةٍ جديدة، حيث لا يكون الإبداع مجرّد تعبيرٍ عابر، بل مقاومةً صامتةً للموت ذاته، وهنا استذكر قول الفيلسوف الفرنسي رولان بارت، حين سأله أحد الصحفيين: ما الذي يجعلك تواصل الكتابة؟ فأجاب: «إن الكتابة إبداع، وفي هذا المضمار ينبغي أن تكون الكتابة إنجابًا، إنها طريقة في مكافحة الشعور بالموت، وفي الهيمنة عليه، وفي التحرر الكامل منه». |
فالتاريخ مملوءٌ بالأقلام التي حفرت أسماءها في صخر الزمن، لا لأنها كتبت كثيرًا، بل لأنها كتبت ما يستحق أن يُقرأ مرارًا، كتبت ما يلزم كل جيل، كتبت ما يُضيء العقول ويُحرّك الهمم ويُبقي الفكرة مشتعلةً عبر القرون، ولو تأملت في مئات الكتب التي تراكمت عبر العصور، لرأيت أن ما بقي منها ليس الأكثر انتشارًا في وقته، بل الأكثر تأثيرًا فيمن بعده، ليس ما أثار الضجيج، بل ما زرع الفكرة، ليس ما أبهج الناس لحظة، بل ما أنار عقولهم دهورًا. |
فسيبويه (ت. 180هـ) لم يكن متصدّرًا في المجالس، ولم يرفع صوته في المحافل، لكنه أودع في كتابه من العلم ما جعل النحو يدين له، ويقف العلماء عند أبوابه تلاميذ لا أساتذة. ولم يكد النحو يستقرّ على أصوله حتى جاء الطبري (ت. 310هـ)، الذي لم يكن خطيبًا مفوّهًا يهزّ المنابر، لكنه أسكن في تفسيره روحًا جعلته المَعين الذي لا ينضب، ينهل منه القاصي والداني، فبقي ما بقي القرآن يتلى. ومع امتداد الزمان، ظهر ابن حزم (ت. 456هـ)، فلم يجامل عصره، ولم يكتب ما يُرضي الناس، بل سطّر في "المحلى" من الحجة ما جعله عصيًّا على التجاهل، حاضرًا رغم القرون التي مضت. وعلى خطى التأصيل والاستدلال، جاء عبد القاهر الجرجاني (ت. 471هـ)، الذي لم يكن شاعرًا يلهب المجالس، لكنه كشف في "دلائل الإعجاز" سر البيان، فكان لعلمه من البقاء ما لم يكن لكثير من الشعراء، ثم جاء الجويني (ت. 478هـ)، فلم يسعَ لمنصب، لكنه خطّ في "البرهان" أصولًا بقيت كالمشاعل في درب أصول الفقه، ينيرها المتأخرون بعده، كما استضاء بها أهل زمانه. وبعده بسنوات، لمع نجم القاضي عياض (ت. 544هـ)، الذي لم يكن صاحب دولة، لكنه كتب "الشفا"، فجعل محبّة النبي ﷺ علمًا يُتوارث، وترك للأمة ما تعود إليه في أوقات الجفاء والشوق، ثم أتى ابن تيمية (ت. 728هـ)، الذي لم يكن صاحب دار نشر، ولم يخطب في الساحات العامة ليجتمع إليه الناس، ولم يكن له منبر رسمي يبث منه أفكاره، لكنه أودع في أوراقه من القوة والمتانة ما جعله حيًّا في عقول العلماء والمفكرين من بعده، فكانت كلماته منهجًا يُستضاء به في المُلمّات، ومفتاحًا لفهم كثير من قضايا الفكر والعقيدة، ورغم تعاقب القرون، ظل فكره يتجدد كلما تجددت الحاجة إليه، وكأنما لم يزل بيننا ناطقًا بما سطره في حياته. |
الكتابةُ ذاكرةُ الزمان |
لو أنصتَّ إلى صدى الأزمنة، لوجدتَ أن الأجساد تفنى، والأصوات تهمد، والوجوه تندثر، لكن ثمة شيءٌ واحدٌ يأبى الرحيل، شيءٌ يمتدُّ عبر الدهور، يظلُّ شاهداً حين تُمحى الشواهد، ناطقاً حين يخرس الزمان: الكلمة المكتوبة. |
