نشرة مُلهِم البريدية - العدد #20 - بث العلم

بواسطة نشرة مُلهِم #العدد 20 عرض في المتصفح

بث العلم

أهوال وأحوال:

في ظل الاستعمار الفرنسي الجاثم على صدر الجزائر، والتمكين للتنصير والطرقية الصوفية، والاستيلاء على الممتلكات والأوقاف والمساجد وهدمها، وبناء الكنائس وإضعاف تعليم العربية، وإبعاد الجزائريين عن الوظائف الإدارية، وحرق الكتب والمخطوطات وإقصاء العلماء، وتتويج ذلك بإقامة احتفال بمناسبة مرور قرن من احتلال فرنسا للجزائر، ولتشييع ‌جنازة الإسلام في الجزائر كما زعموا!! أراد الله برحمته ولطفه أن يقيض للأمة الجزائرية من ينتشلها من براثن الجهل، ويبعث فيها النور والأمل، وينشر فيها العلم والتعليم؛ فكانت جهود ابن باديس والإبراهيمي رحمهما الله تعالى.

بدأ ابن باديس في حفظ القرآن وعمره 5 سنوات، وأتمه وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة سنة، وأقبل على طلب العلم بجد واجتهاد، وأتم تعليمه بجامع الزيتونة وعمره 21، أما محمد البشير الإبراهيمي فيقول عن نفسه: (فلما بلغت سبع سنين ‌استلمني عمي من معلّمي القرآن وتولّى تربيتي وتعليمي بنفسه، فكنت لا أفارقه لحظة حتى في ساعات النوم، فكان هو الذي يأمرني بالنوم، وهو الذي يوقظني منه، على نظام مضطرد في النوم والأكل والدراسة، وكان لا يخليني من تلقين حتى حين أخرج معه وأماشيه للفسحة، فحفظت فنون العلم المهمة في ذلك السن مع استمراري في حفظ القرآن).

حمل الأمانة:

عندما سافر ابن باديس إلى المدينة المنورة قال له الشيخ حسين أحمد الهندي: (إن بقاءك في المدينة لن يفيد الجزائر بشيء، ولكن عد إلى وطنك يا بني فهو بحاجة إليك وإلى أمثالك؛ فالعلماء هنا كثيرون يغنون عنك، ولكنهم في وطنك وفي مستوى علمك قليلون، ابدأ بتعليم القرآن الكريم في كل مكان، إن الفرنسيين لن يستطيعوا منعك تعليم أطفال الجزائر القرآن، ارجع إلى بلدك لخدمة الدين والعربية بقدر الإمكان).

عندها استشعر ابن باديس المسؤولية الجسيمة التي عليه؛ وقرر حمل لواء نشر العلم وإخراج الناس به من الظلمات إلى النور {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون}، وكما في صحيح البخاري: ((بلغوا عني ولو آية)). فقال لمحمد البشير الإبراهيمي عندما أراد البقاء في المدينة وترك الرجوع للجزائر: (إن خروجك يا فلان أو خروجي يكتبه الله فرارا من الزحف)، يقول الإبراهيمي: (فوالذي وهب له العلم والبيان لقد كانت كلمته تلك شؤبوبا من الماء صُبّ على اللهب).

خارطة الطريق:

ويروي لنا الإبراهيمي تفاصيل الاجتماعات بينهما فيقول: (كنا نؤدّي فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي، ونخرج إلى منزلي، فنسمر مع الشيخ ابن باديس، منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها بالمدينة المنوّرة. كانت هذه ‌الأسمار المتواصلة كلها تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصّلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى في مخيلتينا، وصحبها من حسن النيّة وتوفيق الله ما حقّقها في الخارج بعد بضع عشرة سنة) و(كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي: ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربّيه على فكرة صحيحة ولو مع ‌علم ‌قليل) و(في هذه الفترة ما بين سنتَي 1920 و1930 كانت الصلة بيني وبين ابن باديس قوية، وكنا ‌نتلاقى في كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر، يزورني في بلدي (سطيف) أو أزوره في (قسنطينة)، فنزن أعمالنا بالقسط، ونزن آثارها في الشعب بالعدل، ونبني على ذلك أمرنا، ونضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يختل أبدًا، وكنا نقرأ للحوادث والمفاجآت حسابها).

