هل نعمل بجد لكي نرتاح بعد ذلك حقاً؟ أم لأنّنا نعبد الله بحق؟ |
| 6 ديسمبر 2025 • بواسطة د. فادي عمروش • #العدد 159 • عرض في المتصفح |
|
|
|
تنتشر في حياتنا المعاصرة فكرة رأسمالية استهلاكية: نعمل بجدّ اليوم كي نرتاح غدًا. نؤجل الراحة إلى ما بعد إنجازات أكبر، أو منصب أعلى، أو رصيد مالي أوسع، وكأن الحياة خط مستقيم عنوانه “تعبٌ يتبعه فراغٌ سعيد”. لكن التجربة تكشف شيئًا آخر: كلما اقتربنا من “غد الراحة” ابتعد أكثر، وكلما أنهينا مرحلة عمل دخلنا في مرحلة جديدة أشدّ. |
|
حقيقة الأمر أيضاً أنّه لا يوجد شخص فعلاً شعر بالسعادة وحقق ما كان يحلم به حين راحته، ولو كان الأمر بهذه البساطة لما رأينا وارن بافيت يعمل حتى سن 94 رغم أنّه من أغنياء العالم، وكذلك الحال إيلون ماسك وغيرهم الكثير. |
|
ولكي لا تكون امثلتنا غربية مثالية، هذا مثال من واقع عربي لشخص نجح ولديه ملاءة مادية وقرر الراحة لـ 3 سنوات، وهو باسل الحاج مقدم برنامج أزكى أكل في العالم، إذ عملَ باسل الحاج سنواتٍ طويلة وهو يسير بأقصى سرعته داخل مشروعه التلفزيوني "أزكى أكل في العالم" كان يعيش في دوّامة لا تهدأ: كل يوم سبت حلقة جديدة، يتنقّل من بلد إلى آخر، من مطعم إلى آخر، الكاميرا لا تتوقّف، والفريق معه، والوقت محسوب بالثواني. حتى عندما كانت تمرّ عليه أحداث ثقيلة أو مؤلمة - حالة وفاة والده، انفصاله عن زوجته- ، لم يكن هناك مجال للتوقّف. يقولها بوضوح: كانت تمرّ في حياته لحظات كبيرة، لكن لا بد أن تُعرض الحلقة يوم السبت، يتبعها سفر، ثم حلقة جديدة… وكأنّ لا مجال لالتقاط الأنفاس أو حتى التفكير.ثم جاء القرار الذي ظلّ يطبخه داخله لفترة: "أنا محتاج أرتاح."توقّف تمامًا لمدّة ثلاث سنوات. كان يتخيّل أنّ هذا التوقّف سيعالج كل شيء: سيقلّ السفر، وتتحسّن صحّته، ويخسر الوزن، ويقترب من عائلته، ويعيد ترتيب حياته، ويكتشف ذاته من جديد. لكنّه فوجئ بالحقيقة المرّة:لم يتحقّق أيّ من ذلك.لم يهدأ السفر، ولم تتحسّن الصحّة، ولم ينخفض الوزن، ولم يعِش الهدوء الذي ظنّ أنّه يحتاجه. على العكس، اكتشف أنّه، في محاولته الابتعاد عن ذاته، كان يضيع أكثر. وقرر بعد 3 سنوات العودة للعمل. |
|
دعونا نبتعد عن اللف والدورات ونسأل السؤال الحقيقي: هل العمل في ذاته هدف ليكون طريقاً إلى الراحة؟ أم أنّ الحقيقة أعمق من ذلك، وأنّ العمل يصبح ذا معنى حين يكون في أصله عبادة لله وقيامًا بوظيفتنا في الأرض؟ |
1) عندما تصبح الراحة هدفًا… يفقد العمل معناه |
|
إذا كانت الراحة هي الغاية العليا، فإن العمل يتحوّل تلقائيًا إلى عبء مؤقّت يجب التخلص منه. وحينها يأخذ العقل موقفًا دفاعيًا: “أصبر الآن فقط لأتوقف لاحقًا”. المشكلة أن هذا “لاحقًا” لا يأتي غالبًا؛ لأن الحياة لا تتوقف، والاحتياجات تتجدد، والطموحات تكبر، والمسؤوليات تتسع.فتصبح الراحة فكرة مُطاردة لا تُدرك، ويصير التعب فراغًا نفسيًا مكرّرًا لا يحمل رسالة ولا أثرًا. |
|
هذه ليست أزمة وقت، بل أزمة معنى. وحلّها ليس في تقنيات إدارة الوقت، بل في إعادة تعريف مركزية الحياة: ما الذي نعيش له أصلًا؟ |
