نشرة مُلهِم البريدية - العدد #11 - لقاء مع مؤلف |
بواسطة نشرة مُلهِم • #العدد 11 • عرض في المتصفح |
|
لقاء مع مؤلف! |
تعريف بالمؤلف: |
* عبدالله بن عبدالرحمن الوهيبي. |
* باحث من المملكة العربية السعودية، حاصل على البكالوريوس والماجستير من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. |
صدر له: |
١- الاستشراق الجديد - مقدمات أولية (آفاق المعرفة - الرياض). |
٢- معنى الحياة في العالم الحديث (دار الروافد الثقافية - ابن النديم للنشر والتوزيع 2024م). |
٣- موت الأسرار - الكشف عن الذات في العصر الرقمي- (مدارات للنشر 2024م). |
أسئلة اللقاء وأجوبة المؤلف: |
س1/ من المعلوم أثر القراءة والاطلاع على تطور المعرفة، لكن نود أن تحدثنا عن أثر الكتابة على التطور المعرفي من خلال التجربة الشخصية. |
ج: شكر الله لكم أولًا على إتاحة هذه النافذة. ثم إني منذ سنوات قرأتُ في كتاب للمؤرخ المعروف إدوارد كار قوله: «الكتابة توجّه القراءة وتجعلها أكثر إفادة، إذ أنني كلما كتبتُ أدركتُ بنحوٍ أوضح ما أبحث عنه، وعرفتُ أهمية ما أجده على نحو أفضل»، وهذا بالفعل ما وجدتُه، فقد لاحظت -كما لاحظ غيري- أني حين أعمل على كتابة تعليق إجمالي على كتاب معين أو إنشاء "مراجعة" مثلًا؛ فإن ذلك يزيد من فهمي لمحتوى ذلك الكتاب، ويعمّق تصوري لمسائله، لأن الكتابة -المتقنة طبعًا- تستلزم حسن الإدراك والفهم مسبقًا، ثم إعادة الصياغة بمفردات مغايرة، بعد استخراج الخلاصات والأفكار الأساسية، وإبراز المقارنات النظرية، ونحو ذلك مما يزيد الإدراك للمعاني، ويجلّيها في ذهن الناظر. |
س2/ هل ترى هذا الهدر المعلوماتي عبر شبكات التواصل يعود بالنفع لصالح المعرفة؟ وهل تؤمن بما يسمى بالحمية المعرفية لطالب العلم؟ |
ج: الحقّ أن المعلومات الغزيرة والمتناثرة لا تخلو أن تكون مضرّة للذهن مشوشة للنظر، لا سيما مع التتابع والتناقض والوفرة المفرطة، وقد تفسد التصورات وتوهم المتابع بالعلم، بل أشارت بعض الأبحاث إلى أن سهولة تحصيل المعلومة في الشبكة المعلوماتية توهم المتصفح بحيازتها! |
ولتقريب المعنى فإن هذه الوفرة المعلوماتية تشبه الوفرة التي نراها في الأطعمة (ولله الحمد)، على أن كثيرًا من هذه الأطعمة لا تخلو من أضرار، فقد كثر دخول السكريات والدهون وغيرها في مطاعم الناس ومشاربهم مما يحذر الأطباء من الإكثار من تعاطيه، ومن نتائج ذلك تزايد السِّمَن في الأجساد، والأمر كذلك في العقول، فقد تكاثرت المعلومات المفككة وغير الموثوقة المورثة للسِمَن في الأذهان، وحقيقة السِمَن تجمّع لمواد فاسدة أو مضرة بلا طائل، والحل في سمن البدن كالحل في سمن الذهن، فيبدأ أولًا بالحمْيَة، فعلى طالب العلم أن يتحامى المعلومات المتناثرة والضعيفة ما أمكنه، ويغلق عين بصيرته إلا على معرفة صلبة، وعلم موثّق، ونتاج نظر محقَّق، فليس الجهل نقص المعرفة فحسب، بل هذا أدنى درجاته، وإنما الجهل الأقبح هو المركّب، الذي قد يحدثه التلقي المفتوح للمعلومات السيالة من مصادر الشبكة ومواقع التواصل. |
ولكن هذا أيضًا لا يكفي، فكما لا يغني السمين أن يحتمي عن بعض الأطعمة، بل لا بد له من "نظام حياة صحي" يشتمل على الحركة والرياضات البدنية ونحوه، فكذلك حال طالب العلم لا بد له من "نظام معرفة صحي"، فيبنى في نفسه أصول العلوم من مظانها، وعلى يد العارفين بها، ويواظب على رعاية هذا البناء وصيانته، فمتى ما اغتر أو انصرف عنه، عاد إليه ذلك "السِمَن": أعني الأوهام والخيالات الركيكة المتولدة عن أنصاف المعارف والمعلومات المختزلة والمشوهة والمكذوبة التي لا تفتأ تَعْرِض له بُكْرَةً وعَشِيًّا، فتراه «يحسب الشحم فيمن شحمه وَرَمُ!». |
وقد ثبت بالتجربة أن المشتغل بالعلم الأصيل إن جفاه ولو بضعة أشهر فلا يلبث حتى يعود عامّيًا، بل العاميّ خير منه إن كان يدرك قدره في العلم والنظر، ويفوض الأمر لأهل الذكر، بخلاف "طالب العلم السابق" فلا يهون عليه النزول عن مرتبته، فلا تزال بقايا المعارف الضبابية في ذاكرته توهمه بالعلم! |
