ليست أزمة منتصف العمر، بل تكشُّف منتصف العمر |
| 10 نوفمبر 2025 • بواسطة د. فادي عمروش • #العدد 153 • عرض في المتصفح |
|
من ينتظر أن تأتي منتصف العمر بهدوء فهو واهم. هذه ليست أزمة تُعالج، بل لحظة صدق لا مفرّ منها.
|
|
|
|
تحياتي |
|
لا أخفيكم أنّني افتح منصة إكس على أمل أن أتعثّر بمنشور ملهم لـ فؤاد الفرحان، وهذا ما يحدث كثيراً، وفي المرّة الأخيرة أشار لمقال مميز نصح به يناقش ما يٌسمّى أزمة منتصف العمر، وقمت بترجمته ونقله لكم. |
|
ليست المسألة أزمةً عابرة، ولا أزمة منتصف العمر كما اعتدنا تسميتها. بل هي لحظة انكشاف، تفكُّك، وتحوُّل داخليّ صامت يغيّر الإنسان من جذوره. هذا ما عبّرت عنه الكاتبة والباحثة الأميركية برينيه براون (Brené Brown) في مقالتها The Midlife Unraveling المنشورة عام 2018، حيث وصفت ما يحدث في هذه المرحلة الحسّاسة من الحياة بأنه ليس "أزمة"، بل "تكشّف"، أو كما سمّته: unraveling. |
منتصف العمر: وقت الانهيار الهادئ |
|
تقول براون إن ما يحدث في منتصف العمر ليس صدمة مؤقتة أو حدثًا استثنائيًا يمكن التحكّم فيه. بل هو سلسلة من التغيّرات النفسية والعاطفية العميقة، تقود الإنسان نحو التفكيك الذاتي، وتجبره على مواجهة نفسه بعيدًا عن الأقنعة والتبريرات. هو زمن تسقط فيه الحيل الدفاعية التي تراكمت على مدى عقود، وتبدأ معها رحلة شاقة من إعادة تعريف الذات، والرغبة الحارقة في أن يُرى الإنسان على حقيقته، لا كما يريد الآخرون أن يروه. |
ليس الخوف من الموت... بل طعم الموت نفسه |
|
ترفض براون فكرة أن أزمة منتصف العمر ترتبط بالخوف من الموت، وتطرح بديلًا أكثر واقعية: |
|
منتصف العمر هو الموت ذاته. ليس موت الجسد، بل موت الأدوار والأقنعة والعقائد النفسية التي شكّلتنا لسنوات. إنه الزمن الذي يبدأ فيه الجدار الذي بنيناه حول أنفسنا بالتشقُّق، فنجد أنفسنا مكشوفين، هشّين، نبحث عن معنى جديد للحياة. هذا الانكشاف لا يُدار ولا يُعالج، بل يُعاش، كما هو، بكل ما فيه من ارتباك وقلق وتقلّب. برينيه براون |
المصدر Financial Times |
|
تصف براون بدقة واقع كثير من الأشخاص في هذه المرحلة: الاستمرار في تلبية المتطلبات اليومية من عمل، ورعاية منزل، وواجبات اجتماعية، فيما الداخل ينهار بصمت. يبدو كل شيء طبيعيًا على السطح، بينما يعتصر القلق والفراغ الشخص من الداخل. ولأننا اعتدنا الكتمان، نُخفي الألم خلف ابتسامة اجتماعية ومظهر منضبط، ونواصل الحياة وكأن شيئًا لم يكن. |
|
تُجسّد براون الصراع الداخلي في صورة محاورة بين الإنسان والكون. حين يقترب الكون ليهمس في أذنك: "كفى تظاهُرًا، كفى دفاعًا. حان وقت الحقيقة. لا يمكنك مواصلة الحياة وأنت تلهث خلف الكمال والإعجاب. حان الوقت لتظهر، كما أنت." لكن في المقابل، تقاوم الذات هذا النداء بكل ما أوتيت من عناد. ترفض التخلي عن الدروع التي اعتقدت يومًا أنها مصدر الأمان، لتكتشف أنها كانت قيدًا خانقًا يمنع النمو والتحرر. |
|
تُشير براون إلى أن ردود الفعل على هذا التكشُّف تتنوّع. هناك من يُنكر، فيرفض الاعتراف بما يحدث، ويغرق في المزيد من الكمالية والسيطرة. وهناك من يُخدّر آلامه بالنشاط المفرط أو الطعام أو الإدمان. وهناك من يخوض معركة وجودية شرسة مع الكون. أما الخيار الأصعب والأصدق، فهو المواجهة: أن تخلع دروعك، تواجه ألمك، وتبدأ في إعادة تشكيل حياتك من جديد. |
|
رغم قسوة التجربة، تصف براون هذه المرحلة بأنها لحظة تحوّل ضرورية. فقد خلعت عنها قناع الباحثة المثالية، وتصالحت مع ذاتها كما هي: غير مكتملة، محطَّمة أحيانًا، لكنها أكثر صدقًا وشجاعة. تقول: "اكتشفتُ نفسي الحقيقية، تلك الفوضوية، المحبّة، الخائفة، الصادقة، التي لم أسمح لها أن ترى النور لسنوات." |
في الختام: إنها بداية لا نهاية |
|
تكشّف منتصف العمر ليس مرحلة مؤقّتة، بل تحوُّل دائم. لا يمكن تجاوزه ثم العودة إلى سابق عهدك، بل عليك أن تتعلّم العيش مع هذا الوعي الجديد. هو بداية رحلة نحو ذات أكثر أصالة، وأكثر حبًّا للحياة، لا لأنها مثالية، بل لأنها حقيقية. |
|
من ينتظر أن تأتي منتصف العمر بهدوء فهو واهم. هذه ليست أزمة تُعالج، بل لحظة صدق لا مفرّ منها. |


التعليقات