نشرة مُلهِم البريدية - العدد #29 - المبارَكون

18 يونيو 2025 بواسطة نشرة مُلهِم #العدد 29 عرض في المتصفح

المبارَكون

الحمد لله وبعد،

فإن من توفيق الله لطالب العلم أن يبعث في نفسه همةً طُلَعةً لتعليم العلم وبثه، وتقريبه للعامة وتلقينه الخاصة.

وما أحسن ما بوّبه الإمام الدارمي رحمه الله في مسنده حيث ترجم بـ(باب البلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليم السنن)، وساق دونه جملة من الأخبار والآثار في البلاغ والتعليم، والتي تندرج تحت مفهوم ما أسميناه بـ «الفاعلية العلمية».

وقد قال أبو ذر رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يغلبونا على ثلاث: أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن".

وقد روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفره ومعه معاذ بن جبل رضي الله عنه رديفه على الراحلة فقال: «يا معاذ»، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا، قال: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه إلا حرم الله عليه النار»، قلت: يا رسول الله، ألا أخبر به الناس فيستبشروا، قال: «إذًا يتكلوا» وأخبر بها معاذ عند موته.

وإن تعجب فعجَبٌ تشوّف معاذ رضي الله عنه لتعليم الناس أولَ ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يدل على حضور قضية نشر العلم وبثه، وقرب هذا المعنى من خاطره، وما ذلك إلا لسلامة صدره وحبّه الخيرَ للناس؛ حيث أحبّ أن يشرَكوه بالبشارة بهذا الحديث الجليل..

ولم يكن أهل العلم يقتصرون على تعليم العلم فحسب، بل ويحثون طلبتهم على بثه وتعليمه من وراءهم، وهذه الصورة تعبر عن الغاية في حمل الهم؛ روى سليم بن عامر رضي الله عنه قال: " كان أبو أمامة إذا قعدنا إليه يجيئنا من الحديث بأمر عظيم، ويقول للناس: اسمعوا واعقلوا، وبلغوا عنا ما تسمعون". وفي ذلك التأكيد: إحضار وإشعار وإشهاد، إحضار لذهن المتعلم المتلقي، وإشعار بالمسؤولية العلمية وتفعيله في أوساط الخاصة والعامة، وإشهاد لملتقي العلم بأداء معلمه للعلم وبذله له.

ومن طرائف ولطائف التعليم ما رواه البيهقي وغيرُه عن عكرمة رضي الله عنه قال: "كان ابن عباس رضي الله عنهما يضع في رجلي الكبل، ويعلمني القرآن والسنن"، وفي الخبر ما يدل على جواز الإلزام بالتعليم، وتقييد المتعلم لتلقينه ما يصلح له ويلائمه؛ بحيث لا يتفارط وقته، وينتشر همُّه فيما دون ذلك.

ومن المصنفات في آداب وفضائل العلم ونشره الكتاب المطبق على قبوله والاحتفاء به: «جامع بيان العلم وفضله» للإمام أبي عمر ابن عبد البر، وسيَلفت نظرَ القارئ ترجمةٌ حسنة تشتمل أخباراً حافلةً عذبةً باعثةً للهمم؛ فقد ترجم رحمه الله بقوله (باب في ابتداء العالم جلساءه بالفائدة وقوله: سلوني وحرصهم على أن يؤخذ ما عندهم)، ثم ساق آثارا عدة تنمّ عن حرص السلف على بث العلم غاية الحرص، إلى الحدّ الذي لا يكاد يصبر فيه المعلم عن إهمال وتفريط أصحابه الذين لم يقدروا علمه التقدير اللائق به الحامل لهم على استنطاقه - حتى يحثّهم حضًا شديدًا، وربما يعاتبهم معاتبة المربي الرفيق؛ ليستنطق بذلك ألسنتهم بسؤاله، ويستفز أذهانهم للتلقي عنه.

ومن ذلك ما رواه عن خالد بن عرعرة التيمي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "ألا رجل يسأل فينتفع وينتفع جلساؤه؟".

وروى عن أبي الطفيل قال: " شهدت عليا رضي الله عنه وهو يخطب ويقول: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به وسلوني عن كتاب الله؛ فوالله ما منه آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار أم بسهل نزلت أم بجبل"

وتأمل لطافة مسلك ابن عباس رضي الله عنه حين علّم تلميذه كيف يسأل، وعمَّ يسأل، وكيف شوّقه للجواب؛ فعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه قال: "ألا تسألني عن آية فيها مائة آية؟ قال: قلت: ما هي؟ قال: قوله تعالى: (وفتناك فتونًا) قال: كل شيء أوتي من خير أو شر كان فتنة، ثم ذكر حين حملت به أمه وحين وضعته وحين التقطه آل فرعون حتى بلغ ما بلغ..، وهذا الموقف التربوي يعلّمنا أن للمعلم أن يلقّن تلميذه كيف يفيد منه، وأن المعلم ينبغي له أحيانًا أن يصنع المشهد، ليهيئ بذلك الظرف المناسب لنشر الفائدة والعلم.

وربما ترتّب على هذه الممارسة التفعيلية للعلم (أعني استدعاء الأسئلة) تخلّق أسئلة من قبيل «الأغلوطات» و«الافتراضات» التي لا ثمرة من ورائها؛ ولذا قال علي رضي الله عنه: "سلوا ولو أن إنسانا يسأل"، فسأله ابن الكواء عن الأختين المملوكتين، وعن ابنة الأخ والأخت من الرضاعة فقال علي رضي الله عنه: "إنك لذهاب في التيه، سل عما ينفعك أو يعينك"، فقال: إنما نسأل عما لا نعلم.. إلخ، فتأمل كيف وجهه عليٌّ بسؤال ما ينفعه، فليس كلُّ سؤالٍ نافعٌ، ولا كلُّ سؤالٍ حقيقٌ بالجواب.

ومما يظهر عناية السلف بقضية تفعيل العلم أنهم عدّوا بثَّه مرحلة من مراحله؛ قال محمد بن النضر: "أول العلم الاستماع، والإنصات، ثم حفظه، ثم العمل به، ثم بثه"، وفي هذا من الإشارات ما لا يسع المقام بإيراده، ومنها: أنه لا يستتم لأحد الانتفاع بالعلم حتى يكمّل تحصيله بتعليمه. والله أعلم..

محمد آل إبراهيم

مشاركة
نشرة مُلهِم البريدية

نشرة مُلهِم البريدية

هي نشرات بريدية ترسل أسبوعيًا على مشتركيها ومحتوى هذه النشرة تعظيم أثر طلاب العلم، يشارك في كتابة محتواها كُتّاب مميزون، مهتمون بمجالات تعظيم أثر طلاب العلم.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مُلهِم البريدية