نشرة مُلهِم البريدية - العدد #26 - مسالك الفاعلية

مسالك الفاعلية

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وآله وصحبه، وبعد،

فإن الله تعالى قد سلك للدعوة إليه سبلا، ومهد دروبا شتى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى.. وليست الفاعلية في بث العلم منحصرة في صورة دون أخرى، وليس يراد من الحث على الفاعلية لزوم ثغر ما دون غيره. وهاهنا أشير لطائفة من المسالك في التفعيل العلمي لطالب العلم؛ أتغيا من ذلك الإشارة لتعددها وتنوعها، والتنويه بكثرتها واتساع خياراتها. فمن جملة مسالك الفاعلية في بث العلم:

- الإفتاء.

- القضاء.

- التعليم الرسمي، وأقصد به المدارس، والجامعات، والمعاهد، والكليات.

- التعليم المسجدي، وأقصد به إلقاء الدروس والكلمات والمواعظ ونحوها.

- الخطابة في منابر الجمع والأعياد وسائر المناسبات، ويدخل فيها إلقاء الكلمات في غير المساجد من مجامع الأسر وغيرها.

- التأليف والبحث، وهذا باب من النفع والتأثير كبير؛ يدخل فيه تأليف الكتب وكتابة البحوث وتحقيق المخطوطات، وتدوين المقالات والتغريدات وغيرها.

- الدعوة الأسرية، بصورها وأشكالها المتعددة؛ بتعليم الصغير وتذكير الكبير وإفشاء المعروف ومنع المنكر في أوساط الأسر والعائلات.

- التوجيه الفردي، وأقصد به النصيحة المباشرة للأفراد؛ في عموم المستويات والمجتمعات: الأسرة وجماعة المسجد والعمل والدراسة وفي الشارع والسوق. إلخ.

- المشاركة في حِلق تحفيظ الكتاب والسنة.

- استثمار قنوات وبرامج التواصل الاجتماعي.

- إدارة البرامج العلمية وإنشاء المناهج والخطط.

- تيسير العلم وتقريبه للعامة بشتى الوسائل.

- تقديم المقترحات والأفكار للمشاريع العلمية والسعي فيها.

وما تزال الأفكار تتجدد بتجدد الاحتياجات والأدوات.. وليس المقصود من سردها حصرُها، وإنما الإشارة والتنويه على أبرزها.

مسالك الفاعلية يمكن أن نقسّمها باعتبارات متعددة، وهذه التقاسيم ربما تساعد طالب العلم على معرفة الثغر الملائم له. فعلى سبيل المثال:

مسالك الفاعلية من حيث مستوى المستفيد العلمي: إما أن يكون استهداف طالب العلم لطبقة العوام، أو المثقفين، أو طلاب العلم المبتدئين، أو طلاب العلم المتقدمين، أو أهل العلم الكبار. وكل طبقة من هؤلاء يندرج دونه عدد لا حصر له من الأفكار التفعيلية.

مسالك الفاعلية من حيث حجم الاستعداد العلمي: فثمة مسالك للتفعيل العلمي تتطلب قدرًا واسعًا عميقًا من الاستعداد العلمي؛ كمناصب الإفتاء والقضاء. ومن المسالك ما هو دون ذلك كأدوار الخطابة والتعليم. ومن المسالك التفعيلية ما تتطلب استعدادا يخص محل التفعيل فقط ولا يسع طالب العلم الانصراف عنه، كتعليم الصغار مبادئ العلوم الضرورية في العقيدة والصلاة -مثلا-.

مسالك الفاعلية من حيث الاستعداد المهاري: فهناك من المسالك ما تناسب طالب العلم الذي يحسن الكتابة والتحرير، ككتابة البحوث والمقالات وتأليف الكتب ونحو ذلك. ومن المسالك ما تناسب طالب العلم الذي يحسن الإلقاء؛ كالخطابة وإلقاء الكلمات والدروس. ومن المسالك ما تناسب طالب العلم الذي يحسن التربية؛ كمحاضن ودور التعليم وحلقها. ومن المسالك ما تناسب طالب العلم الذي يحسن معاملة الناس والدخول معهم ويتملك مهارات الإقناع والتأثير.. وهكذا.

مسالك الفاعلية من حيث الاستعداد النفسي: فمن المسالك التفعيلية ما تصلح لبعض طلاب العلم دون بعض، فمنها التي تتطلب مخالطة الناس وتوجب اتساع الصدر لهم والصبر على ما يرد منهم، ومن أخص هذه الوظائف: الانتصاب للإفتاء والتعليم. بخلاف من يجنح للعزلة ذي العلاقات الاجتماعية المحدودة ومن قصُرَ نَفَسُه عن التعامل مع الجماهير- فربما كانت وظائف التأليف والبحث أكثر ملاءمة له.

وهكذا أحسب أنه بتشقيق وتقسيم مسالك الفاعلية وذكر بعض أفرادها يتسع أفق طالب العلم وتنفتح أمامه أبواب في النفع والتأثير ظنّ أنها موصدة دونه، وبذلك يسهل له اقتحام العقبة بأداء أقل ما يلزمه وأقرب ما يقدر عليه.. وإني لأحسب أن فرص الفاعلية العلمية بعضها آخذ بحجز بعض، فما يلبث طالب العلم على باب من أبواب النفع والتأثير حتى يكون ذلك الباب نافذًا له إلى ما بعده.. وهكذا يتعاظم أجره، ويتكاثر خيره: (ذلك الفضل من الله).

بقي التنبيه على ملاحظة التباين في هذه المسالك؛ فبعضها أكثر خطرا وأطلب حزما من بعض، وطالب العلم الحصيف لا يقتحم ما لم يستعد له؛ إذ القاعدة في هذه المسائل أن الأمر كلما ضاق= ضاق! فالفاعلية مفروضة بقدر الاستعداد.

كما أن طالب العلم المبارك لا يتمنّع من الانخراط في أحد مسالك الفاعلية والتفعيل تذرّعًا بعدم الأهلية وتطلّبًا لمستحيل الكمال وانتظارًا للحظة الصفاء؛ لأنه لا يسقط المعسور بالميسور، وقد أمر  بالتبليغ عنه «بلغوا عني ولو آية» (رواه البخاري (3461))، وقال «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطتعم» (رواه البخاري (7288)، ومسلم (1337)).