نشرة مُلهِم البريدية - العدد #24 - بواعث الفاعلية |
بواسطة نشرة مُلهِم • #العدد 24 • عرض في المتصفح |
|
بواعث الفاعلية |
![]() |
الحمد لله وبعد، |
فاستكمالا للحديث عن "بواعث الفاعلية"؛ وبعد سياق مجموعة من المثالات الواردة في خطاب الوحي والتي تبيّن مكانة الفاعلية في نصوص الكتاب والسنة، أحاول هاهنا تجلية بعض المعاني التي تبعث النفوس على التمثل بالفاعلية والتحقق بها، ومن ذلك: |
التشبه بالأنبياء والرسل: |
إن للرسل والأنبياء مهامّ ووظائف، من أعلاها مقاما وأسناها مكانة: وظيفة التزكية والتعليم؛ ولذا امتن الله على عباده المؤمنين فقال جل ذكره (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آيته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)، فبقدر فاعلية طالب العلم في تزكية غيره يكون نواله لشرف الوصف، وبركة الاتباع. |
ومن الملاحظ أن أول ما ينطلق إلى ذهن كثير من طلاب العلم في مسائل اتباع النبي ﷺ والاقتداء به ونحو ذلك- هي فروع العبادات والمعاملات والشمائل، حتى يستحضر الاقتداء به في دقائق الأمور، كما في كيفية أكله وشربه ونومه ﷺ، وهذا كلُّه حقٌ ممدوحٌ مثابٌ عليه بفضل الله تبارك وتعالى. |
لكن من الخلل المنهجي في مراتب الأولويات أن ينصبّ همّ طالب العلم ويتجه قصده نحو الاقتداء برسول ﷺ في دقائق الأمور ونوافلَها دون الاقتداء به ﷺ في جلائل الأمور وكبارها، التي من أخصها اتباعه في منهج الدعوة ووظيفة التزكية؛ وهي ألزم لطالب العلم لمركزيتها، وقد روى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رضي الله عنه في قول الله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) قال: وحَقٌّ -والله- على من اتبعه أن يدعو إلى مثل ما دعا إليه ويذكر بالقرآن والحكمة والموعظة الحسنة، وينهى عن معاصي الله (رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (12050)). |
والشاهد أن وظائف التزكية والتعليم -المعبّرة عن الفاعلية- من أشرف وظائف الأنبياء والرسل ومَن خَلَفهم السائرين على هديهم مِن أهل العلم والدعوة. |
الفاعلية تثبيت وترسيخ للعلم: |
إن لحضور الفاعلية في حياة طالب العلم أثرًا في ترسيخ علمه وتثبيته وزكائه ونمائه؛ لأن صور الفاعلية تشترك في أنها بثٌ للعلم، وإحياءٌ لمواته، وإثارة لمكامنه، فالفاعلية قد تتمثل في أن تكون درسًا يُلقى، أو كتابا يؤلّف، أو آيةً تعلّم، أو تذكرةً يوعظ بها، وغير ذلك، وفي هذه الصور وغيرها استعمال للعلم، وذلك يتطلب معالجة له ومعايشة معه، وربما يستدعي تدقيقًا في مسائله، ومساءلةً في مشكله، ومناظرةً في راجحه ومرجوحه. ثم إن في تعليم العلم تعرّضًا لنفحات الفتّاح ﷺ؛ ففي الحديث: «إن الله قال لي: أَنفِقْ أُنفق عليك» (رواه مسلم (2865))، وهذا يتناول نفقة العلم، فالعالم كلما بذل علمه للناس وأنفق منه تفجّرت ينابيعه، وازداد كثرة وقوة وظهورًا(مفتاح دار السعادة (1/ 363)). |
تحقيق مقصد العلم: |
ربما يغيب عن أذهان كثير من طلاب العلم مع استرسالهم مع فروع العلم، وتوغلهم في أعماقه، وطول أمد "الانزواء" في المكتبة والاقتصار على المجالس النخبوية- أن من أشرف مقاصد تعلم العلم: تعليم الناس وتعبيدهم لله رب العالمين.. والشعور بأهمية الفاعلية وأثرها يتصاغر ويتقاصر كلما أمعن في تفاصيل العلم خليًا ذهنُه من استحضار الغاية والمقصد. وليس في ذلك تزهيد بدقائق العلم بقدر ما في ذلك من الإشارة لاستحضار غايات العلم ومقاصده، والتوجه نحوها. قال الإمام أحمدُ رحمه الله لما سئل عن نية العلم: "يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره"(مسائل ابن هانئ (1931)). |
وقد ترجم أهلُ العلم -من لدن الصحابة فمن بعدهم- هذا المفهومَ فأضحى واقعًا مشهودًا في حيواتهم؛ وتكاثرت الأخبار وتواترت الآثار عنهم في انتهاجهم مسالك النفع وجُدَد التأثير، وهي نماذج ومثالات أشهر من أن تذكر، وأطول من أن تورد. وهذا مع ما كانوا عليه من استمرار دؤوب في تلقي العلم وحضور مجالس الشيوخ، حتى مع تقدّمهم في التعليم والدعوة. |
إحياء الفضائل ونشر المكارم: |
في فاعلية طالب العلم ببثه ونشره إحياءٌ للفضائل ونشر للمكارم، وفي مقدمة الإمام أحمد رحمه الله لكتابه في الرد على الجهمية والزنادقة ما يشير لهذا المعنى الجليل بلفظٍ مشرق وبيان عالٍ، فقال رحمه الله " الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". |
إرواء الغليل وبلّ صداه: |
إن في الناس احتياجًا للعلم أشد من احتياجهم الطعام والشراب كما قال أهل العلم رحمهم الله، وفي فاعلية طالب العلم في مجتمعه مساهمةٌ في تقويم المعوجّ، وتعديل الميل. والناظر في أحوال المجتمعات يدرك بيسرٍ ووضوح شدة احتياج الناس للعلم؛ خاصة للعلوم الأصيلة التي تتعلق بها مآلات الخلق وتعبداتهم؛ كعلوم التوحيد والفقه، وما يكشف لهم معاني الوحي. |
بلوغ منزلة الربانية والصديقية: |
قال الحق تبارك وتعالى (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) فأمرهم بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل، والباء في قوله (بما كنتم) باء السببية، أي: "بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين"(تفسير السعدي (136)). فأناط وصف الربانية بالتفاعل مع العلم: دراسة وتعليمًا، و"من طَلبَ العلم ليُحيي به الإسلام فهو من الصديقين، ودرجته بعد درجة النبوّة"(مفتاح دار السعادة (1/ 185)). |
فالفاعلية بالعلم وتعليمه أجلّ موقِعًا عند الموفّقين من كل رغيبة وذخيرة ومغنم.. والموفّق من وفّقه الله تبارك وتعالى. |
أ. محمد آل إبراهيم |
التعليقات