س3/ هناك نوعان من القراءة الجادة: القراءة الحرة، والقراءة وفق منظومة بحثية منظمة، ما أهمية كل نوع. |
ج: يُنسب إلى الشاعر اليوناني أرتشيلوخوس (ت 645 ق.م.) قوله في شذرة شعرية: «إن الثعلب يعرف أشياء كثيرة، لكن القنفذ يعرف شيئًا واحدًا معرفةً واسعةً»، وقد انطلق منها إشعياء برلين (ت1997) في محاضرة شهيرة ألقاها مطلع الخمسينيات بأكسفورد عن تولستوي ثم طبعها في كتاب عنونه «القنفذ والثعلب»، وقال بأن البشر والكُتّاب ينقسمون قسمين تفصل بينهما هوة كبيرة: الأول أولئك الذين «يربطون كل شيء برؤية مركزية واحدة، أو نظام واحد... يفهمون ويفكرون ويشعرون من خلاله»، والقسم الثاني «أولئك الذين يسعون إلى تحقيق غايات عديدة، غالبًا ما تكون غير مترابطة بل متناقضة»، ويسعون إلى تجميع تجارب وحقائق كثيرة دون وضعها داخل أية رؤية موحدة وشاملة، النوع الأول هم القنافذ (مثل: أفلاطون وباسكال ودانتي وهيجل ودوستويفسكي ونيتشه وبروست بدرجات متفاوتة)، والثاني هم الثعالب (مثل: أرسطو، ومونتين، وشكسبير، وجوته، وبوشكين، وبلزاك، وجويس). أما تولستوي فهو «ثعلب ظن أنه قنفذ!» كما يقول برلين. |
وبغض النظر عن النقاشات المستفيضة حول هذه الثنائية في الأدب والثقافة، إلا أني أجدها مثيرة للتأمل، بحيث يمكن القول إلى حدٍ ما أن القراءة الحرة قد تصيّرك ثعلبًا تعرف الكثير دون رؤية كلية، أما القراءة البحثية فتمكّنك من أن تصبح قنفذًا تؤول علومك إلى أصل شامل، وتدمج معارفك في منظومة موحدة وكليّة. |
ومع ذلك فلا شك أن الجمع بين القراءة العمودية (المتخصصة) والأفقية (الحرةّ) هو الأكمل، ولكن لا يطيقها إلا القلة، لشحّ الأيام، ومظنة تشويش الأذهان، وضخامة معارف الزمان، والغالب أن العناية بأحد القراءتين يدخل النقص على الأخرى، وقليل من يمكنه الجمع بلا حيف، فإن كان ولا بد فلتكن القراءة المتخصصة الأحظى عندك، والأولى لديك. |
س4/ من الملامح البارزة في كتاباتك وفرة الاقتباسات العالية من المصادر المتنوعة، حدثنا عن القدرة على الانتفاع بالاقتباسات وقوفًا وتوظيفًا. |
ج: كثرة الاقتباس قد لا تكون ميزة على الأرجح، بل توصف بأنها علامة على ضعف إنضاج المعارف أو إعادة إدماجها وفقًا لمخططات معرفية جديدة، ولكن -على كل حال- لا توجد طرق سحرية ولا سلالم سهلة توصل إلى الأفكار والمعاني الممتازة، بل لا مفر من اعتياد القراءات الطويلة، والمطالعات المسهبة، والمران على جرد المطولات، وقهر النفس على مطالعة ما لا تحب ولمن لا تحب، ومدافعة الملل وسائر الصوارف المتكاثرة. |
بالإضافة إلى التقنيات البحثية الأخرى، كالعناية بالكتب الموثّقة (أعني التي لا يذكر فيها معلومة إلى مع الإحالات لمصدرها)، ومراجعة الإحالات، فكثيرًا ما تكون الإحالات بوابة واسعة نحو كتب رائعة ومفيدة. |
س5/ لو قيل: ما أهم ثلاث نصائح توجهها لطالب العلم الشرعي تتعلق بالانتفاع بالمقروءات والمطالعات. |
ج: الأولى: وضوح الغايات، فالقراءة دون أسئلة وأهداف لا تكاد تثبت في النفس، ولا تثمر إلا ثمرة ضعيفة، وأجل الغايات جعل العلوم والمعارف من شتى الفنون قناطر إلى زيادة اليقين بالله تعالى، والمعرفة الشريفة بأسمائه وصفاته، وتحقيق الإيمان بشرعه وأمره. الثانية: اقصد البحر واترك الأنهار، فبعض -أو كثير إن شئت- من كتب المعاصرين حجاب أو كالحجاب عن العلوم الأصيلة، إما تختزلها أو تفكك سياقاتها، أو تشوهها وتحرفها، فاعمد -بعد أن تنهي ما يتوجب من التأسيس العلمي- إلى الكتب الأصلية في العلوم التي تقصدها، وكتب كبار العلماء، ولا تغتر بكثرة ورود الأسماء عليك أو تكررها فيما تقرأ، فإن في مطالعة هذا اللون من الكتب كفاحًا بلا وسائط منافع عظيمة لا يعرفها إلا من جرّب، فإن كثيرًا من العلوم العالية لا تدرك إلا بفهم سياقها ولحاقها وسباقها في كتب أصحابها المعتبرين. الثالثة: العناية بالكتابة والبحث والتصنيف، للفوائد والشواهد المتقاربة، والأصول المفرّقة في المصنفات المتباعدة في العلوم والفنون المتنوعة، فإن جمع الأصول وقواعد النظر أعظم فائدة من الإسهاب في تتبع الفروع. |
التعليقات