نشرة نـجد البريدية - العدد #3 |
6 مارس 2025 • بواسطة نـجد • #العدد 3 • عرض في المتصفح |
حين تنطق الألوان وتعزف على مشاعرنا
في كل لون قصة، وفي كل لوحة لحظة من صمتٍ يتحول إلى صوت، يعبر عن أعماقنا بما لا تستطيع الكلمات أن تفعله |
|
![]() |
يقولون إن اللوحة الجيدة تُرى، لكن اللوحة العظيمة تُشعر، وربما لهذا السبب أُطيل التأمل أمام بعض اللوحات، ليس إعجابًا بمدى إتقانها، بل لأن شيئًا منها يتسلل إليّ، يوقظ في داخلي صدى لم أكن أعرف بوجوده. في الأيام الماضية، وجدت نفسي أتصفح أعمالًا فنية كما لو كنت أبحث عن أفكار ضائعة، عن إحساس لم يُسمَّ بعد. بعض اللوحات تتركك بسلام، تمرّ عليك كنسيمٍ هادئ، وأخرى ترتطم بك بعنف، توقظ مشاعر كنت تظنها راكدة، كأنها تذكّرك أن الفن ليس مجرد ألوان، بل حياة تُعاد قصتها كلما وقعت عليها عين جديدة. وأنا منذ أيام أتنقل بين اللوحات كمن يبحث عن مشاعرٍ ضاعت منه في زوايا الألوان. ولأنني في مزاجِ من يترك نفسه للألوان، رأيت أن أكتب عن الفن كما شعرتُ به. |
في كل مرة أتأمل فيها لوحة، أتساءل: متى تبدأ اللوحة حقًا؟ هل تبدأ لحظة وضع الرسام ضربته الأولى بالألوان، أم عندما تكتمل؟ أم أن الفن لا يبدأ إلا عندما تقع عليه عينٌ تشعر به؟ |
في الحقيقة، اللوحات لا تُخلق بالفرشاة وحدها، بل بنظرة من يتأملها. ما يراه أحدهم مجرد ألوان مترامية متراكمة قد يكون، لآخر قصة مكتملة التفاصيل. وهذا هو سرّ الفن، أنه لا يكتمل عند انتهاء الرسم، بل عند بدء التأمل. |
لوحات تتكلم بلساننا |
![]() TheScream, Edvard Munch |
حين شاهدت لوحة “الصرخة” لإدوارد مونش، لأول لم أرَ فقط شخصًا مذعورًا في مشهدٍ مضطرب، بل رأيت صرخةً مألوفة، ذلك النداء الصامت الذي يتردد فينا حين يفيض بنا ما لا يُقال. تلك الألوان الحادة، السماء التي تبدو وكأنها تحترق تستعرّ بل تشتعل، الملامح المتآكلة وكأنها تنهار من الداخل، تجسد اختزالًا مرئيًا للحظة الذعر الموجود الذي اختبره الجميع يومًا ما. هل كان مونش يعلم أن لوحته ستتحول إلى مرآة لكل من حمل في داخله خوفًا غير مفسَّر؟، جميع التفاصيل جعلتني أتساءل: كم مرة شعرنا بأننا عالقون في هذه اللحظة تحديدًا؟ كم مرة أردنا الصراخ ولم نفعل، هل لأن الحياة تمضي، ولأن الصمت، في كثير من الأحيان، أسهل من الشرح؟ |
![]() Vincent'sBedroominArles, Vincent van Gogh |
وعلى الجانب الآخر، حيث الهدوء والطمأنينة، وجدت نفسي أمام لوحة "غرفة النوم في آرل" لفان غوخ. للوهلة الأولى، بدت اللوحة بسيطة، لا شيء فيها صارخ أو معقد، تحمل شيئًا يشبه السكينة والبساطة، كأنها ملاذه صغير وسط عاصفة حياته، لحظة راحة في حياة لم تكن رحيمة بصاحبها. لها أن تخبرك أن هذا المكان لم يكن مجرد غرفة بل كانت حلمًا أو رغبة فان غوخ في تحقيق الاستقرار والسكينة، كانت عالمًا داخليًا يهرب إليه رسام أنهكه الواقع. |
![]() The Girl with a Pearl Earring, Johannes Vermeer |
