نشرة خارج الصندوق البريدية - العدد #154

19 نوفمبر 2025 بواسطة د. فادي عمروش #العدد 154 عرض في المتصفح
التوقعات ليست مجرد أفكار تمرّ في الذهن، بل هي عدسات تحدّد كيف نرى الحياة. حين تُبنى التوقعات على أوهام أو رغبات عاجلة، يصبح الواقع – مهما كان جيداً – مخيّباً للآمال.

 الإحباط ليس مجرد حالة مزاجية عابرة، بل هو حالة انفعالية سلبية تنشأ عندما يُحرَم الإنسان من الوصول إلى هدف يراه مهماً، أو حين يتسع الفارق بين ما توقعه وما واجهه فعلياً. وكلّما كان الهدف المرتجى أكثر أهمية من الناحية العاطفية، وكانت العوائق في طريق تحقيقه أكبر، ازداد الشعور بالإحباط وتفاقم ما يصاحبه من توتر وغضب وإحساس بالعجز.

تناول علم النفس هذه الظاهرة ضمن إطار يُعرف بـ"نظرية خيبة التوقع" (Expectation–Disconfirmation Theory) والتي تفترض أن الرضا أو عدم الرضا ينبع من مقارنة مباشرة بين ما توقعه الشخص، وما حصل عليه في الواقع. فإذا جاءت النتيجة أقل من التوقع، تحدث خيبة أمل وينخفض الرضا، أما إذا جاءت مساوية أو أفضل، فيرتفع الشعور بالرضا والراحة النفسية. وعلى الرغم من أن هذه النظرية طُوّرت في الأصل لدراسة سلوك المستهلك، فإنها تنطبق على جوانب الحياة كافة: من العمل والدراسة، إلى العلاقات والطموحات الشخصية.

التوقعات: عدسة نحكم بها على تجاربنا

لا يحكم الإنسان على تجربته وفق ما حدث فعلاً فحسب، بل يقارن دائماً بين الحدث وبين الصورة التي رسمها مسبقاً في ذهنه. نفس النتيجة الدراسية، أو نفس الراتب، قد تكون مصدراً للرضا لشخص، وللإحباط العميق لشخص آخر، فقط لاختلاف ما كان يتوقعه كلٌّ منهما.

كلّما ارتفعت التوقعات من دون أساس واقعي، اتسعت الفجوة بين الواقع والتصور المسبق. وقد أظهرت دراسات حديثة أن من يحملون توقعات ذاتية عالية جداً يكونون أكثر عرضة للقلق والاحتراق النفسي عندما لا تتحقق توقعاتهم، إذ يميلون إلى تحميل أنفسهم أو الآخرين مسؤولية هذا الفارق، مما يضاعف الضغط النفسي.

ويُظهر البحث في علم الأعصاب والسلوك أن لحظة السعادة ترتبط ليس فقط بالمكافأة الفعلية التي يحصل عليها الإنسان، بل أيضاً بمدى تجاوزها لتوقعاته. فالعقل يعمل وفق معادلة تقريبية: السعادة = الواقع – التوقع. أي أن الشعور الإيجابي يرتفع عندما يكون الواقع أفضل من المتوقع، وينخفض حين يكون أسوأ، بغضّ النظر عن طبيعة النتيجة نفسها.

بين التوقعات والانجاز والواقع .. 

بين التوقعات والانجاز والواقع .. 

في رحلة الحياة اليومية، يمر الإنسان بلحظات يتوقف فيها ليتساءل: لماذا أشعر بالإحباط رغم أن الأمور لم تكن سيئة تماماً؟ ما الذي يجعل شعور الفشل يسيطر على الذهن، حتى إن لم يكن الواقع كارثياً؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من الوقوف على العلاقة العميقة بين التوقعات والإحباط، وكيف تشكّل نظرتنا المسبقة معياراً يحكم على كل تجربة نعيشها.

الطموحات المرتفعة: متى تصبح عبئاً؟

المشكلة لا تكمن في الطموح العالي بحد ذاته، بل في أن يُفصَل هذا الطموح عن قدرات الفرد الفعلية، والموارد المتاحة له، والظروف المحيطة به، إضافة إلى تجاهل الزمن الواقعي الذي تحتاجه الأهداف الكبرى لتتحقق.

