نشرة نـجد البريدية - العدد #4

13 مارس 2025 بواسطة نـجد #العدد 4 عرض في المتصفح
عادات قديمة تستحق أن نعيد إحيائها 

هناك أشياء حين نفقدها، لا نشعر أنها اختفت فجأة، بل كأنها تلاشت تدريجيًا حتى صرنا نستيقظ يومًا بعد آخر ونحن أقلّ دفئًا، أقلّ انتماءً، وأقلّ معرفة بما نفتقده حقًا. لا أقول إن الماضي كان أجمل دائمًا، لكنه كان يحتفظ بسحره الخاص، سحر التفاصيل التي لم تكن تأتي جاهزةً بضغطة زر، بل تتشكل برويّة، مثل قطعة فخار تُصنع باليد، لا بالآلة.

فالماضي ليس مجرد خيالات تتراءى أمامنا في لحظات التأمل، بل هو عبق يختلط بين يديّنا في الأشياء الصغيرة التي ما زالت تقاوم الزمن. في رسائل قديمة، في لحظات اجتماعية دافئة، وفي أشياء تُصنع يدويًا بحبّ، نستطيع أن نلمس جزءًا من أنفسنا التي قد نكون نسيناها وسط زحمة الحاضر. قد تكون التفاصيل القديمة، التي نعتقد أنها تلاشت، هي ما تحتاجه أرواحنا لتستعيد توازنها. فكيف لا نبحث عنها في كل زاوية نمرّ بها، وكيف لا نبحث عن عبقها في شيء صغير أو ذكرى بعيدة؟

الرسائل الورقية.. حين كانت الكلمات تعيش أطول

لم يكن أحد يكتب رسالة باردة، قصيرة، مستعجلة، كما نفعل اليوم في المحادثات السريعة. كانت الرسائل تُكتب بحذر، كأنها ستُقرأ للأبد، وكأن كل حرف فيها شاهد على لحظة عابرة لكنها خُلّدت بالحبر. كان للورق رائحة، وللخطوط انحناءات تحكي عن الكاتب أكثر مما تحكي عنه كلماته. وكانت الرسالة تصل بعد أيام، وأحيانًا أسابيع، لتكون المفاجأة مؤجلة، والانتظار جزءًا من القصة، لا مجرّد ثغرة في سرعة التواصل. 

قبل فترة، قررت أن أجرّب إرسال رسالة ورقية، شعرتُ أن عليّ أن أعيش هذا الشعور ولو مرة واحدة. جلستُ أمام الورقة، وبدأت أكتب بخط يدي، اخترت كلماتي بعناية، لا مجال للحذف والتعديل بضغطة زر، لا مجال للوجوه التعبيرية الجاهزة، كل شعور يجب أن يُترجم بحروف صادقة. بعد أن انتهيت، طويتها بعناية، وضعتها في ظرف، وأرسلتها. لم يكن الأمر مجرد ورقة انتقلت من مكان إلى آخر، بل كان تجربة شعورية مختلفة، كأنني أودعت قطعة مني في صندوق البريد، وانتظرت أن تصل إلى يد شخص آخر، ليشعر بها كما شعرت بها حين كتبتها.

المجالس العائلية.. عندما كان الوقت يُقاس بالحديث لا بالساعات

قبل أن تأتينا الهواتف بسطوتها، كنا نجلس مع عائلاتنا، لا لنُشاهد شاشات صامتة، بل لنحكي، ونضحك، ونتجادل أحيانًا، لكننا كنا هناك، بكامل وعينا، بكامل حضورنا. لم يكن من الغريب أن يستمرّ حديث واحد لساعات، أن تتنقل القصص من جيل إلى جيل، أن تُعاد نفس النكتة كل سنة لكنها تظل مضحكة كأنها تُقال لأول مرة. اليوم، أصبحنا في الغرفة نفسها لكننا نعيش في عوالم مختلفة، نجلس متجاورين لكن المسافة بيننا أكبر من أن يُقلصها حديث عابر. 

ورغم أن المسافات اليوم أصبحت تفرق بين العائلات الكبيرة، إلا أن هناك فرصة ثمينة تجمعنا مرة واحدة في العام. في العطلة الكبيرة، حيث تعود العائلات من أنحاء مختلفة، من المدن البعيدة، إلى قريتنا الصغيرة. هناك في بيت الجدة، نعود أطفالًا كما كنّا، نتزاحم حول السفرة، نجول المزارع، ونستمع لحكايات من الماضي كأنها تُحكى لأول مرة من جدتي العزيزة. هذه اللحظات القصيرة التي نحظى بها، رغم ندرتها، تعيد لنا ذلك الشعور الدافئ الذي نفتقده طوال العام. 