و ما زلتُ أؤمن أن أول من اخترع الكتابة، لم يكن يبحث عن أداةٍ للبوح، بل كان يبحث عن مستمعٍ لا يجده، فقد امتلأ صدره بالكلام، لكن ضاقت عنه الأسماع، فكانت الكتابة ملاذه الأخير، حيث يُحدّث الورق كما لم يُحدّث بشرًا من قبل. فهناك في أرض كولومبيا يقول الروائي غابرييل غارثيا ماركيز في صفحات كتابه عشتُ لأروي "الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه". |
إذ أن الكتابة ليست مجرّد نقشٍ على ورق، بل هي طريقٌ للخلود، فالكُتّاب لا يموتون، بل تتحوّل أرواحهم إلى سطورٍ تسري بين الأجيال، تنقل أفكارهم، همساتهم، رؤاهم، حتى كأنّك تجالسهم بعد قرونٍ من موتهم، تستمع إليهم بلا واسطة، تحاورهم ولو كانوا في بطون الثرى. |
واستذكر هنا نصًا للدكتور عبد الرحمن بودرع يقول فيه أن "الكتابةُ فعلٌ حضاريٌّ، يُعبِّرُ عن قُدرةِ الكاتبِ على ترجمة الأعيانِ والمَشاعر والأشياء بل الوجود كلِّه إلى مَفاهيمَ وأفكارٍ مَبنيّةٍ في أنساقٍ وأنظمةٍ ذاتِ عَلائقَ منطقيّةٍ. الكاتبُ حين يَكتبُ يُقرِّبُ المَوضوعَ إلى المُخاطَب وينقُلُه بوسائطَ ومقاييسَ متعدّدةٍ متداخلةٍ مُختلفةِ الأجناسِ، وتفوُّقُ الكاتبِ رهينٌ بفقه التقريبِ والنقلِ والترجمَة، رهينٌ بالموقع الذي ينبغي أن يَقفَ فيه لتحويلِ العالَم إلى أفكارٍ ومفاهيم، فموقعُه هذا هو الزاويةُ المُنتقاةُ التي سَتَزْوي لَه العالَم في أقرب صورِه وأيسرها تَناوُلاً وأوضحها إدراكاً وفَهماً. ثُمَّ تأتي محنةُ البيانِ اللغويّ وانتقاءِ الأبيَن من البُنى اللغويّة التي تَعكسُ البنى الفكريّة. وهذا مَيْدانٌ يتفاوتُ فيه الناسُ أشدَّ التفاوُت، إلى درجة أن منهم مَن يأتي بالمُعمَّياتِ زاعماً غموضَ عالَم الأفكار وصعوبةَ استنباطها من الأعيان وصعوبةَ تكوين الأنساق؛ وأكثر الكتاباتِ التي تأتي على هذا النّحوِ يَزهدُ فيها القُرّاءُ ولو كثُرَت، وتتراكمُ على الرفوف ولو كان كاتبُها سخيَّ اليد بالكتابة والطبع والنشر، فالكتابةُ فعلٌ حضاريٌّ لأنها مُعاناةٌ وعَناءٌ. |
لكن، أيّ كتابةٍ تلك التي تنال هذا الشرف؟ ليس كلُّ ما يُسجَّل يحيا، وليس كلُّ ما يُدوَّن يبقى، بل هي الكتابة التي تلمس الأسئلة الكبرى، والحقائق الثابتة، والصراعات العميقة في قلب الإنسان، تلك التي يُعيد الزمان قراءتها مرارًا، وكأنها كُتبت لكل جيل، بل لكل إنسان، تتجاوز كونها حروفًا مرصوصة، فتصبح جزءًا من بنية الفكر، تتغلغل في النفوس، تتشكّل بها العقول، كأنها تراثٌ يُعاد إحياؤه كلما قرأه عقلٌ جديد. |
وقد سطر الدمشقي الأديب علي الطنطاوي في صوره وخواطره قائلاً: "ليعلم طلاب الأدب أن الذي يخرج من القلب هو الذي يقع في القلب، وأن من يمتلكه المعنى الذي يكتب فيه هو الذي يمتلك به الذين يقرؤونه، أما الذي ينحت الألفاظ من أعماق القاموس بالمعول ليكوّمها على الورق بالمجرفة، فهو عامل في إصلاح الطرق وليس صائغًا لجواهر الكلام". |
