نشرة مُلهِم البريدية - العدد #28 - محاذير الفاعلية |
2 يونيو 2025 • بواسطة نشرة مُلهِم • #العدد 28 • عرض في المتصفح |
|
محاذير الفاعلية |
![]() |
الحمد لله، وبعد، |
السالك في جواد التفعيل العلمي ومساربه لا ينفك من الآفات المعكّرة، ولا يكاد يسلم من القواطع المشغّبة؛ ولذا كان لزامًا عليه أن يعيها لينأى عنها. فما يَعرِض له إما آفة تَعلَق به فتفسد المسلك، أو عائق تقطع السالك، وأحاول تسليط الضوء على بعضها من خلال المحاذير الآتية: |
خلل المقاصد: |
من تطلّع لمقامات التفعيل العلمي أحوج ما يكون لتفتيش بواطنه، وتكشيف دواخله، لاستصلاح قلبه ونيّته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الذين تسعّر بهم النار يوم القيامة -عياذا بالله-، وذكر منهم القارئ العالم، والمقاتل المجاهد، والجواد المنفق، وتلاحظ أن هؤلاء الثلاثة كلَّهم اشتركوا في اتصافهم بالفاعلية والأثر والنفع! ففيه التنبيه إلى ذلكم المعنى. |
وفساد نية القلب كالموضع النتن الذي يستجلب ما يشاكله من نُطَف القلوب وأمراضها. |
الاحتراق الآكل: |
وأعني به السعي الحثيث والجري المتتابع الذي يؤدي إلى تآكل النفس من الداخل، حتى تغدو كالشمعة: تحترق لتضيء غيرَها فحسب. |
والمقصود الإشارة إلى أثر أن يستهلك طالب العلم وقته وجهده كلَّه في سبيل نفع الناس والدعوة والفاعلية العلمية بشتى صورها، على حساب ازدياده من العلم والإيمان؛ ومن كان بهذه المثابة صدق عليه مثال "الاحتراق" الذي "يأكل" قلبَه وعقلَه شيئًا فشيئًا حتى ينطفئ.. يضعف.. يخبو. |
وإنما تتفاوت المسؤولية التفعيلية بقدر تأهل طالب العلم والاحتياج إليه، ومهما تأهّل طالب العلم واحتاج الناس إليه، فإن ذلك لا يعفيه من مسؤوليته تجاه نفسه "بالتزكية" و"الازدياد من العلم" و"التربية العبادية". |
ولذا؛ فإطلاق القول بأفضلية النفع المتعدي مطلقًا محل نظر عند كثير من أهل العلم. من ذلك: ما ذكره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله بعدما ساق روايتي الإمام أحمد في المعتكف: هل الأفضل له أن يشتغل بإقراء القرآن والفقه أو يشتغل بنفسه؟ ثم ذكر أن جمهور الأصحاب على أن المعتكف لا يستحب له الإقراء حال اعتكافه، ونقل عن القاضي أبي يعلى رحمه الله وغيره كراهة ذلك؛ "لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف دخل معتكفه، واشتغل بنفسه، ولم يجالس أصحابه.."، ثم أجاب عن توهم بعضهم بكون النفع المتعدي أفضل في هذه الحال، فقال: "لا يلزم من كون الشيء أفضل أن يكون مشروعًا في كل عبادة، بل وضع الفاضل في غير موضعه يجعله مفضولًا وبالعكس.."، ثم ذكر وجهًا آخر فقال: "أن النفع المتعدي ليس أفضل مطلقًا، بل ينبغي للإنسان أن يكون له ساعات يناجي فيها ربَّه، ويخلو فيها بنفسه ويحاسبها، ويكون فعله ذلك أفضل من اجتماعه بالناس ونفعهم، ولهذا كان خلوة الإنسان في الليل بربه أفضل من اجتماعه بالناس.."(شرح العمدة (3/ 650). |
الانفعال لا الفعل: |
مما تضافرت عليه كلمة المختصين في التربية: أن العناية بالأمر والبناء أوجه وأوسع أثرًا من التركيز على مجرد النهي والتقويم ومعالجة الأخطاء. وهذا المبدأ يصح تنزيله في ممارسات طالب العلم التفعيلية. |
فمما ينبغي أن يحاذره المشتغل بالتفعيل العلمي= أن يصرِف عامة اهتمامه خالصاً لمواقف الانفعال لا الفعل؛ فيجرّد جهده ويكرّس وقته للنهي عن المنكر، وإصلاح الخطأ، والرد على المخالف.. ثم لا ترى له أي جهد في التأصيل والتقعيد، والبناء والتشييد، ولا ترى له المساهمة الفاعلة في نشر الخير، والأمر بالمعروف.. إلخ. وهذا له ما له من الآثار في المشهد العام. |
وهذا له اتصال من طرفٍ آخرَ بمسألة المنهجية العلمية التي يبتني عليها طالب العلم تحصيله؛ إذ يكره العلماء أن يبتدئ الطالبُ بالرد على المخالف والاشتغال بذلك قبل أن يتأصل في العلم الصحيح وترسخ قدمه فيه، ونصوصهم في هذا المعنى متوافر، وإذا كان ذلك كذلك في التحصيل؛ فليكن الأمر كذلك في التفعيل. |
التنقل لغير موجب: |
يعيب كثيرًا من المشتغلين بالعلم كثرة تنقله بين ثغور الفاعلية لغير موجب يقتضي ذلك، وربما جنّد بعضهم نفسه في كتيبةٍ لا تصلح له، ونزل في ميدان لا يليق به! |
ومن صَحِبه التشتت وأزّته رغبة التنقل لا يقِرّ له موقع ولا يثبت في ثغر، فيفوته من الأثر قدر ما بدّد طاقته في تلك الثغور. |
ومن موجب التنقل السائغ: توسيع الأثر؛ كمن أحكم صنعته في التأليف وأضحى له أثر نافع، فبدا له بعد ذلك أن ينفع الناس على المنابر ومقاعد التدريس، من باب توسيع الأثر، وعلى ذلك قِس. |
ومن موجبات التنقل السائغ: الاحتياج الطارئ؛ كما لو انثال على الناس هجمات الفكر الضال وهبّت عليهم رياح التيارات المنحرفة فاحتاجوا لمن يتولى دفعها والرد عليها، فينبري لذلك من لم يوطّن نفسه على الثغر لكن هيأ نفسه فقام به وناء بحمله استجابةً للواقع وتلبيةً لما تعيّن عليه. |
ومن موجبات التنقل السائغ: الانتقال للبحث عن الثغر الملائم، الذي يحقّق قدرًا أكبر من الإنتاجية والفاعلية. وغير ذلك من الصور كثير. |
وغنيّ عن القول بأن ملازمة أكثر من ثغر ليس بممتنع، بل هو أمر قريب المتناول لعموم طلبة العلم؛ وإنما القصد من التأكيد على ملازمة الباب التنويه بمذمة التنقّل بين ثغور الفاعلية وميادين التأثير لغير موجب؛ فذلك مفضٍ عادةً لتشتت العزمات، وضعف الأثر، وهدر الطاقة، وضياع الموارد. |
ومن النصوص السلفية التي لا أملّ من تكرارها وتأمل مضمونها: الحكمةُ التي سطرها إمام دار الهجرة في جوابه على بعض أصحابه لما عاتبه على كثرة انشغاله بالعلم عن العبادة، فقال في جوابه رحمه الله: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق؛ فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد؛ فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر"(سير أعلام البلاء (8/ 114)) رحمه الله، ما أفقهه، وأحكمه، وأحلمه! |
محمد آل إبراهيم |
التعليقات