نشرة فسحة صبا الزيود البريدية - العدد #17 |
15 أكتوبر 2025 • بواسطة صبا الزيود • #العدد 17 • عرض في المتصفح |
السلام عليكم يا رفاق اطلنا الغيبة لكن في خير وإلى خير إن شاء الله
|
|
أُمهاتٌ في الظل |
بَيْنَمَا كُنتُ أَسْتَعِدُّ فِي "غُرْفَةِ المَصَادِرِ" أَيِ الغُرْفَةُ المُخَصَّصَةُ لِتَعْلِيمِ وَتَدْرِيبِ الأَطْفَالِ مِنْ ذَوِي الإِعَاقَةِ، لِأَبْدَأَ جَلَسَاتِ التَّرْبِيَةِ الخَاصَّةِ لِذَلِكَ اليَوْمِ، دَخَلَتْ أُمٌّ وَمَعَهَا طِفْلُهَا البَالِغُ مِنَ العُمْرِ سِتَّ سَنَوَاتٍ، أَسْمَرُ البَشَرَةِ، ضَعِيفُ البُنْيَةِ، يَحْمَلِقُ فِي أَطْرَافِ الغُرْفَةِ مُفْزُوعٌ لِدُخُولِهِ غُرْفَةً غَرِيبَةً عَلَيْهِ، قَالَتْ: هَذَا ابْنِي سِتُّ سَنَوَاتٍ لَدَيْهِ اضْطِرَابُ تَوَاصُلٍ نَمَائِيٌّ، وَكُنتُ أَفْهَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهَا تَقْصِدُ "اضْطِرَابَ التَّوَحُّدِ" وَذَلِكَ لِخِبْرَتِي بِاسْتِخْدَامِ مِثْلِ هَذِهِ المُصْطَلَحَاتِ فِي المَرَاكِزِ وَعِنْدَ الأُمَّهَاتِ الحَدِيثَةِ مَعْرِفَتُهُنَّ بِهَذَا الاضْطِرَابِ فَيَسْتَخْدِمْنَ هَذَا المُصْطَلَحَ لِتَخْفِيفِ مِنْ صُعُوبَةِ قَوْلِ "طِفْلٍ تُوَحُّدِيٍّ" بَحْثًا فِي ذَلِكَ المُصْطَلَحِ عَنْ سَلْوَى وَنَجْوَةٍ لِتَقْلِيلِ مِنْ وَقْعِهِ عَلَى أَرْوَاحِهِنَّ المُتْعَبَةِ. |
خَطَرَ فِي بَالِي حِينَئِذٍ، كَمْ مِنْ أُمٍّ أُخْرَى تَحْمِلُ نَفْسَ المَشَاعِرِ المُضْطَرِبَةِ وَالقَلَقِ وَالخَوْفِ مِنَ المَجْهُولِ بِسَبَبِ هَذَا الاضْطِرَابِ أَوْ غَيْرِهِ، فَبَيْنَمَا تَعْمَلُ جُزْءٌ مِنَ الأُمَّهَاتِ عَلَى تَصْدِيرِ وَإِظْهَارِ أَطْفَالِهِنَّ لِلْمُجْتَمَعِ وَالاحْتِفَاءِ بِهِمْ، تَعْمَلُ أُمَّهَاتٌ أُخَرِيَاتٌ عَلَى إِخْفَاءِ كُلِّ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ إِظْهَارُ أَيِّ عَيْبٍ أَوْ تَشْخِيصٍ لِأَطْفَالِهِنَّ قَدْ يُقَلِّلُ مِنْ قِيمَةِ أَطْفَالِهِمْ وَمِنْ قِيمَةِ وُجُودِهِ فِي المُجْتَمَعِ بِحَسَبِ ظُنُونِهِنَّ. |
بِدُونِ الكَثِيرِ مِنَ الأَقَاوِيلِ وَالمَدْحِ وَالمُجَامَلَاتِ لِهَذِهِ أَوْ لِتِلْكَ النَّوْعِيَّةِ مِنَ الأُمَّهَاتِ، فَكُلُّ الأُمَّهَاتِ مُضْحِيَاتٌ سَاعِيَاتٌ بَاذِلَاتٌ كُلَّ البَذْلِ لِأَطْفَالِهِنَّ مَالَا يَسَعُنَا الحَدِيثُ عَنْهُ فِي سَطْرٍ أَوْ سَطْرَيْنِ أَوْ مَقَالٍ أَوِ اثْنَيْنِ. |