ومن هنا ندرك أن الخلود في الكتابة ليس منحةً تُعطى، بل صناعةٌ تحتاج إلى إخلاصٍ في الفكرة، وصدقٍ في الكلمة، ودقّةٍ في الطرح، حتى لا تبقى الكتابة مجرد مدادٍ مسكوب، بل نورًا يتجدد مع كل عينٍ تقرأ. |
الكتابة والقراءة: جدلية البقاء |
ما قيمة الكتابة إن لم تجد قارئًا يُحييها؟ فخلود الكلمة لا يكون بمجرد تسجيلها، بل بأن تجد القلوب التي تحملها، والعقول التي تعيد خلقها من جديد، فكل نص خالد هو نتيجة علاقة بين كاتبٌ يخطُّ ليبقى، وقارئٌ يعيدُ النبضَ لما يفنى. |
وقرأت ذات مساء للدكتور سعود الصاعدي نصاً يبين فيه الفرق بين القراءة والكتابة يقول: تتفوق القراءة على الكتابة من جهة أنها بلا مسؤولية؛ فأنت مع الكاتب كالراكب لا يشغلك الطريق بقدر ما تشغلك متعة الضفاف حوله؛ ولذلك تبدو القراءة كمنتجع سياحي يمنحك الاسترخاء الطويل والاتكاءة الحالمة والتحديق في سقف التأملات الليلية المبهجة. في المقابل تمنحك الكتابة تطهيراً روحياً عميقاً لكنها تأخذ منك زفيراً طويلاً مقابل النَّفَس الذي تهبه إياك؛ فهي لا تورق لك حتى تؤرّقك، ولا تفتح لك خزائنها حتى تبريك؛ فأنت معها كقلم الرصاص ينتقص من عمره بقدر ما تمضي به السطور وتقضمه الكلمات العابرة على قارعة الطريق! . |
وهنا تأتي القراءة، لا بوصفها عادةً استهلاكية، بل كفعلٍ يُعيد تشكيل الوعي، كنافذةٍ تُفتح على الزمن، كرحلة لا تنتهي بين عقولٍ وأرواحٍ خُلّدت في الحرف، فالقراءة هي الامتداد الحقيقي للكتابة، فمن يقرأ بوعيٍ يُطيل عمر الفكرة، ومن يقرأ بلا تدبرٍ يدفنها حيّة. |
سرمدية الوحي |
إنّ الكتابة التي تبقى ليست زخرفًا لفظيًا يروق للأسماع، ولا مجرّد تعبيرٍ عن مشاعر عابرة تتلاشى مع تبدّل الأحوال، بل هي مناجاةٌ صادقة بين العقل والقارئ، يستشف فيها القارئ روح الكاتب قبل أن يتلقف ألفاظه، ومن أراد لحرفه البقاء، فليكتب وهو مستشعرٌ أنه مسؤول عن كل كلمة، كأنّها شهادةٌ يلقى بها ربّه، لا مجرد رصفٍ متكلفٍ للكلمات. |
ومن تأمل في آثار الماضين، وجد أنّ الذي خلّد أصحابها ليس كثرة التصفيق حولهم، بل قبسُ الحقيقة المتجردة، تلك التي لم تشبها زخارفُ التكلّف، ولم تتكئ على عكّاز التصنّع، ولم تنحنِ لرياح رضا العابرين. |
ومن أسرار الكلمة الباقية، أن تُكتب بعقلٍ متّقد، وروحٍ موقنة، لا بيدٍ مرتجفة تتلمّس رضا اللحظة، فالذين كتبوا للبقاء، كتبوا بأدوات العلم، وقوة الحجة، ودقة النظر، ثم أودعوها إخلاصًا لله، فكانت كلمتهم ثابتةً ولو تزلزل ما حولهم. |
وإذا كان الناس يبحثون عن الكتابة التي تبقى والفكرة التي لا تموت، فليس هناك أبقى وأخلد من نصٍّ وعد الله بحفظه، وكأن الله جعل له من السرمدية ما يفتقر إليه كل فكر بشري، فمن أراد أن يجعل لكلامه امتدادًا في الزمن، فليغرسه في تربة الوحي، وليبث فيه روح القرآن والسنة، لأن الله قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، فكل شيء يستهلكه الزمن، إلا ما اكتسب خلوده من سرمدية الوحي. |
