نشرة نـجد البريدية - العدد #5 |
20 مارس 2025 • بواسطة نـجد • #العدد 5 • عرض في المتصفح |
ألف ليلة وليلة
حين تُروى الليالي… لتنجو الأرواح |
|
![]() |
ألف ليلة وليلة ليست خرافة تتناقلها الجدّات، بل مكرٌ لغويّ أنقذ امرأة من موتٍ محتم، وأعاد إنسانية رجل كان قد دفن قلبه تحت رماد الانتقام. في كل حكاية تختبئ نجاة، وفي كل سرد ذكي تختبئ امرأة تُعيد ترتيب العالم من حولها. لم تكن شهرزاد مجرد راوية، بل كانت حياة تمشي على خيط الحكاية كي تؤجّل الموت، لا بدموعٍ ولا سلاح، بل بكلمة تُروى وأخرى تُعلّق حتى إشعارٍ آخر. كانت الحيلة أن تجعل القاتل منصتًا، أن تملأ فراغ الليل بشيء أشهى من الدم… بالحكاية. |
في هذا العدد، لا أحكي فقط عن “ألف ليلة وليلة”، بل عن كل ليلة نحتاج فيها إلى حيلة، كل لحظة ننقذ فيها أنفسنا بسردٍ صغير، وكل مرة نجد فيها ملاذنا في حكاية نرويها، ولو لأنفسنا .لم تكن شهرزاد تحكي لتُسلّي، كانت تحكي لتعيش. كانت تعرف أن الحكاية، إذا قيلت بذكاء، قادرة على أن تُوقف الموت، ولو مؤقتًا. |
وأنا دائمًا أفكر… كم من مرة استخدمنا الكلمات مثلها؟ لا لإنقاذ رقابنا، بل لإنقاذ قلوبنا، أو أيامنا، أو حتى صمتنا. |
![]() |
شهرزاد وشهريار |
في الليلة الأولى… لم تكن الحكاية فقط وسيلة تأجيل، بل بداية انقلاب. |
شهرزاد ليست مجرد فتاة جميلة وقفت أمام قدرٍ دامٍ، بل امرأة بحيلة العقل لا بحيلة العاطفة. لم تدخل القصر بثوب عروس، بل بثوب راوية تُدرك أن القصة قد تنقذ الرقبة، وأن الليل الطويل لا يُواجه إلا بكلام أطول منه. ابنة الوزير، ابنة المدينة – كما يعني اسمها بالفارسية – لم تُقدَّم للملك شهريار كأخريات، بل ذهبت إليه بإرادتها، وكأنها تعرف أن الحكاية وحدها قادرة على كسر سلسلة الدم، وأن كل موت مؤجل بذكاء هو انتصار صغير للحياة. |
كان الملك شهريار رجلًا كسّرته الخيانة، لا في قلبه فقط، بل في عقله كذلك. خيانة زوجته الأولى جعلته يرى في كل امرأة جرمًا محتملًا، وكل زواج حكمًا بالإعدام مع وقف التنفيذ حتى أول صباح. فصار يبيت مع العذارى ليلة، ثم يأمر بقتلهن مع طلوع الفجر، كأن النوم نفسه صار فاصلةً بين الحياة والموت. لكنّ شهرزاد لم تكن لتترك الفجر ينفرد بالمشهد. في ليلتها الأولى، بدأت بحكاية. لم تُنْهِها قالت إنها نعست. طلبت تأجيل النهاية إلى الغد. وما بدا للملك حيلة ليلية عابرة، كان في الحقيقة خيطًا طويلًا لشدّ انتباهه، ومنع السيف من الهبوط. |
وفي الليلة التالية، أكملت الحكاية، ثم بدأت أخرى… ثم أخرى… وكل ليلة تُقطّعها بدهاء، لا لتُسلّي شهريار، بل لتجعله ينتظر، ويُصغي، ويؤجّل. وهكذا امتدّت الليالي، حتى وصلت إلى ألف. لم تكن شهرزاد فقط تروي القصص، كانت تُعيد بناء عقل رجل، تُرمم صورته عن النساء، وتضع بين كل قصةٍ وقصة بذرة شك في قناعاته القاتلة. |
وفي الليلة الأخيرة، لم يكن شهريار ذات الرجل الذي كان في الأولى. كانت القصص قد اخترقت جدرانه، ولامست شيئًا لم يكن يصل إليه أحد. ولما انتهت القصص، لم يُنهِ حياتها، بل طلبها زوجة، هذه المرة دون موعد فجرٍ ولا شبح موت. وما بين الليلة الأولى والأخيرة، لم تكن فقط ألف قصة وقصة، بل كانت ألف محاولة للنجاة، وألف درس في الحيلة، وألف دليل على أن العقل أقدر من السيف، وأن الحكاية قد تهزم الغضب. |