2) في الإسلام: القيمة العليا هي العبودية لله |
|
الإسلام لا يجعل العمل قيمة عليا ولا المال ولا العائلة ولا الاستقرار. هذه كلها قيم عظيمة، لكنها ليست المركز. المركز هو عبادة الله:{وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدون}. |
|
حين تتقدّم العبودية على كل شيء، تتغيّر طبيعة العمل جذريًا. لا يعود العمل منافسًا للروح، بل يصبح ممرًّا لها. ولا يعود وسيلة للاستمتاع المؤجل فقط، بل مسارًا يوميًا لتحقيق الغاية التي خُلق الإنسان من أجلها. |
3) العمل عبادة بالنية… فيتحول العرق إلى معنى |
|
لعلّ أهم ما يميّز التصور الإسلامي أنه يجعل المعنى ممكنًا في أي مكان: في السوق، في المكتب، في البيت، في الحقل.القاعدة الكبرى: “إنما الأعمال بالنيات”. |
|
فمن يعمل ليكفّ نفسه عن الحرام، أو لينفق على أهله، أو ليغنيهم عن الحاجة، أو ليقدّم نفعًا للناس، فهو في عبادة ما دام ملتزمًا بالحلال. ولذلك جاء في السنة فضل الكسب والتعب في سبيل الرزق الحلال، ومعناه متواتر في نصوص كثيرة: |
|
|
بهذه الرؤية، ربّما سيصبح العرق شهادة حضور لا علامة ضياع، ويضحى دليلاً أنك تقوم بما أمرك الله به: السعي. |
4) نعمل لأن رزقنا مرتبط برزق غيرنا |
|
الرزق في الإسلام ليس علاقة فردية مغلقة “لي وحدي”. الله يرزق الناس ببعضهم:أنت تعمل فتُطعم أسرة، وتُسدد أجرة عامل، وتُنشّط تجارة، وتفتح بابًا لغيرك.ومرّة قال لي أحد أفراد فريقي الذين يحصلون على راتب منّي: “الله يرزقك ويرزق بك”.أي اللهم ارزقه عملاً لكي يكون سببًا في نفع الآخرين من خلال طلب عمل مأجور منهم، وطبعاً لا يمكن أن تطلب عملاً من أحد إن لم توسّع أعمالك قبل ذلك |
|
حين تضع هذا في قلبك، يصبح عملك جزءًا من شبكة رحمة واسعة. لا تشتغل فقط لتجمع لنفسك، بل لتكون موضعَ استخلافٍ ورحمةٍ للناس. |
دعاء متدول |
أخيراً |
|
وهنا بيت القصيد لمن يترقب حكمة؟ هل يعني ذلك أن لا نرتاح او نضع خطّة خروج مما يرهقنا في العمل؟ اعتقد ان المقاربة مختلفة ما نسميه راحة هو حقيقة الأمر تعريف لما يمكن قوله عمل نحبه، حين ترك بيل غيتس عمله لم يرتح وانما توجه للاعمال الخيرية واستمر بالمضاربة - هوايته ربّما- وفتح صفقات البيع على المكشوف، نحن بحاجة حقاً لتعريف الراحة بانّها العمل على ما يفيد الآخرين مع عمل ما نحب دون ارهاق عقلي. |
خاتمة |
|
أما إذا كنا نعمل لأننا نعبد الله بحق،نرتاح لأننا نعرف لماذا نتعب، ولمن نتعب، وأين يذهب هذا التعب.نرتاح لأننا نعيش داخل مركز واضح: عبادة الله وعمارة الأرض، لا مطاردة راحة مؤجلة.وهذه راحة لا تنتظر نهاية الطريق؛ بل تُولد في قلب الساعي وهو في وسط الطريق:راحة المعنى، وطمأنينة العبودية، وسلام الإنسان الذي يعرف أن حياته لم تذهب سدى. |
|
لهذا، حتى لو كثرت الضغوط، وحتى لو لم يكتمل “التوازن”، تبقى مطمئنًا:لأنك لم تعش عبثًا، ولم تترك عمرك يتسرب بلا اتجاه.تعبك ليس ضريبة بلا مقابل، بل عبادة تتراكم، وأثر ينتشر، وخير يتجاوزك. |
|
والكيّس من اعتبر ! |


التعليقات