نشرة مُلهِم البريدية - العدد #30 - قناديل العلم

23 يونيو 2025 بواسطة نشرة مُلهِم #العدد 30 عرض في المتصفح

قناديل العلم

الحمد لله وبعد،

قال سيدنا ومولانا صلى الله عليه وسلم: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه» رواه ابن ماجه في سننه (237)، وأولى الناس بالاندراج في هذا الوصف الشريف والمسمى الكريم: طلاب العلم الهمّامون بنشر العلم.. ومن ألطف أنواع الممدحة المدونة في كتب التراجم أن يكون الرجل (عاميّ النفع)؛ وقد جاء هذا الوصف في ترجمة غير واحد منهم.

تأمل هذا النص الباذخ: قال أبو إسحاق الفزاري: "ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي، والثوري، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، والثوري كان رجل خاصة، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي؛ لأنه كان أكثر توسعا، وكان -والله- إماما إذ لا نصيب اليوم إماما، ولو أن الأمة أصابتها شدة والأوزاعي فيهم، لرأيت لهم أن يفزعوا إليه"، ومن مظان البحث في صفات الأئمة المؤثرين والعلماء الفاعلين= ترجمة الإمام أبي عمرو الأوزاعي رحمه الله؛ فصلاحيته للإمامة لم يشهد بها أبو إسحاق فحسب، بل سبقه إلى ذلك الإمام مالك رحمه الله.

ومن شعب هذا الوصف (رجل العامة) التصدي لتعليم العامة، ميسّرًا لهم العلم مذلّلًا صعبه، يقوم بنفعهم، ويقضي حوائجهم، سهل اللغة، ليّن الجانب، ذو حضور فاعل، ومشاركات منتجة.

مقرئ الصبيان:

لفاعلية طالب العلم وهمته بنشر العلم وتعليمه أهمية وفضل وأثر في نفسه وفيمن حوله، وفضل التعليم لا يتقاصر أو يتعاظم بحسب المستفيد والمتعلم؛ وإنما بحسب نية المعلم، وما يعلّمه.

ذكر ابن رجب رحمه الله وغيره في ترجمة أبي منصور الخياط حكاية عجيبة؛ تؤكد المعنى المذكور وتؤيده وتدل عليه، قال رحمه الله -بعد سوقه سند القصة-: "رئي الشيخ أبو منصور الخياط في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بتعليمي الصبيان فاتحة الكتاب" (الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 224). مما يعلمناه هذا الخبر: ألا تحقر من التعليم شيئًا، وأن أولى ما يُعلّم مبادئ الدين، فلست بحاجة -حتى تنال رتبة التعليم الرباني بشرف- أن تعقد مجالس التحديث بقراءة الكتب الستة، ولا أن تنصب نفسك مجادلًا عن مذهب السلف في مسائل الصفات مناظرًا أهل البدع المخالفين، ولا أن تقعد على كرسي الإفتاء في مسائل المعاملات المعاصرة ومستجدات العقود؛ كل ما عليك أن تبحث عن الفرصة المواتية لتبذل ما يجب بما تستطيع. ونموذج آخرُ يتجلى به المعنى المذكور آنفا:

شيخ الوضوء:

من التراجم التي تستحق التأمل والوقوف معها، ما ذكره بعض أهل السير (إنباء الغمر لابن حجر 3/ 340)، في ترجمة شهاب الدين أحمد بن محمد الصفدي رحمه الله، حيث عرف باسم "ابن شيخ الوضوء"؛ قال ابن حجر رحمه الله: "وعرف والده بشيخ الوضوء لأنه كأنه يتعاهد المطاهر فيعلم العوام الوضوء". وكم بيننا من يستطيع أن يكون "شيخ الصلاة"، و"شيخ الأربعين النووية" [المعنى مقتبس من مقالة لبدر الثوعي]، وقل ما شئت من علوم المبادئ الضروريات.

انتفاع ابن عثيمين من وصية عاميّ:

قال الشيخ رحمه الله في معرض كلامه على شرح حديث «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث..»: "لقد أوصاني رجل من عامة الناس قال لي: يا بُني احرص على نشر العلم حتى في المجالس كمجالس القهوة أو الغذاء أو ما أشبه ذلك ولا تترك مجلسا واحدا إلا وأهديت إلى الجالسين ولو مسألة واحدة أوصاني بذلك وأنا أُوصيكم بذلك لأنها وصية نافعة".

ولاحظ حضور المعنى عند الشيخ؛ ومن النصوص التي بينت تحسّره رحمه الله على تفويت طلبة العلم فرص التعليم ونشر الفائدة، حتى غدت مجالسهم تضاهي مجالس العامة قوله: " بعض طلبة العلم تذهب مجالسهم كمجالس العامة لا ينتفع الناس بها؛ وهذا لا شك أنه حرمان ــ وإن كانوا لا يأثمون إذا لم يأتوا بما يوجب الإثم".

ولسائل أن يسأل فيقول: إن المجالس كالرجال، تختلف انبساطا وانقباضا، وقبولا وامتعاضا، فكيف يتأتى لطالب العلم أن يأتي بالفائدة بأسلوب لطيف ومن وجه خفي؟ أشار الشيخ للجواب على هذا الإيراد المنطقي المحتمل، قال: "في كل مجال يمكنه أن يتكلم في الدعوة إلى الله بقدر ما يستطيع حتى في المجالس الخاصة فيما إذا دعي إلى وليمة مثلا، ورأى من المصلحة أن يتكلم فليتكلم؛ وبعض أهل العلم يكون معه كتاب، فيقرأ الكتاب على الحاضرين، فيستفيد، ويفيد؛ وهذا طيب إذا علم من الناس قبول هذا الشيء بأن يكون قد عودهم على هذا، فصاروا يرقبونه منه؛ أما إذا لم يعودهم فإنه قد يثقل عليهم بهذا، ولكن من الممكن أن يفتح المجال بإيراد يورده ــ سؤالا مثلا ــ حتى ينفتح المجال للناس، ويسألون، وينتفعون" (ذكره في تفسير الفاتحة والبقرة المسجل صوتيا، ومن المطبوع 2/ 171). والشيء بالشيء يذكر؛ فقد حكى الشيخ عن شيخه ابن سعدي رحمه الله هذه الحيلة اللطيفة، فقال: "وكان من طريف ما يصنعه الشيخ ويدل على حرصه على دينه أنه كان إذا ذهب إجابة لدعوة يُسِرُّ إلى بعض أصدقائه من طلبة العلم من الذين يرافقونه في الدعوات العامة، فيقول له: إذا سمعت الحاضرين أو المدعوين يتكلمون في الناس وأعراضهم، أو يتكلمون بكلام فارغ فاسألني سؤالا أو اذكر مسألة شرعية أو علمية وسوف أقوم بالإجابة عن المسألة. فإذا تكلم الشيخ يسكت الجميع وينصتون للوالد ويسمعون كلامه، وبهذا يتحول المجلس من مجلس لغو وغيبة". فما أحلى الحكمة إذا جلّلت العالم، وما أبهى الرجل يغلب عقلُه علمَه!

أ. محمد آل إبراهيم

مشاركة
نشرة مُلهِم البريدية

نشرة مُلهِم البريدية

هي نشرات بريدية ترسل أسبوعيًا على مشتركيها ومحتوى هذه النشرة تعظيم أثر طلاب العلم، يشارك في كتابة محتواها كُتّاب مميزون، مهتمون بمجالات تعظيم أثر طلاب العلم.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مُلهِم البريدية