الانعتاق من أسر اللحظة |
يا صاحبي الكلمة الخالدة ليست وليدة القلم العابر، ولا بنت الساعة المستعجلة، بل هي نتاجُ عقلٍ اشتعل بفكرته حتى نضجت، وقلبٍ اختلطت به معانيها حتى صارت جزءًا من نبضه، فمن أراد أن يكتب ما يُحفظ، فليحرر نفسه أولًا من أسر اللحظة، فإنَّ أكثر ما يُذهب الأثر أن يُكتب النص بعين الزمن الحاضر وحده، دون امتدادٍ في الماضي، أو إشرافٍ على المستقبل، والذي يكتب ليجاري تيارات الوقت، ويسترضي أهواء الناس، ستحكم عليه اللحظة بالفناء مع انطفائها، لكن من كتب بقلمٍ يُحاور الأصول، ويتصل بجذور المعرفة الراسخة، فستجد كلماته مستقَرّها في العقول، تثمر كلما نزلت بها حاجة، واستنطقتها الأزمان المتجددة. |
ثم إنَّ البقاء لا يكون لمحض الألفاظ، وإنما للمعاني التي تحملها، والأفكار التي تبثها، فمن كتب ليزين عبارته، دون أن يجعلها معراجًا إلى معنىً راسخ، كان كمن يصوغ تمثالًا من الرمل، مهما أبدع في نحته، ستذروه الريح في أول هبَّة، وأما من غرس فكرته بعمقٍ، وصقلها بالبرهان، وأحاطها بجمال البيان، فقد صنع لها عمرًا فوق عمره، تتناقلها الأجيال كأنها من وحي الزمن نفسه، لا من مداد الورق. |
وأهمُّ من ذلك كلِّه، أن تكون الكتابةُ امتدادًا لصاحبها، لا قناعًا يتزيَّن به، فإنَّ الذين يكتبون من خارج نفوسهم، لا من عمق تجاربهم وإدراكهم، لن يكون لهم من الأثر إلا كأصداء تُسمع ثم تخفت، لكن الذين تفيض كلماتهم من معاناةٍ صادقة، وفكرٍ عميق، وألمٍ ممتزج بالرجاء، فإنها تخترق القلوب، وتستقرُّ في العقول، فتُروى بعدهم كما تُروى قصص الكبار الذين لم تنطفئ أنوارهم برحيلهم. |
وبقاء الكلمة ليس حيلةً يتعلَّمها الكاتب، بل هو ثمرةُ إخلاصه لحقائقه، وصدقه مع نفسه، واستفراغه وُسعه في إتقان ما يكتب، فمن أراد أن تبقى كلماته، فليجعلها تستحقُّ البقاء أولًا، وليكتب ما يؤمن به، لا ما يُرضي به، وليبذل لها من عقله وقلبه ما يجعلها أكبر منه، تعيش في العقول بعد أن يغيب الجسد، ويذكرها الناس لا لأنها جميلةٌ فحسب، بل لأنها حملت لهم نورًا حين أظلمت الطرق، أو فتحت لهم بابًا حين أوصدت الأبواب. |
وهذه لحظةٌ عجيبة، حين يقبض الكاتب قلمه ليخطّ حرفًا، يعلم أن مداد الحبر سينفد، وأن الورق سيُطوى، وأن اليد التي تخطّ ستخور قواها ذات يوم. ومع ذلك، يُمسك بقلمه وكأنه يُمسك بالخلود، يُدوّن وكأن الحروف ستقف سدًا منيعًا في وجه الزمن، وكأن الفكرة إذا ما لامست الورق، فقد تحرّرت من قبضة الفناء. |
فالخلود في الكتابة لا يكون في مجرد نقل المعلومات، بل في تأسيس المعاني، وفتح الأبواب، وإعادة ترتيب الأفكار في العقول، لهذا تجد بعض الكُتّاب وقد مضت مئات السنين على رحيلهم، لكن كلماتهم لا تزال تُقرأ، وأفكارهم لا تزال تصنع وعيًا جديدًا في كل جيل، فهم لم يكتبوا لمجرّد الكتابة، بل كتبوا ليكونوا علاماتٍ في الطريق، ومناراتٍ في الظلام، ولذا بقي أثرهم، وإن ذهبوا. |
