نشرة نَـجد البريدية - العدد #2

27 فبراير 2025 بواسطة نـجد #العدد 2 عرض في المتصفح
 مسودة سفر 
  

إلى ديار تسكن القلب، إلى ارض تحفظ الأسماء، وتروي الحكايات

ها أنا أشدّ الرحال من الشمال إلى الحجاز، إلى أرض لم تكن يومًا مجرد بقعةٍ على الخريطة، بل كانت ديارًا تسكنني قبل أن اسكنها، نقشًا في قلبي قبل أن تخطّ قدماي على دروبها. وما الطريق إليها إلا فصول تُقلّب من كتاب العمر، فكل منعطفٍ فيها يسكنه وجهٌ لي في زمنٍ مضى، وكل ميلٍ يطوى ينثر من ورائه بعضًا مما كنتُ عليه.

 إنها رحلةٌ لا تُقاس الأميال، بل بوقع الخطوات في الروح، حيث لا يكون الابتعاد إلا تجربةً تُعيد تعريف القرب، وحيث لا يكون الوصول إلا عودةً إلى الذات في صورتها الأولى. فما المسافات إلا حيلةٌ صغيرة، نطمئن بها قلوبنا أننا لن نضلّ الطريق طويلًا، وأن الأرض التي احتضنت خطوتنا الأولى ستعرفنا ولو تبدّلت ملامحنا، ستفتح لنا أبوابها، ستنادي علينا بأسمائنا التي لم تنسها وإن نسيناها. 

وحين ابتعدتُ، كانت الأرض تناديني، والرياح تهمس لي، كأنها تخشى أن يعلو ضجيج الغياب في أذنيّ فلا أعود. كان صوتها يأتيني بين هدهدة الأودية وصمت الجبال، يأتيني كيقينٍ لم يُكدّره الرحيل، فأدركت أن المرء لا يكون غريبًا عن أرضٍ حفظته في ذاكرتها، ولا عن ديارٍ ألقى فيها بذرة حنينه الأولى. فكيف أكون إلا ابنة هذه الأرض؟ وكيف لا تألفني دروبها وقد سلكتها منذ خمسة عشر عامًا؟ أودعها وأعود إليها وكأنني أتمتم في كل مرة:  

  وَلِي وَطـَـنٌ آلَيْتُ أَلاَّ أَبِيعَـهُ   وَ أَلاَّ أَرَى غَيْرِي لَهُ الدَّهْرَ مَالِكا

ابن الرومي

وقبل وصولي، شعرتُ أن لهجتي البيضاء بدأت تخفتي، تتخلى عن بياضها رويدًا رويدًا، كأنها تستجيب لنداء الأرض وتستعيد ذاكرتها الأولى. حتى التهديد تغيّر؛ فما عدتُ أقول لأحدهم: “أقص لسانك”، بل وجدتني أقولها كما يقولها أهلي: “ أجبد لسانك”. وكأن الألفاظ التي خبأتها السنين في صندوقها القديم قد فُتح على مصراعيه، وكأن الحروف التي ظننتها تلاشت في صخب المدن لم تكن سوى جذورٍ صلبة، خبأتها الأرض في عمقها حتى أعود. 

وها أنا الآن أعبر تخوم الديار، أنظر حولي وأهمس: بكل خطوة الأرض تكبر في قلبي، وأصغي لصوتها يهتف: أهلًا بعودتك. 

ما إن لاحت لي الديار حتى شعرتُ أن الأرض تُنصت لي كما أُنصت لها، وأنني لم أكن يومًا غريبةً عنها وإن بعدت. كيف لا تهفو النفس لديارها؟ كيف لا تسري الروح إليها وإن سكنتها ألف أرض؟ أوليس ابن شوقي قد قال: 

وطني لو شُغلتُ بالخُلدِ عنهُ نَازَعتني إلَيهِ في الخُلدِ نَفسي

احمد شوقي

إنها دياري… حيث لا يكون الغريب غريبًا، وحيث يعرفك الطريق ولو تغيّرت ملامحك، وحيث الجبال تحفظ الأسماء كما تحفظ الأم رؤوس أطفالها قبل النوم، وحيث الأودية لا تجفّ، لأن الحكايات التي رُويت على ضفافها تظل تسيل مع الماء، تجدد مجدها كلما مرّ عليها الزمن. 

هُنا، لا تُسأل “من أين أنت؟” بل يُقال لك: “لقد تأخرت.” وكأن الأرض لم تشكّ لحظةً أنك لن تعود، وكأنها كانت تعدّ الأيام بانتظار أن تلمسها خطاك من جديد. هُنا لا تكون العودة حدثًا، بل احتفاءً، ولا يكون الرجوع خطوة، بل ولادة أخرى من رحم المكان الأول. 

كيف لا تهفو النفس لديارها؟ وكيف لا تسري الروح إليها وإن سكنتها ألف أرض؟ بل كيف يذوق المرء طعم الراحة كاملةً في غير أرض كانت شاهدةً على طفولته، حافظةً لأسراره، غارسةً لروحه في قلبها؟ 

هُنا حيث الجذور لا تُقتلع، وحيث الحنين ليس شوقًا فحسب، بل يقينٌ بأن كل مسافةٍ تقطعها بعيدًا، هي طريقٌ يأخذك في النهاية إلى حيث تنتمي.

رأيت الغروب في ألف مشهد، لكنه ما تشّكل جمالًا كما تشكَّل في الديرة، حيث الشمس تنسج الوداع بلون فاتن

رأيت الغروب في ألف مشهد، لكنه ما تشّكل جمالًا كما تشكَّل في الديرة، حيث الشمس تنسج الوداع بلون فاتن

فهل جربتم يومًا العودة بعد غياب؟ هل سبق أن وقفتم على عتبة أرض تعرفونها، لكنها بدت لكم وكأنها تُعيد تعريفكم بأنفسكم؟ كيف وجدتكم الأرض، وكيف وجدتموها؟

إلى هنا نطوي صفحة الديار، لكن الحنين لا يطوى…

موعدنا يتجدد مساء الخميس القادم، فكونوا على اللقاء.

السُّهاعبدالرحمن2 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة نـجد البريدية

نشرة نـجد البريدية

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة نـجد البريدية