ولستُ أدري، لو كُتب لي أن أكون مكان شهرزاد، هل كنتُ سأملك ذات الصبر، وذات الحيلة، وذات البراعة في تطريز الحكايات على نول الخوف؟ أغلب الظن أنني كنتُ سأسلم امري للموت، وأقول في نفسي: نحره تُنهي كل شيء، خيرٌ من ألف ليلة على حدّ السيف، فأنا لا أُجيد تأجيل الوجع بحيلة، ولا أملك ليلًا بهذا الطول من القصص، وربما لو شرعتُ في السرد، لأنهيتُ حكايتي في أول فصل، ثم أسندتُ رأسي للقدر، وقلت: كفى. |
![]() |
حكاية التاجر والعفريت: حين يصبح القصاص رهينة الحكاية |
في قديم الزمان، وفي زمنٍ كانت القصص فيه تُروى لا لتُنسى بل لتُخلّد، خرج تاجر من خيرة التجار، يسافر في الأرض، ويبيع ويشتري، دون أن يدري أن قدميه تسوقانه إلى حافة قدرٍ غريب. وبينما هو جالس تحت شجرة في طريق عودته، مستريحًا من عناء السفر، رمى بنواة تمرة يابسة بجانب بئرٍ قديم، فإذا بعفريتٍ هائل الهيئة، مخيف الصوت، يظهر أمامه في لحظة خاطفة، ويصيح فيه: لقد قتلتَ ابني! ولن يكون لك نجاة!، ذُهل التاجر، وارتجف قلبه، ونفى عن نفسه التهمة، ولكن العفريت لم يكن يُصغي لشيء سوى لنداء الانتقام. طلب التاجر مهلةً لا تُغني عن الموت، لكنها تمنحه فرصة الوداع. أراد أن يعود إلى أهله ويوفي ديونه، يُوصي أهله، ثم يعود بعدها مُستسلمًا. وافق العفريت ومضى عامٌ كامل، ثم عاد التاجر إلى المكان نفسه، وفي قلبه يقين النهاية، لا رجاء فيها. جلس ينتظر العفريت تحت الشجرة ذاتها، فمرّ به شيخٌ غريب، ومعه غزالة تتبعه سأله عن حاله، فلما قصّ عليه التاجر خبره، حزن له الشيخ وقال: إن أنقذني الله من هذا الشر، فلتكن قصتي فدية لك. وقبل أن يظهر العفريت، مرّ شيخٌ ثانٍ، ومعه كلبتان سوداوان، ثم ثالث ومعه بغلة، وسار الثلاثة مع التاجر، حتى وقفوا أمام العفريت الذي خرج من تحت الأرض . |
قال الشيخ الأول: إن كنت تعفو عن هذا التاجر، فاسمع حكاية عجيبة، ثم احكم. |
وروى قصته، وقال: تلك الغزالة التي تراها كانت يومًا زوجتي وابنة عمي. ثلاثون عامًا مضت بلا ولد، فتزوجت سرًّا من أخرى رزقني الله منها ابنًا. وحين علمت الأولى، سحرت ابني إلى عجل، وزوجتي إلى بقرة، وأوهمتني أنهما هربا. وعند العيد، ذبحت البقرة المسكينة، ولم أعلم أنها زوجتي إلا بعد فوات الأوان. لكن حين جاء العجل، رقّ قلبي، فأبقيته حيًّا. وعندها، اكتشفت ابنة الراعي سرَّه، وكانت عارفة بالسحر، فردّت ابني إلى طبيعته، وطلبت أن أتزوجها. ثم أعانتني على سحر زوجتي الأولى إلى صورة غزالة، فصارت ترافقني منذ ذاك اليوم. |
ثم تقدّم الشيخ الثاني، وقال: هاتان الكلبتان أخوَيّ. كنا شركاء تجارة، وقد ملأت الغيرة قلبيهما لما رأيا نعمتي وسعادتي. احتالا عليّ، وسلباني مالي، وألقيا بي في البحر. لكن زوجتي كانت جنية، أنقذتني وسحرتهما عقوبةً لما فعلا بي، وصارا كلبتين. |
ثم جاء الثالث، وقال: كنت زوجًا وفيًا، حتى اكتشفتُ خيانة زوجتي. وحين واجهتها، سحرتني إلى كلب. عشتُ بين الأزقة، حتى رأتني فتاة صغيرة، كانت قد تعلّمت فنون السحر، فأنقذتني، وردّتني إلى شكلي البشري. وعندما عَلِمت بخيانة زوجتي، سحرتها إلى بغلة، وظلّت هكذا عبرة لكل من خان العشرة. |
نظر العفريت إلى الوجوه الثلاثة، وتأمل الحكايات التي تفوقت على غضبه. ثم قال: عفوًا لهذا التاجر، فقد فدتْه القصص. |