وَلَكِنْ مَا أُودُّ التَّطَرُّقَ لَهُ اليَوْمَ هُنَا، عَنْ سُؤَالٍ كَثِيرًا مَا جَالَ فِي خَاطِرِي وَأَرَدْتُ أَنْ أَعْرِفَ إجَابَتَهُ، مِنْ أَيْنَ تَأْتِي تِلْكَ الأَفْكَارُ عِنْدَ الأُمَّهَاتِ بِأَنْ عَلَى كُلِّ الأَطْفَالِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ، مُجْتَهِدُونَ مُحِبُّونَ لِلدِّرَاسَةِ، أَذْكِيَاءُ؟ |
لِمَاذَا لَا يُسْمَحُ لِلْأَطْفَالِ أَنْ يَكُونُوا غَيْرَ ذَلِكَ؟ |
وَبِالطَّبْعِ هَذَا غَيْرُ مَنْطِقِيٍّ أَبَدًا، فَالْأَطْفَالُ لَطَالَمَا كَانُوا مُخْتَلِفُونَ وَذَوُو قُدُرَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ، فَكَمَا أَنَّ لِلْأَطْفَالِ صِفَاتٍ جِينِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي لَوْنِ العَيْنَيْنِ، وَالبَشَرَةِ وَلَوْنِ الشَّعْرِ فَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي قُدُرَاتِهِمُ العَقْلِيَّةِ، وَلَيْسَ الذَّكَاءُ ذَكَاءً مَعْرِفِيًّا مُعَيَّنًا أَوْ ذَكَاءً أَكَادِيمِيًّا أَوْ رِيَاضِيًّا مُعَيَّنًا، الذَّكَاءَاتُ مُتَعَدِّدَةٌ وَمُخْتَلِفَةٌ وَتَذْهَبُ فِي كُلِّ تَجَاهٍ قَدْ يَكُونُ غَرِيبًا بِالنِّسْبَةِ لَنَا، فَاللهُ كَمَا لَمْ يَخْلُقْنَا عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، خَلَقَنَا فِي ذَكَاءَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَقُدُرَاتٍ عَقْلِيَّةٍ مُتَبَايِنَةٍ. |
لِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، كُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ دَوْرُهُ وَاخْتِبَارُهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ يُشْبِهُ اخْتِبَارَ الآخَرِ أَوْ طَرِيقَةَ حَيَاتِهِ أَوْ أَنْ قُدُرَاتِهِ قَدْ تُشْبِهُ قُدُرَاتِ غَيْرِهِ، كُلُّنَا خَلْقُ اللهِ وَكُلُّنَا بَشَرٌ مُخْتَلِفِينَ وَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ مَنْ وَهَبَنَا هَذَا الِاخْتِلَافَ وَهَذَا التَّبَايُنَ، فَلِمَ نُحَمِّلُ أَنْفُسَنَا وَأَطْفَالَنَا فَوْقَ طَاقَاتِهِمْ بِسَبَبِ تَوَقُّعَاتِنَا العَالِيَةِ مِنْهُمُ الَّتِي لَا تَنْتَهِي. |
مَرَّةً نُرِيدُهُمْ بِلَا أَخْطَاءٍ وَمَرَّةً بِذَكَاءٍ خَارِقٍ وَمَرَّةً بِسُلُوكِيَّاتٍ مِثَالِيَّةٍ أَقْرَبَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ لِلْبَشَرِ الطَّبِيعِيِّينَ بِغَيْرِ قُدُرَاتٍ خَاصَّةٍ. |
كَيْفَ لِأَطْفَالِنَا أَنْ يَتَقَبَّلُوا أَنْفُسَهُمْ مَا لَمْ نَتَقَبَّلْهُمْ كَمَا هُمْ، كَمَا خَلَقَهُمُ اللهُ؟ |
