نشرة مُلهِم البريدية - العدد #25 - مقومات الفاعلية

12 مايو 2025 بواسطة نشرة مُلهِم #العدد 25 عرض في المتصفح

مقومات الفاعلية

الحمد لله وبعد،

فإنه من المتقرر المعلوم أن المطالب العليّة لا تلين قنواتها ولا تنفتح مغالقها إلا لمن سلك جوادّها وأتاها من أبوابها، ولـمّـا كانت الفاعلية العلمية بهذه المثابة من الفضل والمركزية فإن لها أسبابًا موصلة -بعد إمداد الله عبده بالعون والتيسير- لبلوغ غايتها والتوصّل لذروتها، جماع هذه الأسباب نستجليها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، استعن بالله ولا تعجزن، ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل» (رواه مسلم (2664))، فأبان بهذه الكلمات الجوامع الجواب على سؤال "الأسباب والمقومات" للفاعلية، توضحها الإضاءات الآتية:

الإضاءة الأولى: الاستعانة بالله تبارك وتعالى مبدأ كل خير:

حينما نتأمل في أول ما نزل من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهي مبادئ سورة العلق- نلحظ أن الآية ألمحت إلى هذا المعنى العظيم. قال الحق تبارك وتعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فـ"لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك، ولكن بحول ربك وإعانته" (فتح الباري لابن حجر (1/ 34)). فعلم من ذلك أن أحوج ما يكون إليه السائر في طريق الدعوة: الاستعانة بالله.

الإضاءة الثانية: الخيرية تزداد بقدر القوة الصحيحة:

فالقوة الوارد ذكرها في الحديث لفظ عام مطلق في كل قوة نافعة، وأود التركيز للإجابة على سؤال "المقومات" على نوعين من القوة:

1- القوة العلمية:

والمقصود بالعلم في هذا السياق هو العلم محلّ التفعيل. ويختلف القدر المحتاج إليه باختلاف المقامات وبحسب الظروف وأحوال المخاطبين؛ فالفاعلية في التعليم في حلق تعليم الكبار تتطلب قدرًا من القوة العلمية لا تتطلبه الممارسات التعليمية مع الناشئين، والقوة العلمية التي تتطلبها وظيفة المفتي تغاير القوة العلمية التي تتطلبها وظيفة الإمام والخطيب.. والقوة العلمية في إلقاء درس متخصص غير القوة العلمية المحتاج إليها في إلقاء كلمة توجيهية،.. وهكذا. والمقصود أن يتأهل طالب العلم من الناحية العلمية بحسب مقامه في الفاعلية. ولذا فكما أن الاجتهاد يتجزأ فالقول كذلك في الفاعلية العلمية. وخلاصة القول أن القوة في العلم هو مطلب أساس؛ لأن "ضعف التأصيل تأصيل للضعف".

2- القوة المهارية:

والمقصود بها التحلي بالمهارات الخادمة لطالب العلم الفاعل؛ وهذا أيضًا يختلف باختلاف التخصصات والمسارات. وعلى سبيل المثال: طالب العلم الخطيب بحاجة لمهارات إعداد الموضوعات والإلقاء، وطالب العلم المؤلّف بحاجة لمهارات الكتابة والتحرير، وطالب العلم المربي بحاجة لمهارات المعايشة التربوية وتعديل السلوك وغرس القيم، وطالب العلم المشتغل بالفكر بحاجة لمهارات النقد والتحليل والتركيب، وهكذا.

وبقدر تمهر طالب العلم في المهارة التي تلزمه في ثغر تفعيله العلمي= يكون اتساع النفع وعمق الأثر.

الإضاءة الثالثة: الاستقرار والتماسك النفسي وقود الفاعلية:

ويمكن استلماح هذه الإضاءة من قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا..»، ففيه إشارة للنهي عما يضعف النفس، ويجنح بها للسكون والضعة. وهكذا كل آفة نفسية تؤدي لذلك؛ فالذي يرنو للفاعلية ينبغي أن يحذرها ويتقيها وينفيها من نفسه.