وهكذا نجى التاجر، لا بشجاعة السيف، بل بقوة الحكاية، وعاد إلى أهله سالمًا، بعد أن علّمته الرحلة أن بعض المعارك لا تُخاض بالسلاح، بل تُخاض بالحكمة، وأن الحكايات، إن قيلت جيدًا، قد تُلغي أحكام الموت . |
مقتطفات من ليالٍ لا تنتهي |
■ علاء الدين والمصباح السحري |
تدور أحداث القصة حول شاب يُدعى علاء الدين، ينتمي لعائلة فقيرة. يعيش علاء الدين حياة بسيطة حتى يلتقي بساحر أفريقي يدّعي أنه عمه، ويطلب مساعدته في الحصول على مصباح سحري مخبأ داخل كهف مليء بالكنوز. بعد دخول الكهف، يجد علاء الدين المصباح، ولكن بسبب خلاف مع الساحر، يُحتجز داخل الكهف. بينما يحاول الخروج، يكتشف أن فرك المصباح يستدعي جنيًا قويًا يحقق له أي أمنية. بفضل هذا الجني، يتمكن علاء الدين من الخروج من الكهف، ويستخدم قوة المصباح ليصبح ثريًا ويتزوج من الأميرة بدر البدور. تستمر المغامرات عندما يحاول الساحر استعادة المصباح، لكن علاء الدين يتغلب عليه بذكائه وشجاعة. |
■ علي بابا والأربعون لصًا |
تحكي القصة عن حطّاب فقير يُدعى علي بابا، يكتشف صدفةً مغارة سحرية تستخدمها عصابة من اللصوص كمخبأ لكنوزهم. تُفتح المغارة بعبارة سحرية: “افتح يا سمسم”. بعد أن يغادر اللصوص، يدخل علي بابا المغارة ويأخذ جزءًا من الكنز ليحسّن حياته. عندما يكتشف اللصوص سرقة كنزهم، يحاولون العثور على السارق والانتقام منه. بفضل ذكاء وشجاعة مرجانة، خادمة علي بابا، يتم إحباط خطط اللصوص، وينجو علي بابا وعائلته، ويعيشون في رخاء. |
■ السندباد البحري |
ينطلق السندباد من بغداد في سبع رحلات بحرية مليئة بالمخاطر والعجائب. يواجه السندباد مخلوقات أسطورية، وجزرًا غامضة، وعواصف عاتية، ولكنه بفضل شجاعته وحسن تدبيره، ينجو من كل محنة ويعود إلى بغداد محملاً بالثروات والحكايات المثيرة. |
في هذه القصص، كانت الكلمات طوق نجاة، وكانت الحكاية بوابة تأمل في طبيعة الإنسان: في خيانته، ووفائه، وحيلته، وشهوته للسلطة. ولم تكن شهرزاد تقصّ القصص عبثًا، بل كانت تعرف أن السرد يُعيد التوازن لا للعقل فقط بل للروح أيضًا. |
فهل نُصغي نحن لحكاياتنا كما أصغى شهريار؟ وهل نترك فينا مكانًا لشهرزاد أخرى… تُهدينا من ليالينا ألف حكاية وحكاية، لم تكن شهرزاد تسرد لتملأ وقتًا فارغًا بل كانت تُمارس فعلًا اسمه "السرد مقاومة". وفي كل حكاية كانت تُنقذ نفسها وتنقذنا من قسوة الإعدام. لو كانت شهرزاد تكتب اليوم ربما كانت ستكتب نشرة بريدية، لا لتؤجّل موتًا، بل لتُعيد دفء المعنى. كانت ستروي لنا كل مساء قصة، وتتركنا ننتظر الغد بشغف، لا لنرى الشمس، بل لتُقرأ الحكاية التالية، وربما قد كون أنا شهرزادكم هذا العدد وانتم شهرياراتي الذين منحوني الإصغاء كما لو أن الليلة لا تنقضي. |
كان اختياري لهذه النشرة نابعًا من طقسي الخميسي، ففي كل خميس أقرأ من ألف ليلة وليلة، وعلى الجانب الآخر، ينساب صوت أم كلثوم تغني ألف ليلة وليلة، ووددت أن تكون لكم طقوس خميسية -كما أحب أن أسميها- قريبة من طقوسي الخميسية المعتادة. |
إلى لقاء يتجدد بعد العيد، فكل كان وأنتم بخير، وأعاد الله عليكم العيد بالفرح والسرور. |
- YouTube
لمن أراد أن يرافق النص بصوت أم كلثوم، ولتكتمل طقوس الخميسية كما أعيشها... أترك لكم هذا الصوت الذي يرافقني كل خميس.
youtu.be
|
![]() |
التعليقات