مشروع العمر:

وعاد ابن باديس للجزائر وتفرغ للتعليم وعمره 25 سنة، وشرع في شرح التفسير والموطأ وأتمه في 25 سنة، ونشط في التدريس والتربية والخطابة والكتابة والشعر، وتأسيس الجمعيات والنوادي والمدارس والصحف، وشرع في تعليم الصغار والنساء، وجابه الطرقية الصوفية وحاورهم، وأرسل البعثات للخارج، ورحل وتجول في أنحاء الجزائر لمعرفة الظروف والأحوال؛ فأدرك حجم الجهل والأمية، ومن ذلك: أنه زار مرة بعض القرى التي انتشر فيها الجهل فقيل له: (لقد أسمعت إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي) فرد عليه قائلا: (يا أخي: لا تقل لا حياة لمن تنادي؛ ولكن قل: لا منادي ينادي)؛ فازداد همة إلى همته، وصار يلقي الدروس في كل مكان وشعاره: (أنا أحارب الاستعمار بالعلم) وهتافه:

شعب الجزائر مسلم             وإلى العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله         أو قال مات فقد كذب

أو رام إدماجاً له                رام المحال من الطلب

استفراغ الوسع:

وقد ضربا -أعني: ابن باديس والإبراهيمي- أروع الأمثلة في الصبر والمصابرة، وبذل غاية الوسع في نشر العلم، فقد كانت دروس ابن باديس (تستغرق معظم النهار، من بعد صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة العشاء)، ويقول: (أنا إن كنت في عُرسٍ علّمت المحتفلين، وإن كنت في مأتم وعظت المعزين، وإذا جلست في قطار علّمت المسافرين، وإذا أدخلت السجن أرشدت المسجونين)، ويقول: (أشغالي العلمية تستغرق أوقاتي كلها والتي أضحي في سبيلها بكل عزيز.. وهي المالكة لحياتي لأني جعلت حياتي وقفا عليها.. وإني أعلن للأمة الجزائرية كلها أنني لست لنفسي، وإنما أنا للأمة أعلم أبناءها وأجاهد في سبيل دينها ولغتها).

ولم يكتفِ ابن باديس بنشر العلم بنفسه، بل كان يورّث طلابه نشر العلم، ويربيهم ويعوّدهم على (الدعوة إلى الله، وفي العطلة السنوية إذا أراد الطلاب أن يرجعوا إلى مناطقهم، يطلب منهم أن يقوموا بواجب الدعوة إلى الله، ونشر ما تعلموه، وعند استئناف الدراسة يطلب من كل واحد أن يقدم تقريرا عما أنجزه).

تأمل معي في هذا الموقف الذي يجسد شيئا مما يختلج في صدر ابن باديس، فقد حمل عمار المطاطلة كتابه المقرر في درس ابن باديس، فنعس وسقط الكتاب من يده، فقال له ابن باديس: (أتظن أنك الوحيد الذي بحاجة إلى نوم؟ أنا ما نمت إلا سويعات)، ثم قال: (كيف ينام مَن أمته في مثل هذا الذل والهوان؟).

وهذا أحمد توفيق المدني رأى على ابن باديس علامات الفاقة والإعياء، فقال له: (يا أخي أما آمنت بأن لنفسك عليك حقا، أما قرأت تفسير قوله تعالى: {ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك}؛ فأجاب في هدوء غريب: (كلا يا أحمد، ما عملت طول حياتي إلا بهذه الآية الكريمة، إن نصيبي هو بث العلم).

وقد استغرق ابن باديس في التعليم وبثه رغم مرضه وآلامه، يقول محمد البشير الإبراهيمي: (تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله بداره في (قسنطينة) بسرطان في الأمعاء كان يحس به من سنوات، ويمنعه انهماكه في التعليم، وخدمة الشعب من التفكير فيه وفي علاجه).

أما الإبراهيمي فقد بذل العلم بهمة واجتهاد ونشاط أيضاً، ومما يبين ذلك قوله: (فكنت ألقي عشرة دروس في اليوم، أبدأها بدرس في الحديث بعد صلاة الصبح، وأختمها بدرس في التفسير بين المغرب والعشاء، وبعد صلاة العتمة أنصرف إلى أحد النوادي فألقي محاضرة في ‌التاريخ ‌الإسلامي، فألقيت في الحقبة الموالية لظهور الإسلام من العصر الجاهلي إلى مبدأ الخلافة العباسية بضع مئات من المحاضرات، وفي فترة العطلة الصيفية أختم الدروس كلها وأخرج من يومي للجولان في الإقليم الوهراني مدينةً مدينةً، وقريةً قريةً، فألقي في كل مدينة درسًا أو درسين في الوعظ والإرشاد، وأتفقد شُعَبَها ومدارسها).

قد أعذر ابن باديس والإبراهيمي إلى ربهم وأمتهم، واستفرغوا غاية وسعهم في نشر العلم وبثه؛ فعاشا حميدين، وماتا عزيزين، فما هو عذرنا يا ترى؟؟

د. أحمد بن محمد رفيع

مشاركة
نشرة مُلهِم البريدية

نشرة مُلهِم البريدية

هي نشرات بريدية ترسل أسبوعيًا على مشتركيها ومحتوى هذه النشرة تعظيم أثر طلاب العلم، يشارك في كتابة محتواها كُتّاب مميزون، مهتمون بمجالات تعظيم أثر طلاب العلم.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مُلهِم البريدية