الجبيلة: هروب من الصخب

بواسطة مودة #العدد 17 عرض في المتصفح
أتأمل آثار النجوم في السماء "أحقا هذا موتك في المجرات؟"

في ضحك هستيري كنت أقود سيارتي مع رفيف باتجاه طريق الجبيلة الذي يبعد عن الرياض ٤٠ كيلو. ما أن تدخل القرية حتى تشعر بالتخفف من ثقل المدينة الصاخبة، يمتد نظرك في الأفق الشاسع دون أن تكسرها الأبراج المتزايدة كل يوم في الرياض، وترى انخفاض البنايات وتقاربها الشديد، وصغر مساحاتها، وترتيبها العشوائي: "مطعم للمأكولات السريعة، مكتب عقار، محل للنجارة، محل قطع غيار سيارات، خياط، فوال". سألت رفيف إن كانت تشتهي ألذ "صبّة فلافل تعور البطن" ضحكت ووافقت على المجازفة من مطعم الزعيم "صبّة فلافل -بإضافة كل شيء- ولا تتفاجأ من المكونات، صحن بطاطس مقلي، وحبتين فلافل إضافية" ولكي نضمن الطعام ساخنا، أكدت على الباشا بتحضيرها وقليها حتى لو تطلب عشر دقائق إضافية من الانتظار. 

من طقوسي الخاصة بأصدقائي في الجبيلة أخذهم إلى المطل، بعد أن انعطفنا على الطريق الزراعي "تفاجأت بالإضاءات الجديدة عن آخر زيارة" إلى ينقطع نورها في عتمة المزارع والشعيب، أنعطف يسارا باتجاه المسار الترابي، نرتفع في هضبة ثم ننخفض في منحدر ويتكرر ذلك ثلاث مرات، مرورا بمولدات كهربائية وأخرى لمصانع لا أعرفها. من يركب معي لأول مرة سيفزع من الطريق "متخيلا أني أخدعه" أحيانا أعود أدراجي حين أكتشف الخوف في صديقتي، لكن رفيف سلّمت بمغامراتي وانسابت في الأحاديث، حتى وصلنا "للمحراب" نقف على آثار مولد كهربائي تم إزالته منذ مدة، لنتأمل أمامنا الشارع الرئيسي "يا إلهي كم ازدادت الإضاءات عن المرة السابقة أرجوك يالجبيلة لا تُشابهي قبح المدن". 

أتأمل آثار النجوم في السماء "أحقا هذا موتك في المجرات؟" وماذا عن دواخلنا، أيّ موت للنجوم فينا؟

يحبس الوقت هذا السكون، تنخفض درجات الحرارة لتعبر فينا نسمة خفيفة. نهيم في الصمت، نصلي العشاء، نتناول ماتبقى من "الصبّة"، ونستكمل أحاديثنا حتى تُصبح همسا.  أشعر بالحزن على الجبيلة! ستغدو مدينة صاخبة تراها على خيالات الإضاءات التي تتزايد على الأراضي البيضاء، أتخيل مقامرة العقاريين عليها، ونوايا قتل الهدوء فيها.

غربتنا في الأماكن

كل تغيير جذري على المكان سنُصبح غرباء فيها، وأعترف بالحزن على مغادرتها، لم تعد بالحنيّة التي عهدتها، ولم أعد أشعر بها بعد أن تغيرت، أصبحت لنوايا جديدة، وذكريات لأناس آخرين.

هكذا تغادرني مدينتي تدريجيا مع كل تحوّل جديد فيها أصبح غريبة، بل أبدو كسائح! يمر على المكان يُدهش، يُعدد المزايا الحديثة، ثم يمضي. 

متحفي الصغير

هذه الذكريات والمسرات الصغيرة هي مواساتي، بل متحفي الصغير الذي أرسمه على خريطتي أدعو إليه أصدقائي، كم أكره أن أكون ممن يقف على الأطلال ويقول: "كان هذا المكان شيئا آخر، وكان للمكان ذكرياتي"، لكن أحيانا أجد نفسي كشخصية مدينتي أتغير بسرعة، و أتكيّف معها. 

الهروب والعودة للواقع

عدنا إلى المدينة بعد أن تناسينا الزمان والمكان. أوصلت رفيف إلى منزلها، كانت حواراتنا بمثابة جلسة تعافي لكل ما مررنا به خلال الفترة الماضية "ضحكنا، سخرنا، بكينا، نفّسنا عن غضبنا، حرّكنا العالم بأفكارنا الساذجة"، كانت عزاءً لنا على كل رحيل مر بنا، ليكون طمأنينتا هذه الصحبة والذكريات والدعاء الممتد. 

"رحمة الله على والد صديقتي رفيف وأسكنه نعيم جناته"

مشاركة
نشرة مودة البريدية

نشرة مودة البريدية

هذه نشرة شخصية أكتبها للأصدقاء حول تأملات تلامس سعينا للحياة الطيبة، وأطرح التساؤلات التي تزعجني أو تلهمني للتفكر بها، أنشر يومي الأحد والأربعاء.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مودة البريدية