والمقصود بالاستقرار والتماسك هو ما يعبر عنه أحيانا بمصطلح "السواء النفسي"، ويدخل فيه تحلي طالب العلم الفاعل بالأخلاق والمكارم النفسية والمنعكسة على تعامله مع غيره، "فالفاعلية بُعد نفسي لا بد فيه من دوافع عليا تعين على المواصلة والصبر والتحمل، والصحة النفسية شرط أساسي لولادة الإيجابية" (هتون تربوية، سعيد آل ثابت 193) ومن أهم معالم هذه القوة النفسية:

1- معرفةُ النفس، وما تُـحسنه ويلائمها وما ليس كذلك، والتصالحُ معها. ومن عرف نفسه جيّدًا من طلاب العلم حقق أمرين في فاعليته: اختصر الطريق، وأحسن النتاج. وذلك لأنه بمعرفته نفسه بان له الثغر الملائم، ثم لما لزم الثغر الذي يشاكل تكوينه ويناسب طبعه ساعفه ذلك على إحسان النتاج وتوسيع الأثر.

"ووزن طالب العلم لمرتبته يفتقر إلى جملة من المعطيات، من أخصها: مصالحة النفس ومكاشفتها في الخلوات، فربما رأى من يحيط به من الأشياخ أهليته وهو يرى خلاف ذلك، فليتريث، وربما رأى من حوله عدم أهليته فليمحتن رؤاهم ولينظر في بواعثها،.. ومن معطيات وزنه لمرتبته: شهادة أهل الفضل المتجردين من حظوظ النفس.." (ارتياض العلوم 209).

2- قوة التحمل وسعة الصدر:

إذ إن الفاعل من طلاب العلم لا بد وأن يواجه ما يثنيه عن المداومة والاستمرار في العطاء من أذى قولي أو فعلي من الناس، أو ما يجده حتى من نفسه -بما جنحت إليه من الدعة والفتور والكسل-، فإن كان قصير النفَس عريًّا من الصبر= انقطع وتنكّب الطريق.

فطالب العلم "الجزوع" و"الملول" و"المكروب" و"المتشائم" فاعليته تتضاءل وتتلاشى بمرور الزمن، وسرعان ما يتحطم قاربه عند ارتطامه بصخور العوائق والتحديات..

وتأمل معي دعاء موسى عليه السلام ربه لما أمره بالانبعاث لفرعون، فقال (رب اشرح لي صدري)؛ لأن "الصدر إذا ضاق لم يصلح صاحبه لهداية الخلق ودعوتهم" (تفسير السعدي (504))، و «ما أعطي أحد عطاء أوسع من الصبر (رواه البخاري (1469)، ومسلم (1053))»، كما قال عليه السلام.

3- القدرة على المواءمة بين الممكّنات الشخصية والمعطيات الواقعية:

من الأمور المهمة في تأهيل طالب العلم للفاعلية الموازنة بين أمور ثلاثة: القدرة، والفرصة، والرغبة.

فالقدرة تمثل نطاق العطاء وحجم المخزون من جهة المعارف والمهارات الشخصية، والفرصة تمثل الظروف الواقعية والمساحات المتاحة، والرغبة تمثل الميول والاتجاهات. وتآزر الأضلاع الثلاثة -والتي تشكل مثلث الفاعلية- تمنح طالب العلم الفاعل اتساعا في الأفق، وتوجهه نحو التركيز في الممارسة، وتسكب فيه هدوء نفسيا واطمئنانا واستقرارا تكون له رِدءًا في أداء وظائف الفاعلية.

والصادق في إرادة النفع والتأثير لا يتخذ من هذه المقومات عوائقَ تحول دون التفعيل العلمي في بيئته ومحيطه؛ لأنه يعلم أنّ قدر الاحتياج لتحقيق المقومات إنما هو بقدر مجال الفاعلية وأسلوب التأثير. والحمد لله رب العالمين،،

أ. محمد آل إبراهيم

مشاركة
نشرة مُلهِم البريدية

نشرة مُلهِم البريدية

هي نشرات بريدية ترسل أسبوعيًا على مشتركيها ومحتوى هذه النشرة تعظيم أثر طلاب العلم، يشارك في كتابة محتواها كُتّاب مميزون، مهتمون بمجالات تعظيم أثر طلاب العلم.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مُلهِم البريدية