غالباً ما تُبنى بعض التوقعات على دوافع عاطفية لحظية، أو على مقارنات اجتماعية سطحية، أو تحت تأثير ثقافة "كل شيء ممكن بسرعة" المنتشرة في وسائل التواصل، دون تحليل واقعي أو تخطيط منهجي. والنتيجة: صورة متضخّمة عن النجاح في الخيال، وإنكار لصعوبات الطريق، وتفسير أي تعثر بسيط على أنه فشل كامل. وهكذا يدخل الفرد في دائرة مغلقة:

توقعات عاطفية مرتفعة → واقع عادي أو أقل → فجوة مؤلمة → إحباط متكرر وشعور بالفشل.

في المقابل، توضح أبحاث كثيرة أن إدارة التوقعات بواقعية ومرونة تُقلّل من احتمالات خيبة الأمل، وتجعل التجربة أكثر قابلية للتعلّم، بدلاً من أن تكون سبباً للانكسار النفسي.

خفض التوقعات: طريق غير مباشر للسعادة

خفض سقف التوقع لا يعني قتل الطموح أو الترويج للكسل، بل هو تعديل لنقطة البداية التي نقارن منها واقعنا. عندما نتوقع نتائج واقعية، يصبح من الأسهل أن يفاجئنا الواقع بنتائج أفضل، فنشعر بالامتنان والرضا، بدلاً من خيبة أمل دائمة.

تشير دراسات منشورة في مواقع مثل (ScienceDirect) و(SBS Australia) إلى أن الأشخاص الذين يخفّضون سقف توقعاتهم يكونون أكثر سعادة، لأنهم غالباً ما يواجهون واقعاً يفوق أو يوازي توقعاتهم، ما يولّد شعوراً متكرراً بالإنجاز، ولو كان بسيطاً.

من الناحية العملية،  ربّما يُنصَح بأن:

نضع أهدافاً طموحة، ونتوقّع مساراً واقعياً مليئاً بالعقبات والتدرّج، وألا نربط قيمتنا الذاتية فقط بنتائج النهاية.

مقارنة واقعية: طموح غير محسوب مقابل طموح ناضج

لنأخذ مثالاً عملياً: الشخص الأول: شاب لديه طموح أن يصبح رئيساً تنفيذياً لشركة كبرى خلال عامين، رغم عدم امتلاكه للخبرة أو المهارات القيادية، ودون خطة واضحة. بنى تصوره على قصص نجاح مختزلة في وسائل التواصل، ومقارنات سطحية بأشخاص في عمره حققوا نجاحات لافتة، وشعور داخلي بأنه "يستحق أكثر من الجميع". عندما يبدأ في وظيفة عادية ولا يترقّى بسرعة، يفسّر ذلك كفشل شخصي. وكل يوم عمل يصبح دليلاً على الفجوة بين حلمه وواقعه، فتتآكل دافعيته، وربما يغيّر مساره المهني بانفعال، ويشعر بأن الحياة لا تنصفه.

الشخص الثاني: شخص آخر لديه نفس الطموح، لكنّه يقوّم إمكاناته بواقعية، ويضع خطة تمتد لـ٧–١٠ سنوات، ويجزّئ الهدف إلى مراحل قابلة للتحقيق، متوقعاً العقبات والتأخير، من دون أن يربط قيمته الإنسانية بالمنصب. عندما يتأخر في الترقية، يعتبر ذلك جزءاً طبيعياً من الطريق، وأي تقدم صغير يبدو له إنجازاً. النتيجة: إحباط أقل، ورضا أعلى، واستقرار نفسي أفضل.

ولكن لا بد أن أنوّه:

حذار أن يقود تقليل سقف التوقعات إلى القناعة التي تؤدي للفقر، بالراحة النفسية أنّ كل شيء على ما يرام مهما فشل الشخص، وتقود للتقاعس.

نعم، ليست التوقعات مجرد أفكار تمرّ في الذهن، بل هي عدسات تحدّد كيف نرى الحياة. حين تُبنى التوقعات على أوهام أو رغبات عاجلة، يصبح الواقع – مهما كان جيداً – مخيّباً للآمال. لكن حين نُحسن إدارة توقعاتنا، ونوازن بين الطموح والتحليل، يصبح الواقع مساحة للتقدّم، لا مصدراً دائماً للإحباط.

في النهاية، ليست المشكلة في أن نتوقع الأفضل، بل في أن نغفل عن الواقع ونحن نفعل ذلك.

Saleem AlsalehlujainMohamed Humam SHARAF3 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة دورية تصدر كلّ يوم سبت، يصدرها د. فادي عمروش تتضمن فكرة خارج الصندوق مع اغناءها بالروابط وما بين الكلمات، لتقول وجدتّها

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة خارج الصندوق البريدية