فهذا إمام البيان الجاحظ ينطق وينصت له الزمان قائلاً: "يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقـى أثر ".فالكاتب الموفق من استطاع أن يُسقط الحروف الجامدة على الورق الباهت فينفخ فيها من روحه، ويبثّها من شجن نفسه، ويُنطقها من حديث قلبه، وبقدر ما أصبحت الكتابةُ حِرفةً يمارسها كلّ من لا عمل له بقدر ما فقدت من معناها الكثير. |
ضريبة القلم |
الكاتب الذي يخلد ليس من يكتب فقط، بل من يمسّ قلوب الناس، ويؤثر في عقولهم، ويُعيد تشكيل رؤيتهم للأشياء، كثيرٌ من الكتب ملأت المكتبات، لكنها بقيت أوراقًا صامتة، لم تستطع النفاذ إلى أرواح القرّاء، بينما هناك كلماتٌ قيلت في لحظاتٍ عابرة، فبقيت أعمارًا مديدة. |
انظر إلى من كتبوا بلا أسماء، أو من كُتبت أسماؤهم على الهامش، كيف تحوّلت أفكارهم إلى تياراتٍ، وكلماتهم إلى رؤى يُستشهد بها جيلاً بعد جيل، هؤلاء لم يكونوا مجرد كُتّاب، كانوا زُرّاعًا للمعاني، وما زُرع في القلوب لا تمحوه الأيام. |
فالكتابةُ ليست نزهةً في بساتين الألفاظ، ولا حروفًا تُسكب بلا عناء، بل هي معاناةٌ لا تنقضي، وصراعٌ دائمٌ بين الفكرة وأَسْرِها في قيد اللغة، وليس ثَمَّ كاتبٌ جَرَّبَ حقيقةَ الكتابة، إلا وذاق مرارةَ التحير بين ما يَتَجلى له في عقله، وبين ما ينتهي إليه قلمه، فالمعاني في الذهن ناصعة، واضحة، متألقة، حتى إذا جاءت لحظةُ التقييد بالألفاظ، انقلبتِ السهولة إلى عُسْر، والوضوح إلى غموض، وأضحى صاحبُها بين خطٍّ ومحْوٍ، ومحاولةٍ وإعادة، حتى يساوره الشكُّ في ملكته، ويستثقل السير في هذا الدرب، ويكاد يُسلِمُ نفسه إلى السأم والملل. |
وهذا المعنى أشار له الأديب الأرجنتيني لويس بورخيس، حين وصف علاقته بالكتابة والقراءة بقوله: «أعتبر نفسي قارئًا في الأساس، وقد تجرأت، كما تعرفون، على الكتابة، ولكنني أظنّ أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته؛ فالمرء يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه، وإنما ما يستطيعه». |
لكن هذا هو دَيْدَنُها، والكاتب الحقّ هو من يُدرك أن الكتابة حرثٌ طويل، وسعيٌ شاقٌّ، ونزالٌ مستمرٌ مع الأفكار العصية، وأن الفتح فيها يأتي شيئًا فشيئًا، بعد طرقٍ وإلحاح، وبعد صبرٍ لا ينفد، فلا يُخدع ببريق المعاني في نفسه، بل يمضي في صياغتها، وإن اعتراه الشك في صلابتها، وإن أغرته راحة السكوت عنها. فهذا هو ابتلاء الكاتب، وهذه ضريبة حمل القلم، فإما أن ينهض بأمانته، أو يُسلم نفسه للنسيان، ويكون ممن اكتفى بومضات الفكر دون أن يجاهد لصياغتها على وجهها الحق. |
من سيقرأك غداً؟ |
