المؤنسة

7 فبراير 2025 بواسطة محمد #العدد 5 عرض في المتصفح

" أما الآن وقد خرجت - تقريبا - من تلك الضوضاء، أريد أن أعيش، مجددا، تلك الأحاسيس الهاربة، وأستمتع بها استعاديا، رويدا رويدا، من خلال تلك الطريقة السحرية لخداع النفس، والتي نسميها «الذكرى».." 

-ستيفان زفايغ

لا أتخيل قائل المؤنسة، الا شاعرا شاب رأسه، واستهام فؤاده، جلس قبيل الغروب يناظر الأطلال، فأعاد صنع الزمان، الى حيث كان قيس وليلى! فبدأها بالتذكر، فيها ذكرى قيس، وذكرى ليلى، فقال:

تَذَكَّرتُ لَيلى وَالسِنينَ الخَوالِيا

وَأَيّامَ لا نَخشى عَلى اللَهوِ ناهِيا


فها هو ذا مجنون ليلى، يتذكرها، ولا ينسى نفسه، وسنينه الخواليا، وإن المؤنسة لذكرى، وليست ليلى فقط! فلابد للذكرى أن تعيده لما كانا عليه في أول الأمر: 

 بِثَمدينَ لاحَت نارُ لَيلى وَصُحبَتي

بِذاتِ الغَضى تُزجي المَطِيَّ النَواجِيافبداية

أمرهما كان: 

صَغيرَينِ نَرعى البَهمَ يا لَيتَ أَنَّنا

إِلى اليَومِ لَم نَكبَر وَلَم تَكبَرِ البَهمُ

فها هو قيس يعيد صناعة اول الأمر، يتذكرها وهي تزجي، وينسجه من جديد، يناظر المكان، يتذكر ليلى، وكيف كانت تمر من هنا، تبعد عن هذا الصخر، وتسير بهذا الطريق، يتذكر ليلى وقيس الأول الذي شاب الان! ثم يحلّ الغروب، ويأتي الليل، ويا لهذا الليل على العشاق، فكيف بقيس؟ اتذكر كلمة قالها الهدلق:" الليل فتنة الشعراء، ونجوى العاشقين، ومجلى الفكر والإبداع! " فالقادم لولا الليل وفؤاد القيس لما رأيناه! فبعد أن حلّ الليل، اراد ان يكمل مؤنسته، فتذكر نفسه في الليل وقال: 

فَيا لَيلَ كَم مِن حاجَةٍ لي مُهِمَّةٍ

إِذا جِئتُكُم بِاللَيلِ لَم أَدرِ ماهِيا


لا شيء عند قيس أهم من ليلى، هذا ما يريد أن يقول، الا انه ذكر انه في حاجة مهمة ليريها أنها تنسيه وهذا دأب من نحب، فإنه ينسينا أمرنا المهم! فلا ترى المحب الا هائم بأمر واحد، وشغل واحد، وإن قال غير هذا فقد كذب، وقال بعد الظلمة والوحده بيتا يكاد ينزف دما!


خَليلَيَّ إِن لا تَبكِيانِيَ أَلتَمِس

خَليلاً إِذا أَنزَفتُ دَمعي بَكى لِيا

فها هو يخاطب خليليه، فبعد ذهاب مؤنسته صار يقلّب عينيه ليجد من يؤنسه عن سلوى ليلا، وما مخاطبة الخليل الا لشعور الوحده عند العرب! فانظر اليه كيف يبحث عن من يبكي معه، ويبكي اليه، ويا له من معنى! فلا تبكوا على ليلى، بل على حزني عليها، يا له من قيس! 
ولعلنا هنا ننتقل الى الجزء الثاني من هذه الخاطرة، وهو فلسفة قيس بالمؤنسة، أراد بالمؤنسة أن تكون جمع اشتات، فتراه مرة آملا، ثم طواه اليأس: 


وَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَما

يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَن لا تَلاقِيا 


عَلى مِثلِ لَيلى يَقتُلُ المَرءُ نَفسَهُ

وَإِن كُنتُ مِن لَيلى عَلى اليَأسِ طاوِيا 


جميل وصفه لنفسه و ليلاه بالشتيتين كأنما كانا واحدا فشتتهما الفراق!..و أجمل من ذلك كله كيف لا يزال يُمنّي النفس بلقائها غير آبهٍ بالناس و ما يظنّون بهما، ثم انظر، أيقتل المرء نفسه على ما كان منه على اليأس طاويا؟ أيّ قلب هذا؟ كيف كتبه، كيف خطر له؟ بل هذه ليست خطرة، إنما مكابدة قلب، وعمل روح، وجنون عقل، عرفوا أن مجنون ليلى، وليت أننا أنصفنا جنونه، فمن العقل أن ينصف المرء هذا الجنون، ولا نستطيع ان نترك يأسه، ولا نذكر هذا البيت: 
لئِن ظَعَنَ الأَحبابُ يا أُمَّ مالِكٍ

فَما ظَعَنَ الحُبُّ الَّذي في فُؤادِيا 


 عرّض في الأحباب، وهم واحد! فبعد أن طواه اليأس ما ظعن الحب الذي في قلبه، وهنا بالله عليك تخيل ذاك القلب الذي طواه اليأس، وطواه الحب؟! انها معركة لا رابح فيها، نزيف متتال، جرح لا يلتئم! 
وبعد نقائض اليأس والأمل الذي نسجت ذاك القلب فها هو يطلب من النوى بذاته لقاء فيقول:
فهَذي شُهورُ الصَيفِ عَنّا قَدِ اِنقَضَت

فَما لِلنَوى تَرمي بِلَيلى المَرامِيا


أيطلب المرء من ذات النوى لقاء؟ ثم يقول واصفا حبهما وعداوتهما الصافية: 
فَلَم أَرَ مِثلَينا خَليلَي صَبابَةٍ

أَشَدَّ عَلى رَغمِ الأَعادي تَصافِيا


ان المؤنسة، سرد حياة، وسرد متناقضات قلب قيس! فكم عرّض فيها بأن حبها تملّكه، ثم يدعو الله ان يتساوى ما في قلبه وقلبها، وذكر بأنه كفافا لا عليّ ولا ليّ، فلا هو يريد ان يشقيها ولا يشقي نفسه.. 
وتساءل قيس سؤال: 

أَمَضروبَةٌ لَيلى عَلى أَن أَزورَها

وَمُتَّخَذٌ ذَنباً لَها أَن تَرانِيا


ليست ليلى وحدها، بل شأن المحبين! كلهم هكذا يا قيس، فقد قال صردر: 
أتُرى حرامٌ أن يُرَى في

الناس معشوقٌ جوادُ؟! 


وهذا سؤال لا يجيبه أحد، إنما يصمت بعده الجميع، ويبتسم.
نختم بما ختم به: 


وإن مت من داء الصبابة فأبلغا

شبيهة ضوء الشمس مني سلاميا


ابلغاها السلام، كان أخر بيت قاله في المؤنسة، ان السلام بداية، فلعله اراد ان يذكرها بسلامهما الأول، في لحظة موته الأخيرة، وشبيهة الضوء الشمس، لعلها كناية عن أن انها اضاءت دربه لفترة، وأنارت طريقه لزمن، ثم غربت الشمس! فابلغوا الشمس السلام..

مشاركة
نشرة محمد البريدية

نشرة محمد البريدية

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة محمد البريدية