نشرة مُلهِم البريدية - العدد #32 - التخدير القاتل |
7 يوليو 2025 • بواسطة نشرة مُلهِم • #العدد 32 • عرض في المتصفح |
|
التخدير القاتل |
![]() |
جُبلت هذه الدنيا على كثرة التقلّب، وتجددّ الأحوال، وتبدّل الأيام، وما من إنسانٍ على وجه هذه البسيطة إلا وأيامُ عُمره ما بين إشراقٍ وأُفول.. |
وكما هو تقلّب هذه الأيام، كذاك هو حال الإنسان، فتراه تعصفُ به مراحل حياته إلى نُضوجه، وتستجدّ مسؤولياته وتكاليفه، وترى أنّ لكلّ مرحلةٍ أولوياتها، ولكلّ أيام صعابُها وتحديّاتهُا.. |
إلاّ إنّ الحديث هنا عن طالب العلم، عمّن شغل وقته بنفعٍ يعود على قلبه وعقله، من انشغل بنفعِ غيره وبثّ خيرٍ في الناس تزكيةً لما أوتي من عِلم، وإذ به استجدّ له ما يستجدّ لكلّ إنسان، من عملٍ جديد، أو زواج أو أبناء، أو تبدّلٍ في الحال، أو أيٍّ من الظروف الباعثة على الانشغال، فانشغل بما استجدّ له انشغالاً طويل الأمد، مخدراً نفسه بعباراتٍ شتى: " أولويات المرحلة"، " مدّة وتنقضي"، وإذا بها الشهور تمضي، والأيام تجري، وها هو اعتاد على الانقطاع، وانشغل بلبّه تماماً عن كل ما كان يغذّيه سابقاً، وعن نفعٍ اعتاد نفع غيره به. |
وللأسف فإنّ حال الإنسان سريعُ التقلّب، وأن تترك خيراً اعتدت عليه، أهونُ من الاعتياد عليه كرّةً أخرى، وكما قيل:" إهمالُ ساعةٍ، يُفسد رياضةَ سنة"، ومن انشغل بمعالي الأمور، ارتاضت نفسه، وجوارحه، وعَلَت همّته، بل حتى ذوقه وتسليته ولهوه كان لها شأنٌ آخر، فإذا ترك ما اعتاد الانشغال به مدّةً ينقطِعُ بها التعوّد، احتاج جهداً أكبر للعودة إلى ما فات، ورأى ما كان من عادته صعباً بعيداً كأنّه على أعلى جبلٍ شاهق، وهو ناظرٌ إليه من أدناه، وإذ بملَكِات فُقدت، وصبرٍ على علم قد تبدّل، وطُول نفسٍ قد قصُر. |
وينقسم الناس حينها إلى قسمين اثنين، قسمٌ فكّر وشمّر وقررّ تحمّل مشقّة العودة والاستدراك، وقسمٌ ركن إلى الدّعة واتخذ ما كان عليه من خير، ماضياً يتذكّره ويقف على أطلاله مُقتاتاً على ما أنجز فيه، وشتّان ما بين الاثنان. |
ولعلّ أعظم أسباب هذا التبدّل والانقطاع، هي إبرةُ المخدّر التي تسكن ذلك الصوت المتردد من النفس اللوامة، ذاك الصوت المؤلم المترددّ المذكّر، فيتخلص منه ويسكّنه بكلّ إنجاز سابق عفت عليه الأيام والشهور والسنون، يسكّنه بكل كتابِ قرأه ودارسه، أو برنامجٍ أقامه وساهم به، ولعلّه يوهمه بأولويات في وقته الحالي هي ممتدة إلى ما لا نهاية، وفي حق البعض فإنّ عقليه " إما الكمال وإما لا" هي أعظم مسببّ في تبدل الحال، وصعوبة المراجعة والاستدراك، فتنقلب المعادلة إمّا الكل وإمّا العدم، وكل امرئٍ هو أعلم بنفسه التي بين جنبيه، وأدرى بمزالقها، والطريق إلى تهذيبها وردعها. |
ختاماً |
لا بأس يا طالب العلم، أن تعرض لك العوارض، ويستجدّ لك جديد يُلهيك فترةً من الزمن.. |
لا بأس بانشغال مؤقت يأخذ لبّ تركيزك ووقتك.. |
لا بأس بعددٍ من المحاولات للعودة، أو بعضٍ من التقصير.. |
لا بأس بأيام تُثقل كاهلك في المُجاهدة.. |
الأهمّ هو النجاة من كلّ هذا، وعدم الركون الطويل الأجل، ثم انطفاء شُعلة الفتيل الذي لا يعقبه اشتعال. |
أ. جمانة المغامسي |
التعليقات