ثم هناك لوحة "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي" لفيرمير. ليست مجرد صورةٍ لفتاة، بمجرد النظر لهذه النظرة لأول مرة لن تنساها، وكأنها نظرةٌ تخترق الزمن. في عينيها سؤال لم يُطرح، وفي استدارتها هدوء من يملك سرًّا لن يفصح عنه. ما الذي يجعل هذه اللوحة آسرة إلى هذا الحد؟ هل هو الضوء المنعكس في عينيها، أم الميلان الطفيف لرأسها، وكأنها ستهمس بشيءٍ بعد لحظة؟ بعض الوجوه في الفن تظل حاضرة لأنها تنظر إليك لا كصورة، بل كحكاية غير مكتملة، تنتظر منك أن تتمها بخيالك. تمنح مثل هذه اللوحات الوجوه عمرًا أطول من أعمار أصحابها. |
![]() TheStarryNight, VincentvanGogh |
أحيانًا، أشعر أن اللوحات تشبه النصوص، وأن الرسم لا يختلف كثيرًا عن الكتابة. لوحة "ليلة النجوم" لفان غوخ، على سبيل المثال تشبه قصيدةً لا تحتاج إلى تفسير. الدوامات المضيئة، السماء التي تبدو كأنها تتنفس، ليست مجرد سماء، إنها حلم يقظ، قصيدة مرسومة، ضربات الفرشاة التي توحي بالحركة أكثر من السكون كلها عناصر تجعل اللوحة قريبة من الشعر، لا تحكي قصةً مباشرة، لكنها تترك أثرها في القلب كما تفعل الأبيات العميقة. كيف يمكن للضوء أن يبدو نابضًا؟ كيف يمكن للفرشاة أن تخلق إحساسًا بالحركة في مشهد ثابت؟ هذه الأسئلة وحدها تجعل الفن عالمًا يتجاوز الواقع، حيث اللون أكثر تعبيرًا من أي جملة، والخطوط أكثر إيحاء من أي حكاية. |
![]() Thekiss (lovers) (1908), GustavKlimt |
من أقرب اللوحات إلى قلبي، "القُبلة" لغوستاف كليمت، ليست مجرد مشهد حب، بل هي حالة من الذوبان بين روحين في عالم الذهب والضوء. العاشقان يحتضنان بعضهما كأنهما في لحظة خارج الزمن، الرجل بطقسه الحامي، والمرأة باستسلامها الرقيق، وكأنهما محاطان بهالة مقدسة تفصلهما عن الواقع. يحتضنها بحنان، يطبع قبلة على وجنتها وكأنه يهبها جزءًا من وجوده، بينما تنحني هي برقة، مستسلمة لهذا العناق الذي يفيض دفئًا. باعتقادي أن الأشكال الهندسية في ملابسه تعكس قوته، في حين أن الأزهار والشرائط الذهبية المنسدلة من ثوبها ترمز إلى الأنوثة والرقة. |
الفنانة البندري العتيبي شاركت إحدى لوحاتها بطريقة مختلفة، لم تكتفِ بعرضها، بل أخذتنا معها في رحلة من الفكرة إلى اللوحة، شارحةً كيف تحولت الفكرة الأولى إلى تفاصيل تحمل المشاعر والمعاني. هذا النوع من السرد الفني يمنحنا كمتأملين فرصة لفهم العمل بعمق، ليصبح جزءًا من القصة التي أرادت الفنانة أن ترويها بريشتها |
من الفكرة إلى اللوحة - by ALBANDARI ALOTAIBI |
قبل أن تنتهي لوحتنا لهذا العدد أود أن أقول أن كل لوحة عظيمة هي ترجمان لنص مكتوب أصبح نصًا بصريًا، يمكن قراءته بطرق لا تُحصى، وكل متلقٍ منا يضع فيها جزءًا من نفسه من تحليله من تخيلاته، قد لا نرسم، لكننا جميعًا نحمل في داخلنا صورًا تستحق أن تُجسد. ربما نعود إلى النظر اللوحات لأنها تمنحنا مساحةً للقراءة بين الألوان أو لأنها تبوح بما لا نستطيع قوله. وربما كما قال فان غوخ ذات مرة: "لا يوجد شيء أكثر فنيَّة من حب الناس" وكأنه يقول أن أصدق اللوحات هي التي تُرسم في القلوب. |
أجد راحتي هذه الأيام في تأمل اللوحات أكثر من متابعة العالم. لحظات هادئة أمام لوحة تكفيني، حيث لا صوت إلا صمت الألوان. |
وأنتم أعزائي أين تجدون راحتكم؟ |
إلى اللقاء مساء الخميس القادم، كونوا على الموعد، دمتم بوِد. |
WikiArt.org - Visual Art Encyclopedia
هنا يمكنكم الإطلاع على المزيد من الفن.
www.wikiart.org
|
![]() |
التعليقات