نشرة مُلهِم البريدية - العدد #31 - عنوان الفاعلية في القرن الرابع عشر |
30 يونيو 2025 • بواسطة نشرة مُلهِم • #العدد 31 • عرض في المتصفح |
|
عنوان الفاعلية في القرن الرابع عشر |
![]() |
الحمد لله وبعد، |
فإن الدارس لتاريخ العالم الإسلامي «العلمي والدعوي» في القرن الثالث عشر وخصوصا في الأقطار النجدية -وسط المملكة العربية السعودية- لا يستطيع أن يتخطى اسمًا من الأسماء اللامعة التي كان لها أبلغ الأثر في حماية الشريعة وحملتها، والذود عن حياض الدعوة السلفية وأعلامها، والقوة في تبليغ الدين وإرساء أركانه في الدوائر العامة والخاصة. الاسم الذي لم تنل سيرته حقَّها من التحليل والدراسة بعد وفاته كما كان شأنه في حياته رحمه الله مالئًا السمع والبصر، ذلكم هو العلامة الأصيل، وكهف المجد الأثيل، حائز قصب السبق في المضمار، وأفق مجده قد أضاء بطالع سعده واستنار، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ من وصف الشيخ عبدالله العنقري لابن إبراهيم، المولود في (1311) المتوفى في (1389) رحمه الله. |
وأشير في هذه المقالة العجلى إلى طائفة من الإشارات الدالة على كونه عنوانًا مميزًا للفاعلية العلمية والدعوية في القرن الماضي، لنمذجة الشيخ رحمه الله لسلفه من طلاب العلم وشداته: |
الإشارة الأولى: التفنّن العلمي |
مما يلحظ في ترجمة «ابن إبراهيم» رحمه الله أنه كان متفنّنًا في التحصيل والتفعيل، ولعل هذا من أظهر العوامل التي وسّعت تأثير الشيخ في الأوساط العلمية والدعوية بالأشكال المختلفة. |
فنجد مثلا أنه عني بحفظ المتون -كما هي سنة أهل العلم وطريقتهم زمنَ التحصيل-، ومن محفوظاته -غير المعروف منها بالفقه والعقيدة-: ألفية ابن مالك، المعلَّقات السبع، ألفية العراقي. وهي كما ترى من جملة علوم الآلة، ولعلك تلاحظ أنه حفظ من متونها ما لا يقدر عليه متخصصون في تلك العلوم! كما أنها من جملة ما يشرح. |
ومما يدل على تفنّنه رحمه الله اتصاله بغيره من أهل العلم واستجازتهم من خارج البيئة النجدية؛ فممن حظي الشيخ منهم بإجازة الشيخ عبدالستار الدهلوي، وعبدالرحمن المباركفوري، وعبدالحق الهاشمي. |
ومما يؤكد ما سبق اضطلاعه بتدريس جملة من الكتب في علوم متعددة -كالعقيدة والتفسير والحديث والفقه وعلومهما واللغة إلخ- كما هي مفصلة في تراجم الشيخ. والقصد الإشارة لأهمية تفنّن طالب العلم واعتبار ذلك من مقوّمات الفاعلية العلمية. |
الإشارة الثانية: رسوخ العلم |
وأعني بذلك تحقق سمتين في الجانب العلمي مازته بفضل الله عن غيره، وبهما أصبح «ابن إبراهيم» كذلك! |
السمة الأولى: صفاء العلم، ووضوحه؛ فلم يكن علمه مرتبكا، مترددا، مهزوزا من حيث تصور المسائل وانطباع صورتها جليّة في الذهن. كما إن صفاء العلم ووضوحه وجلاءه يساعد في التوصل للحكم الصحيح؛ لأن التصور المهتز لا يمكن أن ينتج حكمًا متماسكًا. |
السمة الثانية: استقرار العلم، وثباته. ومن اللطائف في ترجمته رحمه الله ما ذكره بعض من اعتنى بشروحه وإخراجها أن الشيخ رحمه الله كان يكرّر شروح المتون، وبعضها بلغ ثماني نسخ، وبين أول شرح وآخر شرح قرابة الثلاثين عامًا، ولا يكاد يختلف شرحه فيها، بل بعض الجمل منها بحروفها! وما كان ذلك ليكون لو لا أن الله مكّن للعلم في نفس الشيخ حتى غدا فقيهًا بالنفس والبدن! |
الإشارة الثالثة: رجاحة العقل |
