نشرة مُلهِم البريدية - العدد #21 - التشوف للأثر

بواسطة نشرة مُلهِم #العدد 21 عرض في المتصفح

التشوف للأثر

بين الفينة والأخرى تتسلل جملةٌ من الأفكار لفؤاد الناشط في العلم، بعضها يشد العزائم وبعضها يشد فم الشيطان غبطة وفرحًا:

إلى متى طلب العلم؟ ماذا سأكون غدًا بالعلم؟

ثروتي العلمية التي سأنحر سنيّ عمري دونها مصيرها الرفوف؟ أو متروكة منسية في التاريخ في كهوف؟

هل سأحصّل طلابًا عاملين؟ متقنين مسائلي وناشرين؟

وغيرها العديد من جنس هذه الأسئلة، التي أزعم أن الراغب في عمق الأثر، المريدَ لعمره الأضعاف لا يغيب عنه شيء منها بقدر.

ثم تجلس فتتأمل:

وديانَ العلم وأخاديدَ العمل وجبالَ الإمامة ذهب ذِكر بعضهم عن ألسنة البشر.

متفنني المناظرةِ وحِجَاجِ أهل الباطل الذين حرسوا الحق فأجادوا حراسته ثم أفلت شمس ظهورهم بين الناس.

كتّابَ الدواوينِ والمحابرِ العلمية سامقة النفع والإفادة، لما مرت بهم السنين غُمر الكثير منهم بين بني آدم.

هل فاتت مراداتهم؟

رأيتُ مرةً فيما يرى النائم الشيخَ العثيمين يرحمه الله -وأنا الذي لم يدرك الأخذ منه في حياته- في حافلة كبيرة مكتظّة بالناس، قائمًا بين يديهم بمشلحه يهذ من حفظه أبياتًا من منظومة علمية ما، ويشرحها بما يملأ عين الناظر ولبّه إجلالًا، وحصل لي معه مشاهد إذ ذاك.. فالحاصل: أنني قمتُ لما قمتُ سعيدًا مغتبطًا بمنظري الشيخ الجليل رغم موته وخمود جسده رحمه الله، ثم تساءلت بعدها في نفسي: هل كان الشيخ متلهفًا لفرح الناس برؤيته؟ لو كان ذلك كذلك كيف بث العلم بالدرس والتأليف والحاضرُ عنده الرجلان والثلاثة في بداياته واستمر على ذلك سنينًا؟

لو قفزْتَ الأيامَ ولمحتَ الناس بعد موتك -وقد تفضّل الله عليك في حياتك بتحصيل العلوم الشرعية النافعة ونشرها- تُبث فيهم علوم أهل العلم قاطبة إلا علمك، بل أُحرق تراثك وإلى سلة المهملات نُقر على محاضراتك، وشُوّه اسمك واسم الناقل عنك.. أكنتَ متخففًا؟ أسيُهزّ فيك هم أو همة؟

كنتُ يومًا عند الشيخ وليد السعيدان في زيارة له للرياض، وكان مجلسًا مفتوحًا يطوف بنا الشيخ بين أصول العلم ومُلحِه، إذ جاء الحديث عن كتبه، فقال كلمة هزتني في هذا الباب وكذلك تفعل حتى الساعة، مفادها: كتبي! أتمنى أن تُدفن وألا تقرأ إلا بعد موتي، إن صدقتُ الله فيها أحياها ونفع بها، وإن كانت بسوء طوية أو تمضية وقت لم تخرج للناس!

يا لله! وتعظيم الأثر الذي كنا نحسَب؟ ومباشرة الوقوف على الموروث العلمي بغيةَ تفعيله؟ وإفهام الطلبة حولك اللهفَ بنشر والعلم وتبلغيه؟ ألم يجد ذلك كله لك طريقًا؟ ثبته الله ونفع به.

بقيَت تنتابني هذه العبر موصلة درسًا كبيرًا في خلدي، أحيانًا أفيد منه، وأنساه لثقل الرغبة بعمق الأثر أحيانًا أُخَر.

ودرسي يا أخي أن غاية العلم الخشية من ربنا جل في علاه، كما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله: "رأس العلم الخشية"، ألم يقل من علَّم الإنسان ما لم يعلم ولم يحط عالمٌ من علمه سبحانه إلا بما شاء: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء)!

فهوّن عليك يا طالب العلم، وخذ بالعلم مآخذه وضعه مواضعه، فلم يأت العلم يعلمنا استبقاء ذكرنا، ولا أساليب المبالغة في التوريث، ولا التحدث بما لم يتحدث به الأوائل، ولا تعقب أخطاء العلماء والرد عليها -وإن كان بعض المذكور محمودًا في مناسبات-، إنما جاء يعرفنا بربنا (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ..)، ونخشاه (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء ..)، ونعبده (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ..)، فهكذا أصل العلم الشرعي في العلم به وخشيته وعبادته وهو ما أفدناه من علمائنا الراسخين كابن القيم في مفتاح دار السعادة إذ يقول: العلم بالله أصل كل علم.

وليس مرادي هنا الوقوف على كل سؤال يتردد في ذهن طالب العلم والإجابة عنه، إنما هي كلماتٌ للعلم مثيرة، وللحق مشيرة، أدعو بها نفسي والقارئ الموفق إلى فقه مراد العلم.

فهنيئًا لمن وفقه الله في العلم لغايته، وفي تبليغ العلم لحفظ نيته، وفي العمل به لألا يكون حجة عليه يوم يسعد السعيد ويفزع الشقي بشقاوته.

أ. عبدالله بن عبدالرحمن الرشيد

افتتان أحمدsam2 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة مُلهِم البريدية

نشرة مُلهِم البريدية

هي نشرات بريدية ترسل أسبوعيًا على مشتركيها ومحتوى هذه النشرة تعظيم أثر طلاب العلم، يشارك في كتابة محتواها كُتّاب مميزون، مهتمون بمجالات تعظيم أثر طلاب العلم.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مُلهِم البريدية