الكتابة التي تُكتب للخلود ليست تلك التي تبحث عن البريق الآني، ولا تلك التي تُسطّر إرضاءً للموضة الفكرية، ولا التي تنحني تحت أهواء الجماهير، بل هي التي تُكتب لحاجة الحقيقة، ولمعركة التصحيح، ولرفع الالتباس عن المفاهيم، تلك الكتابة التي لا تسترضي أحدًا، إلا بيان الحق وهداية الطالب، والتي لا يُكتب لها أن تُطوى في أدراج النسيان، لأنها تُشعل جذوةً في الفكر، وتوقظ الروح الساكنة، وترفع الهمّة الغافية. |
لهذا لم يخلد في عالم الأفكار إلا أصحاب المشاريع، لا هواة العناوين العريضة، أولئك الذين لم يكن ّهمهم أن تُحمل كتبهم بين الأيدي، بقدر ما كان يهمّهم أن تُحمل أفكارهم بين العقول، هؤلاء لا يموتون، حتى لو غابوا. |
واستلطف تلك الحكاية الألمانية التي يرويها عبد الوهاب مطاوع في كتابه اندهش يا صديقي أن : الفيلسوف الألماني شوبنهاور ظل ٤٠ سنة يكتب ويؤلف ولا أحد يحسّ به أو يوليه بعض ما يستحقه من تقدير واهتمام حتى بعد أن أصدر الجزء الأول من مجلده الضخم "العالم إرادة وفكر" فكان يمضي أيامه وحيدا صامتا لا ينطق أحيانا بحرف واحد لمدة أسابيع، ثم تولاه اليأس من أن ينال ما يستحق من تقدير علمي، فتوقف عن الكتابة ١٧ سنة متصلة لم يكن يفعل خلالها شيئا سوى القراءة وتناول وجبات الطعام في المطعم والتحديق صامتا بالساعات، ثم استعاد حيويته فجأة ونشر مقالا فلسفياً، ثم أصدر الجزء الثاني من مجلده، فإذا بالباحثين من كل الأنحاء يطرقون بابه، وإذا بالدعوات تنهال عليه من الجامعات الأوروبية، وإذا بالأوساط العلمية تلتفت إليه وتضع على رأسه أكاليل المجد، وإذا بالشهرة تفاجئه وهو يقترب من سن السبعين، وهو يرقب كل ذلك متعجبا ويقول: بعد أن عشت حياتي وحيدا منسيا جاءوا فجأة ليودعوني إلى قبري بالهتاف والتهليل! |
الكتابة والخلود: صراع الحرف والصوت مع الزمن |
هناك في مباحث علم اللسانيات يُفرّق بين الكلام المسموع والخطّ المكتوب، فالكلمة المنطوقة، مهما علت بلاغتها، وسرت في الآفاق حلاوتها، فإنها لا تلبث أن تفنى مع انقضاء اللحظة التي وُلدت فيها، فهي ابنة اللحظة، لا تملك التمدد عبر الزمن إلا بحيلةٍ خارجية، كتسجيلٍ يُعيد بثها، لكنه لا يبعثها من جديد، بل يذكرنا بأنها مضت وانتهت. |
أما الكتابة، فهي مختلفة تمامًا، ليست محكومةً بسطوة الزمن كما هو حال الصوت، بل هي مستقرةٌ في موضعها، حاضرةٌ لمن أراد أن يستخرجها من صمتها، منذ أن خط الإنسان الأول على جدران الكهوف، وهو يحاول أن يُراوغ الفناء، أن يترك أثرًا لا تذروه الرياح، أن يجعل لوجوده امتدادًا يتجاوز لحظة رحيله، وهكذا، فالحضارات تُحفر في الحجر، والأفكار تُختزن في الأوراق، والكُتّاب يُبعثون من جديد كلما جرت أعين القارئين على حروفهم، فالكتابةُ أجدى الوسائل لمخاطبةِ النفس، وصدق فؤاد الفرحان حينما قال: أؤمن أن الكتابة تعتبر من لحظات القبض على الدهشة، وأنّ القدرة على توثيقها على شكل كلمات وحروف هي من متع الحياة. |
مسُّ الكتابة: |