من أهم السمات التي تستفاد من ترجمة الشيخ، وهي حقيقة بطالب العلم، لا سيما الذي رجا من نفسه أن يكون فاعلًا بعلمه-: العقل والرزانة. |
ومما يشهد لذلك القصة المتواترة عن الملك عبدالعزيز لما استوصى الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ واسترشده بمن يخلفه في رئاسة الشؤون العلمية والدينية في البلد، على أن يكون ذا عقل راجح ورزانة تليق بهذا المنصب، فأوصاه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف بأن يكون «ابن إبراهيم»؛ فكان ذلك؛ فقد أخذ سماحة الشيخ مجلسه وعمره (28) عاما -حين توفى الشيخ عبدالله- وبدأ بالتدريس، ولما توفي بقية مشايخه توسع في مجالس التدريس واستقلّ بأكثرها. |
الإشارة الرابعة: القوة في تحمّل الأعباء |
لم يكن الشيخ رحمه الله ممن تولى مناصب دينية رفيعة للتزين بها والاستعلاء بها على الخلق، بل كان قائما بها قيام واحد دهره وفريد زمانه، فقد كان له عظيم الأثر في تأسيس هذه المهام والوظائف وتهيئتها لمن بعده، ولذا -إضافة إلى عامل توسع الأعمال وتشعبها- لم يستطع أحد بعده مجاراته في تحمل تلك المسؤوليات، فاضطلعت بها المؤسسات والجهات الكبرى. |
ومن تلك المسؤوليات: التدريس، والرئاسة في: الفتوى، والقضاء، والمعاهد العلمية والكليات، ورابطة العالم الإسلامي، والإشراف على مدارس البنات، والجامعة الإسلامية بالمدينة، والإمامة والخطابة بالرياض. |
وهذا يفيد طالب العلم في مسار فاعليته ألا يتنصّل من المسؤوليات، ولا يتخفّف من الأعمال؛ بل عليه أن يعزم النية ويشد الأزر ويتحمل الضغط في سبيل تفعيل العلم ونشره وبثه. |
ثم إن مما تفيده هذه الإشارة من سيرة الشيخ: أن الوظائف والأعمال لم تكن يومًا عائقا من عوائق التفعيل العلمي وبثه ونشره؛ فهذا الشيخ رحمه الله لم يتسرب إليه الكلل والملل مع كثره أعبائه، وقيام مجالس درسه التي استمرت أكثر من خمسين عامًا! ومن المعروف في سيرة الشيخ أنه كانت له أربع جلسات للدرس؛ بعد صلاة الفجر، وبعد طلوع الشمس، وبعد الظهر، وبعد العصر، ثم إذا أقبل الليل انقطع لتحضير دروس الغد. |
الإشارة الخامسة: نقاء السريرة وصدق التألّه |
مما سطر في ترجمة الشيخ رحمه الله ما كان متصفًا به من صدق في معاملة ربه، وتورع عن المحرمات، مع نصح ظاهر مشفق للأمة. |
ومن تنسكه وعبادته ما حكى عنه بعض تلاميذه أنه كان رحمه الله يقوم من الليل ما يقارب ساعة ونصف من آخره، لا يترك ذلك. |
ومما حكاه عنه تلميذه البر الشيخ ابن باز رحمه الله حالفًا بالله على ذلك أنه لا يعلم أنصح من الشيخ للأمة والتلاميذ. |
ومن جميل ما أُثر مما يجلي مقام سماحته أن الشيخ عبدالله العنقري رحمه الله كان يدعو للشيخ محمد بن إبراهيم -مع أنه يصغره سنًّا بما يقارب العشرين عامًا- بعد صلاته آخر الليل، ويقول: "إني أرجو الله أن يبقيه لنصرة هذا الدين، وحماية هذه الدعوة". فرحمهما الله تعالى، ورحم الله علماءنا ومشايخنا والعاملين الباذلين للدين، ووفق الأحياء منهم لكل خير (للاستزادة: (كتاب مشاهير علماء نجد، لعبدالرحمن آل الشيخ)، و(التراجم المودعة في خاتمة الدرر السنية لابن قاسم)، و(علماء نجد خلال ثمانية قرون، للبسام)، و(ترجمة للشيخ بقلم حفيده الشيخ صالح بن عبدالعزيز، منشور في مجلة الدارة عدد 3 و4 في 1419). |
أ. محمد آل إبراهيم |
التعليقات