بالصدفة سُئلت هذا الأسبوع عن مفهومي للعائلة، لا على وجه الخصوص، ولا على مقياسٍ يُقاس بعائلتي وحدها، بل كفكرةٍ عامة، وكتعريف عام في الذاكرة الإنسانية. وأردت أن أُرفق هنا شيئًا من جوابي، لتقرأه عين السائل: قد تكون العائلة دفئًا لا يبرد، وقد تكون امتحانًا طويل الأمد، لكنها في النهاية تبقى الأصل الذي يُعيدك إلى ذاتك حين تتوه عن نفسك. ليست كل العائلات متشابهة، فهناك من ينبت في أرض خصبة بالمحبة، وهناك من ينشأ بين صخور الصمت والجفاء. لكن حتى في أشد أشكالها قسوة، تبقى العائلة هي الحكاية الأولى التي تترك بصماتها على كل سطر يُكتب بعدها في حياتك. فأنا أراها كبيت قديم، كلما تقدم به الزمن زادت قيمته، حتى وإن تصدعت بعض جدرانه. فيها حكايات الأجداد، وصوت الأمهات، وضحكات الإخوة التي تتردد في الذاكرة حتى بعد أن يغيبوا. ربما لا تختار العائلة التي وُلدت فيها، لكنك تختار كيف تعيد تشكيل مفهومها في حياتك، وكيف تبنيها مجددًا بيديك، ليكون لك بيت من القلوب، لا تقدر على هدمه الأيام. 

الفنون اليدوية.. حين كان لكل شيء بصمته الخاصة

الأشياء التي تُصنع يدويًا كانت تحمل روح صانعها، لم تكن مُتقنة كليًا، لكنها كانت صادقة. قطعة مطرّزة يدويًا، كوب فخّاري غير متماثل، صندوق مجوهرات خشبي بزينة غير متناسقة تمامًا، لكنها جميعها أشياء وُجدت ببطء، بصبر، وبحبّ. اليوم كل شيء مُكرّر، مُتماثل، بلا أخطاء، لكنه بلا روح أيضًا. 

أنا أحب الأشياء اليدوية، أحب أن أصنع شيئًا بيدي، أن أترك فيه جزءًا مني، لكنه يكون شيئًا آخر غير الحياكة. لا أطيق الحياكة، لا أطيق فكّ العقد والتعامل مع الخيوط العنيدة. لكن يمكنني أن أصنع أشياء أخرى، أن أصنع قطعة فخارية غير متماثلة، أن أصنع فاصلًا عشوائيًا لكتابي، أن أُضيف لمساتي الخاصة على كل شيء يمرّ بين يدي. ربما لا يكون ما أصنعه مثاليًا، لكنه صنع يدي، وهذا يكفي. 

صنعت إحدى ورداتي الأثيرة بيدي، من عجينة الطين شكلتها، ولونتها حتى بدت على هذه الهيئة. ليست غايةً في الإتقان، لكنها تحمل من روحي ما يكفي لتكون جميلة.

صنعت إحدى ورداتي الأثيرة بيدي، من عجينة الطين شكلتها، ولونتها حتى بدت على هذه الهيئة. ليست غايةً في الإتقان، لكنها تحمل من روحي ما يكفي لتكون جميلة.

الطوابع البريدية والتواقيع.. عندما كانت الذكريات تُلمس

كنا نحتفظ برسائل قديمة من الماضي، تذاكر سفر، بطاقات بريدية أُرسلت من مدن بعيدة، كتب بتواقيع أصحابها، خطابات الاصدقاء التي تحمل على أطرافها بقع قهوة صغيرة

. كانت الأشياء تحكي، كانت الذكريات ملموسة، تُمسكها بيدك، لا تُخزّنها في مجلد رقمي بلا معنى. 

أحببت فكرة الطوابع البريدية، تلك القطع الصغيرة التي تحمل في تصميمها هوية الأماكن والأزمنة. قبل فترة، فكّرت أنا وكادي في أن نعبث ونصمم طوابعًا بريدية خاصة بنا. أخذنا نصمم معًا، اختارت كل منا شكلًا يعبّر عنها، واخترنا تنسيقات حواف مختلفة بأسنان دقيقة تشبه الطوابع الحقيقية. لا أعلم إن كانت تشبه الطوابع الأصلية تمامًا، لكنّه كان يحمل متعة العمل معًا، وهذا ما كنت أبحث عنه. (وسأستعرض لكم صورته هنا). 

كلّ شيء كان هنا، في زمن لم يكن بعيدًا، لكنه أصبح كذلك. كأنّنا نظرنا في الاتجاه الخطأ لبرهة، ففقدنا بعض التفاصيل في الطريق. كأنّ الحياة كانت أكثر صبرًا، أقلّ صخبًا، وأكثر امتلاءً بما يستحقّ أن يُعاش ببطء. لكن هل نستعيد ما ضاع؟ أم نبحث عن أثره في الأشياء التي لا تزال قريبة؟ 

ما زلتُ أؤمن أنّ بعض التفاصيل القديمة لا تموت، بل تنام تحت طبقات السرعة والحداثة، تنتظر من يوقظها. قد تكون رسالة مكتوبة بخطّ اليد، مجلسًا عائليًا يعيده صوتُ ضحكة مألوفة، أو حتى طابعًا بريديًا مصنوعًا بيدٍ مبتدئة لكنّها مخلصة. التفاصيل لا تفنى، بل تتوارى، وتنتظر من يبحث عنها. 

على أيّ حال، سنُكمل أحاديثنا الأسبوع القادم، عن المواضيع التي لم تزل، مساء الخميس القادم. 

كونوا على الموعد.

                                                                                                                                                           نجد المحبة لكم

Emad Aliنجــدالسُّها3 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة نـجد البريدية

نشرة نـجد البريدية

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة نـجد البريدية