نشرة مُلهِم البريدية - العدد #22 - الهم المفقود

بواسطة نشرة مُلهِم #العدد 22 عرض في المتصفح

الهم المفقود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فإن المسْلِم الذي يقرأ كتابَ الله تعالى وأحاديثَ رسوله  لا بد وأن تدهشه كثرةُ النصوص ويسترعيه الاحتفاء الظاهر بحالٍ تكرّر التعرّض لها في مساقات متنوعة وبألفاظ متعددة،

هذه الحال الشريفة جاءت على ألفاظ وتعبيرات، منها: النفع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، والنصيحة، والوعظ، والتعليم، والبركة، والربانية، والخيرية، والتواصي بالحق، والصبر.. ونحوها.

ومن النصوص التي أحب أن أنطلق منها في سياق تصنيف الناس من حيث صلتُهم بالعلم تحصيلًا وتفعيلًا= حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (رواه البخاري (79)، ومسلم (٢٢٨٢))، ففي هذا الحديث شبّه  العلم والهدى الذي جاء به بالغيث؛ لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد، فإنها بالعلم والمطر؛ فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت (مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/ 162). وشبه القلوب بالأراضي التي تقع عليها المطر؛ لأنها المحل الذي يمسك الماء، فينبت سائر أنواع النبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو، وتظهر بركته وثمرته (فتح الباري لابن حجر 1/ 210).

فجعل ملتقّيَ الوحي بما تضمنه من علم وهدى في تصنيف ثلاثيّ: صنفٌ تلقى الوحي فعلم وعمل ونفع، وصنفٌ تلقى الوحي لكنّ نصيبه في الاستيعاب والانتفاع أقل من الأول مع مشاركته في التعليم والنفع للناس، وصنف ثالث: من صُرف عن قبول الوحي أو بعضه فلم ينتفع، ولم ينفع.

فبهذا الحديث جعل النبي  مرتكزات التفاضل بين طلاب العلم في مدى تحقيق ثلاثيّة العلم والعمل والنفع -وهو ما أشار إليه شراح الحديث-؛ فموجب المدح والحمد لطالب العلم هو اجتماع الثلاثية في شخصه.

ومحل الكلام هاهنا -وفيما يلي إن شاء الله من مقالات- في النموذج المذكور في الحديث الذي عبر به النبي  عن حال العالم العامل المعلم؛ الذي هو بمنزلة الأرض الطيبة: شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها. ولاحظ أن المعنى المشترك في النموذجين الأول والثاني والموجب لتفضيلهما على الثالث- هو معنى "انتفاع الناس" بهذا العلم؛ مما يشير لاعتبار هذا المعيار في المفاضلة بين طلبة العلم.

هذه الحالة الطيّبة الكريمة التي أشار لها الحديث يمكن أن نعبّر عنها بحالة "الفاعليّة" التي يتمثلها طالب العلم، و(الفاعل) من طلاب العلم من كان فعله متعديًا، أي أن له (مفعولًا) ملموسًا ظاهرًا، فهو مَن يحدث أثرًا منتجًا في واقعه.

واختير هذا التعبير لما يُشعِره من حيوية، ومسؤولية، ومبادرة، وإيجابية، وتأثير، ونفع، ولدلالته التي تسع مجموعة من المفاهيم والمعاني الواردة في خطاب الوحي، فالفاعلية هي حركة طالب العلم نحو النفع والتأثير، ونحو التحقق بالربانية والبركة، وإحياء السنن وبثّ العلم.

فالفاعل مبارك: قال الله تعالى (واجعلني مباركًا أينما كنت) أي "ذا بركات ومنافع في الدِّين والدعاء إليه ومعلمًا له، وجعلني آمرًا بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف" (تفسير القرطبي 11/ 103).

والفاعل آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)،

والفاعل يتواصى بالحق والصبر: (إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، وتأمل ما وصفهم به من "التواصي" الجائي بصيغة المفاعلة الدالّة على معنى المشاركة، ولاحظ أنه جاء بوصف التواصي بعد ما ذكر عنهم الإيمان والعمل الصالح؛ إشارة إلى أنه بالأمرين الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم(تفسير السعدي صـ1992 ط ابن الجوزي).

والفاعل معلّم للخير: قال : «إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلّم الناس الخير» (رواه الترمذي (2685)).

والفاعل دالٌّ على الخير: قال  : «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (رواه مسلم (1893)).

والفاعل داعٍ إلى الهدى: قال : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه» (رواه مسلم (2674)).

فكلّ ما سبق يمكن أن يدخل ضمن "الفاعلية".

وانطلاقا من ذلكم التعريف يعلم القارئ الكريم أن فاعلية طالب العلم لا تنحصر في شكل من الأشكال. ومن آثار عِلْم الله بالخلق وحكمته في التقدير وسعة شريعته أن نوّع ثغور الفاعلية، وباين في رغبات الناس واتجاهاتهم، لينتشر الناس في خدمة دين الله وبث العلم، فلكلٍّ وجهة هو مولّيها، فقد علم كل أناس مشرَبهم.

وبعدُ، فمن البيّن أن "للفاعلية" حضورًا مركزيًا في خطاب الوحي؛ إذ ليست "الفاعلية" مفهوما ثانويا، كما هو كذلك في أذهان كثير من طلاب العلم! ومن يقارن هذا الحضور المكثف للفاعلية في نصوص الوحي بواقع طلاب العلم المفاهيمي والواقعي سيصادق -فيما أحسب- على وسم (الفاعلية) بـ "الهم المفقود" بين طلاب العلم.

وللحديث بقية،

أ. محمد آل ابراهيم

مشاركة
نشرة مُلهِم البريدية

نشرة مُلهِم البريدية

هي نشرات بريدية ترسل أسبوعيًا على مشتركيها ومحتوى هذه النشرة تعظيم أثر طلاب العلم، يشارك في كتابة محتواها كُتّاب مميزون، مهتمون بمجالات تعظيم أثر طلاب العلم.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مُلهِم البريدية