الجهل بالاقتصاد السلوكي اخطر مما تتوقع، حين تظن أن تفيد الآخرين فتؤذيهم .. |
| 20 نوفمبر 2025 • بواسطة د. فادي عمروش • #العدد 155 • عرض في المتصفح |
|
الجهل بالاقتصاد السلوكي ليس مجرد قصور معرفي، بل خطرٌ حقيقي يجب التصدي له، خاصةً في القضايا التي تمس حياة الإنسان وسلامته النفسية.
|
|
|
|
رغم النوايا الحسنة التي تحرّك الكثير من حملات التوعيةو ربّما التربية، إلا أن غياب الفهم العميق لمبادئ الاقتصاد السلوكي قد يُفضي إلى نتائج عكسية، وربما كارثية. لعلّ إحدى أبرز الأمثلة على ذلك ما جرى في كوريا الجنوبية، وتحديدًا على جسر "مابو" (Mapo Bridge) في العاصمة سيول والذي كان معلماً للراغبين بالانتحار حيث يقفزون منه، حيث أُطلقت حملة للوقاية من الانتحار عام 2012، لكنّها أسفرت عن نتائج مقلقة، عاكسةً مدى خطورة تجاهل السلوك البشري في تصميم السياسات العامة. |
|
حملة "جسر الحياة": نوايا طيبة... ونتائج مؤلمة |
|
في محاولة لتغيير السمعة القاتمة التي ارتبطت بجسر "مابو"، والذي سجل أعلى معدل لمحاولات الانتحار في البلاد بين 2007 و2012، أطلقت شركة "سامسونغ للتأمين على الحياة" بالتعاون مع شركة تسويق حملة بعنوان "جسر الحياة" (Bridge of Life). تضمن المشروع تركيب عبارات إيجابية على السور، مضاءة بإشارات استشعار للحركة، إلى جانب تمثال نحاسي يظهر شخصًا يحتضن آخر في مشهد رمزي للدعم العاطفي. |
|
لكن بدلًا من أن تؤدي الحملة إلى تقليل محاولات الانتحار، سجّل العام التالي، 2013، ارتفاعًا ملحوظًا في عدد المحاولات، إذ قفز عدد البلاغات من 15 حالة في 2012 إلى 93 محاولة في 2013. رغم أن نسبة الإنقاذ ارتفعت من 60٪ إلى 94.6٪، إلا أن هذا لا يخفي أن الحملة نفسها ساهمت، بحسب خبراء، في جعل الجسر "وجهة" للراغبين في الانتحار، مما زاد من عدد الحالات. |
|
تمثّل الخلل الجوهري في الحملة في عدم فهم الاقتصاد السلوكي والذي من أهم مبادئه الاغراء العكسي، والذي يعني أن الناس تصاب باغراء القيام بما يتم تذكيره بأنّه ممنوع، وبذلك اصبحت تلك الرسائل محفزاً لمن لديهم ميول انتحارية للمحاولة بدل جعل الأمر صعباً عليهم، وبسبب ذلك كان افتراض خاطئ حول دوافع المنتحرين؛ إذ اعتقد القائمون عليها أن تذكير الأشخاص بجمال الحياة سيكفي لردعهم. |
|
الأثر العكسي للحملة يوضح هذا الخلل: فقد تكون العبارات الإيجابية قد استفزت بعض الأشخاص في لحظة ضعف نفسي حاد، أو عمّقت لديهم الشعور بالغربة والانفصال، بدلًا من أن تبث الأمل. |
|
كما أشار البروفيسور كواك غيوم جو من جامعة سيول الوطنية إلى أن اختيار العبارات عبر مسابقة عامة بدلًا من الرجوع إلى مختصين كان قرارًا غير موفق، واعتبر أن الحملة افتقرت إلى الأساس العلمي اللازم. |
احدى الصور التي وضعت ضمن الحملة |
|
العوائق المادية: الحل الأكثر فاعلية |
|
مع فشل المقاربة "العاطفية"، لجأت حكومة سيول لاحقًا إلى حلول مادية أكثر صلابة وفاعلية: إذ رُفعت حواجز الجسر من 1.5 متر إلى 2.5 متر، وتمت إضافة أسطوانات دوّارة تمنع التسلق. كما زُوّد الجسر بأنظمة مراقبة حرارية وكاميرات ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد السلوكيات المشبوهة في وقت مبكر. |
|
وقد أظهرت البيانات لاحقًا أن هذا النوع من التدخلات قلّل بشكل ملموس من حالات الانتحار. وصرّح أحد الأطباء النفسيين بأن وجود الحواجز يعيد للأشخاص وقتًا كافيًا للتفكير، ويزيد من صعوبة اتخاذ القرار الانتحاري، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى العدول عنه. |
|
في دراسة منشورة في مجلة Journal of Public Health Policy عام 2019، أشار باحثون كوريون، من ضمنهم البروفيسور يونغ مين آن (Yong Min Ahn) وآخرون، إلى أن القيود المادية على وسائل الانتحار أثبتت فعاليتها، مقارنةً بالمقاربات النفسية غير المدروسة. فقد ساهم حظر بعض المبيدات السامة وتثبيت أبواب واقية في محطات المترو في تقليل معدل الانتحار من 31.7 لكل 100,000 نسمة عام 2011 إلى 27.3 عام 2014. |
|
وفي دراسة أحدث نُشرت عام 2025 تحت عنوان "Suicide prevention strategies in South Korea: What we have learned and the way forward"، أكد الباحثون على أن السياسات المبنية على الأدلة، والتي تأخذ في الاعتبار العوامل السلوكية، هي الأكثر فعالية، مع ضرورة الاستمرار في تقييم مدى نجاح الاستراتيجيات المطبقة خصوصًا مع تغير أنماط الانتحار بين الفئات العمرية. |
|
ختامًا: فهم السلوك البشري ضرورة لا ترف |
|
القضية التي شهدها جسر "مابو" لا ترتبط فقط بالانتحار، بل تعكس مأزقًا أوسع في تصميم السياسات العامة دون إدراك حقيقي لتعقيد النفس البشرية. إن تجاهل مبادئ الاقتصاد السلوكي في قضايا حساسة كهذه قد لا يؤدي فقط إلى فشل الجهود، بل إلى تفاقم المعضلة. |
|
وعليه، فإن الجهل بالاقتصاد السلوكي ليس مجرد قصور معرفي، بل خطرٌ حقيقي يجب التصدي له، خاصةً في القضايا التي تمس حياة الإنسان وسلامته النفسية. إن بناء جدار أعلى قد ينقذ حياة، بينما قد تقتل عبارة غير محسوبة بدافع التفاؤل الزائف. |



التعليقات