وَعَوْدَةً عَلَى السُّؤَالِ الْأَوَّلِ الَّذِي طَرَحْتُهُ، عَلَيَّ أَنْ أَذْكُرَ أَوَّلًا بِأَنَّ هَذَا التَّفْكِيرَ لَيْسَ مَحْصُورًا عَلَى فِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّاسِ دُونَ أُخْرَى وَلَكِنَّهُ تَفْكِيرٌ جَمْعِيٌّ، تَفْكِيرٌ خَلَقَهُ الْمُجْتَمَعُ مَعَ الْوَقْتِ وَأَرَادَ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِرْآةً لَهُ، لِيُعْلِيَ مِنْ شَأْنِهِ وَمِنْ شَأْنِ أَطْفَالِهِ وَأَفْرَادِهِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، فَصِرْنَا نَتَوَقَّعُ مِنَ الْأَطْفَالِ تَوَقُّعَاتٍ أَعْلَى مِنْ قُدُرَاتِهِمْ مُتَجَاهِلِينَ كُلَّ مَا نَرَاهُ مِنْ تَحْصِيلِهِمِ الْأَكَادِيمِيِّ وَمَعَارِفِهِمِ الشَّخْصِيَّةِ وَسُلُوكِيَّاتِهِمِ الْعَامَّةِ، وَكَأَنَّنَا لَا نَرَى أَطْفَالَنَا وَكَأَنَّهُ أَصَابَنَا الْكَفُّ عَنْ رُؤْيَةِ حَقِيقَةِ قُدُرَاتِ وَمَهَارَاتِ أَطْفَالِنَا الْأُخْرَى الْمُمَيِّزَةِ، أَصْبَحْنَا نَرَى مَا أَرَدْنَا أَنْ نَرَاهُ بَلْ وَنَرَى أَشْيَاءَ نَتَخَيَّلُهَا وَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ عِنْدَ أَطْفَالِنَا، الْبَعْضُ قَدْ يَعْتَرِضُ عَلَى هَذِهِ النُّقْطَةِ وَيَقُولُ لَيْسَ كُلُّنَا! فِعْلًا لَيْسَ الْكُلُّ يُفَكِّرُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَكِنْ جُزْءٌ كَبِيرٌ مِنَ الْمُجْتَمَعِ بَنَى أَحْلَامَهُ وَآمَالَهُ عَلَى أَطْفَالِهِ حَتَّى صَارَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَسِيرَ طُمُوحَاتٍ وَآمَالِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ بِدُونِ إدْرَاكٍ لِقُدُرَاتِهِمْ وَمَهَارَاتِهِمِ الْأُخْرَى الْمُمَيِّزَةِ، وَهَذِهِ الْأَزْمَةُ تُعْنَى بِالْوَطَنِ الْعَرَبِيِّ كُلِّهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَضْعُ الْعَالَمِ الْيَوْمَ أَجْمَعَ مَعَ أَجْيَالِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْمُتَطَلَّبَاتُ عَالِيَةٌ وَالْوَاقِعُ مَلِيءٌ بِالشَّتَاتِ. |
وَأَقْصِدُ بِالشَّتَاتِ هُوَ مَا آلَتْ إِلَيْهِ أَحْوَالُ الْأَطْفَالِ الْيَوْمَ مِنَ الاسْتِخْدَامِ الْمُفْرِطِ لِلشَّاشَاتِ وَعَدَمِ مَقْدِرَةِ الْأَطْفَالِ عَلَى خَلْقِ الْأَلْعَابِ الْفِعْلِيَّةِ بَعِيدًا عَنِ الشَّاشَاتِ كَمَا كُنَّا نَفْعَلُ وَنَحْنُ صِغَارًا، فَتَرَاجَعَ الْخَيَالُ وَاقْتَصَرَ عَلَى عَالَمِ الْوَهْمِ الَّذِي يَجْعَلُ مِنَ الْخَيَالِ مَحْدُودًا بِالصُّوَرِ الْغَرِيبَةِ وَالْعَجِيبَةِ الَّتِي تَجْعَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ طَبِيعِيٍّ غَيْرَ مَقْبُولٍ وَغَيْرَ مُسْتَسَاغٍ، كَرُءُوسِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُخْتَلِطَةِ وَالْأَجْسَامِ الَّتِي بِلا أَيْدٍ وَغَيْرِهَا، أَشْيَاءَ كَهَذِهِ تَزْرَعُ فِي عُقُولِ الْأَطْفَالِ عَدَمَ تَقَبُّلِ الطَّبِيعَةِ الْحَيَاتِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَعَدَمَ تَقَبُّلِ الْوَاقِعِ وَتَحْصُرُ الْخَيَالَ فِي أَشْيَاءَ لَا مَعْنَى لَهَا، سِوَى رَغْبَةِ الْفَنَّانِ الَّذِي رَسَمَهَا بِتَمَيُّزٍ لَا طَائِلَ مِنْهُ. |
يُوصِي عُلَمَاءُ النَّفْسِ وَالتَّرْبِيَةِ عَلَى عَدَمِ تَعْرِيضِ الْأَطْفَالِ لِشَاشَاتٍ تَحْتَ سِنِّ الثَّالِثَةِ، وَبَعْدَ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ الْأُولَى يَقْتَصِرُ وَقْتُ الشَّاشَاتِ عَلَى سَاعَةٍ مَوْزَعَةٍ عَلَى طَوَالِ الْيَوْمِ، وَذَلِكَ يَعْنِي كُلَّ الشَّاشَاتِ عُمُومًا أَيًّا كَانَ (تَابٌ أَوْ هَاتِفٌ أَوْ تِلْفَازٌ) وَعَنْ نَفْسِي إِنْ أَرَدْتُمْ كَسْبَ وَاقِعِ أَطْفَالِكُمْ وَخَيَالِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِهِمْ فَالْأَفْضَلُ الِابْتِعَادُ عَنْ هَذِهِ الشَّاشَاتِ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِشْغَالُهُمْ بِمَهَامَّ أَكْثَرَ عَمَلِيَّةً وَمُتْعَةً وَأَصَالَةً مِنَ الْبِيئَةِ وَإِلَيْهَا. |
تَقَبُّلُ مَخْلُوقِيَّتِنَا وَضَعْفِنَا وَاخْتِلَافِنَا هُوَ أَسَاسُ التَّرْبِيَةِ، تَرْبِيَةِ أَنْفُسِنَا وَتَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا، فَلَا بَشَرَ كَامِلِينَ وَلَا أَطْفَالَ مِثَالِيِينَ، وَذَلِكَ لَا يَعْنِي أَبَدًا أَنْ نَهْمَلَ تَعْلِيمَ أَطْفَالِنَا وَتَطْوِيرَهُمْ وَلَكِنَّ ذَلِكَ يَجْعَلُنَا نَتَقَبَّلُ أَكْثَرَ طُولَ مُدَّةِ تَغَيُّرِ سُلُوكِيَّاتِ أَطْفَالِنَا أَوْ بُطْءِ تَعَلُّمِهِمْ أَوْ سُرْعَةِ اسْتِجَابَتِهِمْ مِنْ عَدَمِهَا، يَجْعَلُنَا نَكُونُ أَكْثَرَ مَنْطِقِيَّةً لِتَقَبُّلِ كُلِّ مَا يَأْتِي مِنْهُمْ بِدُونِ إفْرَاطٍ أَوْ تَفْرِيطٍ، التَّوَازُنُ مَطْلُوبٌ وَالسَّعْيُ لِتَحْسِينٍ مَطْلُوبٌ أَيْضًا، فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِلَ أَنْفُسَنَا وَأَطْفَالَنَا فَوْقَ طَاقَاتِهِمْ إِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى مَعًا بِقَدْرٍ وَعَلَى قَدْرِ الْمَسْؤُولِيَّةِ وَالْعَطَاءِ |
![]() |
التعليقات