نحن لا نريد ما نريد حقًّا، بل نريد شراء حُلم تحقيق ذلك |
20 سبتمبر 2025 • بواسطة د. فادي عمروش • #العدد 144 • عرض في المتصفح |
القصصَ التي لا تُختبَر تتكلّس، فتتراكم كراكيباً على رفوفٍ وقلوبٍ معًا.
|
|
في عصر يوم صيفي جميل، وبينما كان حسّان يدفع عربةَ تسوّقٍ ضخمةً نحو صندوق المحاسبة في المول، كانت العربة مثقلة بوجود برّادٌ متنقّل بغطاءٍ لامع، وخيمةٌ لأربعة أشخاص، ومصباحُ ليلي على الطاقة الشمسية، وحبلٌ متينٌ لا يعرف أحدٌ سببَ وجوده بدقّة. لم يذهب حسّان إلى التخييم قط. لكنّه حين وجد عرضاً على تلك الأدوات، وراوده ذلك الحلم أنّه يقوم بالتخييم، هرع سريعاً لشراءها معاً، وارتفع الدوبامين للسماء |
تخيّل نفسه يرفع الغطاء عن البرّاد وتخيّل قنينة ليموناضةٍ باردةٍ تتعرّق بخجلٍ عند ضفّة نهرٍ بعيد، ابتسم. في تلك اللحظة، لم يشترِ برّادًا، بل اشترى فيلمًا قصيرًا من بطولة نسخةٍ أخفَّ وأحرّرَ من نفسه. بعد أشهر -تعرفون القصّة- ، وضع البرّاد في المستودع تحت السلّم، إلى جوار علبة أحذيةٍ فارغة، وظلّ البرّاد هناك شاهدًا صامتًا على حلمٍ لم يبدأ. |
![]() |
ليست هذه قصّةً عن التخييم، بل عن الطريقة التي نقنع بها أنفسنا أنّ الامتلاك خطوةٌ على طريق الفعل، بينما يكون الامتلاكُ، في كثيرٍ من الأحيان، بديلًا عنه. يطلق علماء الاقتصاد السلوكيّ (Behavioral Economics) اسمًا لطيفًا على تلك اللحظة الفائرة السابقة للشراء: «متعة التوقّع». إنّها سعادةٌ لا تأتي من الفعل، بل من الحلم به. لا نحتسي القهوة على ضفّة النهر، بل نحتسي توقّع ذلك. نشتري آلة إسبرسو (Espresso) «احترافيّة» لأنّنا تخيّلنا رغوةً مثاليّةً عند السادسة صباحًا، لا لأنّنا نستيقظ فعلًا قبل الدوام بساعةٍ لنطحنَ ونوزنَ ونعالج الترسبات. نحمِّل دورةً تدريبيّةً مُكثّفةً لتعلّم لغة أخرى لأنّنا رأينا نسختنا المُتفوقة تتكلّم لغةً جديدةً بطلاقة، لا لأنّنا سنجلس مساءً —بعد يومٍ طويل— أمام شاشةٍ مُتعبةٍ لثلاثين دقيقةٍ إضافيّة. |
تنتصب في متجر الأجهزة الرياضيّة درّاجةٌ ثابتة (Stationary Bike) تنتظر أن تُصبح حياةً جديدة. وفي لحظة التجربة، حين يصعد الزبون ويضغط الدوّاس (Pedal)، تتسلّل إليه هويّةٌ كاملة: أنا شخصٌ يلتزم. هنا لا ينبع الإحساس بالهويّة من الفعل، بل يسبقه. يسمّي الباحثون ذلك «إشارات الهويّة» (Identity Signaling): يكفي امتلاك الغرض ليُخبرنا مَن نكون. وهكذا تتحوّل الدرّاجة في بعض البيوت إلى علّاقةِ ملابسَ أنيقة، لأنّ الهويّة تسلّمنا إيّاها لحظة الشراء؛ وما تبقّى —العرقُ والوقتُ والروتين— تفاصيلُ أقلُّ إثارة. |
وتعمل خدعةٌ نفسيّةٌ أخرى في الخفاء. فما إن نتخيّل الغرض بتفاصيله، أو نلمسه بأيدينا، حتّى تنشأ «ملكيّةٌ متخيّلة». يصير البرّاد «برّادي»، وتغدو الكاميرا «كاميرتي». تُضخّم هذه الملكيّة المبكّرةُ قيمته في أعيننا وتُقلّل حساسيّتنا للسعر —وهو ما يعرف بتأثير التملّك (Endowment Effect)—، بينما نتجاهل «تكاليف الاحتكاك» (Friction Costs) اللاحقة: أين سنُخزّنه؟ مَن سيحمله؟ كم مرّة سنُنظّفه؟ كيف سيتّفق الطقسُ والوقتُ والأصدقاءُ جميعًا في مشهدٍ متناغمٍ يسمح باستعماله؟ يُظهر الإعلانُ العالمَ كمسارٍ مفتوحٍ بلا عوائق، بينما يكفي أوّل عائقٍ حقيقيّ لإسكات الحلم. |
ولأنّ الحلم يمنحنا دفعةَ مكافأةٍ فوريّة، نكتب على أنفسنا دينًا يُطالِبُنا به المستقبل. ويأتي المستقبل —كما يحدث دائمًا— متأخرًا ومتعبًا. تتّسع «فجوة النيّة والسلوك» (Intention–Behavior Gap) مثل شقٍّ صامتٍ بين ما قلناه لأنفسنا في لحظة الحماس، وما نستطيع فعله وسط مهامّ الأسبوع. لا تقيس صباحاتُ الإثنين أحلامَ السبت، بل تقيس مواعيدَ الظهيرة، والزحام، والواجبَ المدرسيّ، والنعاسَ الذي يسقط على الجميع بعد الثامنة مساءً. لا يموت الحلم، لكنّه يتبخّر إلى «شاشةِ توقّفٍ» ذهنيّة: سنذهب قريبًا، سنبدأ غدًا، سنفتح الصندوق في العطلة القادمة. وهكذا تبقى الصناديقُ مُغلقةً على احتمال. |
يقرأ مَن يُراقب رفوفَ البيوت سيرًا ذاتيّةً صامتة: طابعةٌ ثلاثيّة الأبعاد (3D Printer) لمشاريعَ لم تولد، وبدلةُ غوصٍ (Wetsuit) تتنفّس ملحَ بحرٍ من ذاكرةٍ مُستعارة، ومكتبةٌ من كتبِ الطبخ تتأمّل مطبخًا لا يشتعل. وفي غرفة الجلوس خوذةُ واقعٍ افتراضيّ (Virtual Reality Headset) تَعِدُ بعالمٍ آخر، لكنّها مُعلّقةٌ مثل بابٍ إلى حديقةٍ مُغلقة. وليس في هذا ما يدعو إلى الخجل؛ إنّه أثرٌ جانبيّ لآليّةٍ بشريّةٍ قديمة: ننجذب إلى القصص التي تقول لنا مَن سنكون. لكنّ القصصَ التي لا تُختبَر تتكلّس، فتتراكم كراكيباً على رفوفٍ وقلوبٍ معًا. |
التعليقات