امتحان الكتابة ليس في صراعاتها الداخلية فحسب، بل في تبعاتها أيضًا: هل قُلتَ ما ينبغي أن يُقال في قضيّة عادلة؟ هل وقفتَ إلى جانب الحقّ، أم داهنتَ الباطل وتحرّيتَ السلامة؟ وهل استطعتَ أن تكتب بمداد الصدق، أم خضعتَ لإغراء المجاملة والتورية؟ وهل كان قلمك صاحباً للحقّ، أم ريشةً تخطّ ما يُطلب منها بلا روح ولا مبدأ؟ |
وإنّك إذ تمسك القلم، تُوقّع على عهدٍ غير مكتوب: أن تكون نصيرًا للإنسان، صوتًا للمظلوم، ونديمًا للعدل، فليس القلم أداة ترف ولا وسيلة تزجية للوقت، بل هو ابتلاءٌ يتطلّب شجاعةً في الموقف، ونقاءً في النية، وثباتًا في الوجهة، فإن لم يكن القلم هكذا، فاعتزلْه غيرَ مأسوفٍ عليك، أو فابحثْ عمّن يرقيك من مسُّ الكتابة، فثمّة شيطانٌ يتلبّسُ بالكلماتِ، يُزيّنُ المحظورَ، ويُصوِّرُ الحيادَ كالحكمةِ، ويُجملُ التلوّنَ في ثوبِ التوازنِ، ويُلبِسُ الحقيقةَ برقعَ التأويلِ. |
ما أجد وصيةً أجمل لشُداة القلم من وصية ميخائيل نعيمة التي سطرها في كتابه مهب الريح، فقد جعلها معلمًا لمن أراد أن يكتب للبقاء، لا للعبور، ولمن فهم أن الكتابة بناءٌ للفكر، لا زخرفٌ للحظة "فالكتابة عمل مرهق كسائر الأعمال البنّاءة، إلا أنه عمل لذته لا تفوقها لذة، وهي لذة قلما يتذوقها الكسالى وفاترو الهمة، فإن شئتم بلوغ القمم الأدبية حيث الخالدون، فعليكم أن لا تشركوا محبتكم للقلم محبة أي سلطان سواه، وأن تنبذوا الكثير من ملذات العالم وأمجاده، وأنتم متى أدركتم أي مجد هو مجد القلم هانت لديكم من أجله كل أمجاد الأرض، وصنتم أقلامكم عن التملق والتسفل والتبذل، فما سخرتموها لمال أو سلطان، ولا لأية منفعة عابرة مهما يكن نوعها، وما دامت أقلامكم عزيزة فأنتم أعزاء". |
أن تكتب.. فذلك ليس مجرّد تحبيرٍ على ورق، ولا نثرًا للأفكار على السطور، بل هو استدعاءٌ لعوالمَ كامنةٍ في زوايا العقل، ومجاهدةٌ بين العقل والوجدان، بين الإدراك والإلهام، بين العقلنة والانسياب في بحار التعبير بلا ضفاف، تكتبُ فتُنفق من رصيدك الذهني، وترهن شيئًا من ذاتك في كلّ كلمة، حتى إذا فرغتَ وجدتَ نفسك بين أمرين: إمّا نصٌّ أنصفَك وأنصفتَه، وإمّا كدحٌ لا يُرضي وجدانك ولا يُقنعُك أن تضع عليه ختم الرضا، والكتابةُ بغير فكرةٍ واضحة، أو انطلق بغير هدف، كان كمن يقاتلُ في الظلام، يُوجِّهُ ضرباته جزافًا، فلا هو انتصرَ، ولا هو انسحبَ بكرامة. |
__________________________ |
وها أنا أرجو أن تكون هذه النشرة نافذةً مشرعةً على معاني لا تبهت مع الزمن، وأن يكون أثرها أبقى من لحظة القراءة، لا سطورًا تُستهلك ثم تُطوى، بل جذوةً تُشعل الفكر، وتُحرّك التساؤل، وتبعث في القارئ شوقًا لا ينطفئ بين عددٍ وآخر، فإنما العلم حديثٌ ممتد، لا تُستوفى معانيه في صفحة، ولا يُستغنى عنه بمقال، وعسى أن تكون هذه النشرة بذرةً تُغرس، ووهجًا يستمر، ومسيرًا لا يُقطع، و بدايةً لا تُنسى، لا سطرًا في أرشيفٍ مزدحمٍ بالمحتوى العابر. |
دمتم في خير حال وتمامِ مآل، محفوفين بسوابغ العناية، مغمورين بنعم السكينة والهداية، والسلام. |
التعليقات