نشرة مُلهِم البريدية - العدد #23

بواسطة نشرة مُلهِم #العدد 23 عرض في المتصفح

حضور الفاعلية

الحمد لله وبعد،

فإن مما ينبغي ترسيخه في النفوس، وتذكيرها به على الدوام أن أي قضية إنما تتضخم أو تتحجم بقدر كثافة حضورها وقدر موقعها في خطاب الوحي. وإذا ما شئت أن تتعرف على المكانة الحقيقية التي تتبوأها أي قضية فالتمس ذلك وتتبعه في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ. وتقرُّر هذا المعنى الفاضل يعيد تنظيم سلم الأولويات ومراتب الاهتمامات، وفق المعيار السماوي.

ومن القضايا المركزية في خطاب القرآن: قضية الفاعلية، والتي سبق أن تعرضنا لمفهومها في المقالة السابقة. ووجه مركزيتها أنه جيء بها على أنحاء وتصاريف، منها:

- تنويع المفاهيم المتصلة بالفاعلية الدالة عليها المندرجة فيها، ومنها (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، النصيحة، التبليغ، الجهاد، التعليم، التزكية، الدلالة على الخير، النذارة والبشارة،..) إلى آخره؛ وهذا التنوع الهائل في التعبير عن المعنى المشترك بين تلك الألفاظ دالٌّ على احتفاء المتكلم بهذا المعنى، ودالٌّ من وجه آخر على توسيع دلالته.

- الأمر المباشر ببث العلم ونشره، وبإفشاء الخير وإشاعته، وهذا يستبطن الأمر بالفاعلية؛ فعلى سبيل المثال: قول الحق تبارك وتعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، وقوله (قووا أنفسكم وأهليكم نارًا)، و(وأمر بالعرف)، وقوله (قم فأنذر)، وقوله في القرآن (وجاهدهم به..)، وقوله (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل أمة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم..).

- الثناء والمدح لمن تمثل الفاعلية في حياته (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله)، (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)، (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار)، (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا).

- التنويه بالسمات اللازمة لطالب العلم الفاعل (فقولا له قولا لينا)، (فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين)، (قم الليل إلا قليلا)، (فاصبر)، (خذ الكتاب بقوة).

- الإشارة لمحاذير الفاعلية (ولا تمنن تستكثر)، (ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)، (ولا تنيا في ذكري)، (ولا تنازعوا).

إلى غير ذلك كثير جدًا مما لا يسع المقام استقصاءه وإيراده والوقوف معه. وخلاصة القول أن في تمثل الفاعلية والتحقق بها امتثالًا لأمر المولى عز وجل.

وأما حضور "الفاعلية" مفهوما وممارسةً في سنة النبي ﷺ فكثير جدًا؛ فقد عُني ﷺ بتربية أصحابه رضي الله عنهم على الفاعلية والنفع والتأثير بشتى صوره وفي كافة أصعدته، وهذا الملحظ يدركه القارئ لسيرته وسنته ﷺ دونما طول إمعان وتأمل؛ لظهوره ووضوحه.

- فتارةً يأمر بالبلاغ عنه مباشرة، كقوله ﷺ في بيان بليغ شريف جامع: «بلغوا عني ولو آية»(رواه البخاري 3461).

- وتارةً يبعث صحابته للبلدان للتعليم والقضاء، كما قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه لليمن، وقال ﷺ: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة..» الحديث(رواه البخاري 1496، ومسلم 19).

- وتارةً يحثّ صاحبه بتعليم مَن وراءه؛ فيشركه في مسؤولية الدعوة وبث العلم، كما في حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أنه قال: أتيت النبي ﷺ في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيما رفيقا، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا، قال: «ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم، وصلوا»(رواه البخاري 628، ومسلم 674).

- وتارةً يدعو لمن نقل مقالته أن ينضر الله وجهه، كما في قوله ﷺ: «نضَّر اللهُ امرءًا سمع منّا شيئًا، فبلَّغه كما سمعه»(رواه أبو داود 3660، والترمذي 2656).

- وتارةً يوجّه ويرشد من ابتدأ سلوك طريق الفاعلية بوصايا، كما في حديث أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال ﷺ: «يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفّرا، وتَطاوعا ولا تَخْتَلِفا»(رواه البخاري 3038، ومسلم 1733).

- وتارةً يضع حامل الحكمة القاضي بها المعلّم لها- موضع الغبطة، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلمها»(رواه البخاري 1409، ومسلم 816).

ولذا؛ فطالب العلم الفاعل في دُوَيْرَتِه، بقضاء الحوائج وتعليم الجاهل وتذكير الغافل وبث الخير والدلالة على الهدى - أعظمُ أجرًا وأكثرُ ثوابًا وآخذٌ من الخيرية بنصيب وافر، بخلاف من انكفأ على نفسه، وقبع في مكتبته، واقتصر دوره على الأخذ والتلقي دون أن يقرنه ببذلٍ وتزكيةٍ؛ وقد قال النبي ﷺ: "ولئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمر النّعم"(رواه البخاري 2942، ومسلم 2406)، فيا لله ما أجزل فضله وأعظم عطاءه !

وغني عن القول بأن طالب العلم أعقل من أن يدلف إلى باب من أبواب الفاعلية ولمّا يتهيأ له بعدُ، فالمقصود من هذا السياق بعث الهمم لتنطلق النفوس لما يلائمها بحسب الاستعداد.

وبعدُ، فكيف يطيب لقلب طالب العلم أن يبقى قاعدًا عن بث العلم ونشر الخير، قابعًا في مراكن الكسل والدعة، مستمهداً الراحة، مستوطئًا مراكب العجز، معرضًا عن سبيل المرسلين والصديقين؟! والله الهادي إلى سواء السبيل..

أ. محمد آل إبراهيم

مشاركة
نشرة مُلهِم البريدية

نشرة مُلهِم البريدية

هي نشرات بريدية ترسل أسبوعيًا على مشتركيها ومحتوى هذه النشرة تعظيم أثر طلاب العلم، يشارك في كتابة محتواها كُتّاب مميزون، مهتمون بمجالات تعظيم أثر طلاب العلم.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مُلهِم البريدية