نصيحة: لا تأخذ بالنصائح

10 أكتوبر 2025 بواسطة مودة #العدد 24 عرض في المتصفح


نحن محاطون اليوم بفيض لا ينتهي من النصائح والتوصيات، حتى صار لكل شخص رأي في كل شيء. التطبيقات ومنصات التواصل جعلتنا نعيش ما يمكن تسميته بـ”متلازمة الخبير”، حيث يبدو الجميع لوحات إعلانات متنقلة، وناصحين دائمين للآخرين. لاحظ نفسك في دقائق تتصفح أحد المنصات لتُقابل سيلا من النصائح العشوائية: “افعل هذا لتنجح”، “توقف عن فعل ذاك لتُحب نفسك”، “خمسة أسرار للسعادة”. بعض هذه الجمل تلامسنا للحظة، لكنها حين تتكرر تفقد وزنها وتصبح بلا جذور، منزوعة من سياقها، كزهرة صناعية جميلة لكنها بلا رائحة.

النصيحة في أصلها تُكتسب ببطء. حين تذهب إلى حكيم، لا يبدأ بإعطائك الحل، بل يصغي إليك أولًا، يسألك، يتأمل حالك، ثم يقدّم لك حكمة مصمّمة لك وحدك. هذه العلاقة بين الاستماع والفهم قبل النصيحة اختُزلت اليوم إلى بضعة أسطر تُلقى في العلن دون معرفة من المتلقي ولا ما يمرّ به. حتى الذكاء الاصطناعي – الذي أصبح مستشارنا الفوري – يقدّم لنا إجابات مصاغة بعناية، لكنها تظل خالية من “النية” التي تميّز الحكيم الحيّ، نية الإصغاء والرحمة والمشاركة في التجربة الإنسانية.

وربما ما ضاع من بين أيدينا ليس الحكمة فحسب، بل الصبر، تلك الفضيلة التي كانت تمنحنا القدرة على التمهّل قبل إصدار الأحكام. فالصبر كما يصفه الغزالي هو: “حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن التشويش.”

ليست هذه الحالة مجرد صمت أو كبت، بل فسحة زمنية يُتاح فيها للعقل أن يرى بوضوح، وللقلب أن يهدأ، وللحقيقة أن تتجلى. حين نُسرع في البحث عن الحل، أو نُسارع في تقديمه لغيرنا، نحرم أنفسنا من المسافة التي تنضج فيها الرؤية.

نحن لا نحتاج إلى أن نصمت عن العالم، ولا إلى أن نكون محايدين تجاه ما نمرّ به، لكننا بحاجة إلى أن نؤجل اللهفة الدائمة لاختصار تجاربنا. فبعض الدروس لا تُفهم إلا بعد أن تُعاش، وبعض المعاني لا تظهر إلا لمن صبر عليها حتى تتفتح.

في زمن الخِبرة الفورية، ربما تكون أجمل النصائح تلك التي لا تُقال، بل تُفهم بالرفق، بالتأمل، وبالعيش الصادق مع النفس.

فلا تصدّق كل ما يُقال لك، ولا ترفضه كله أيضًا. جرّب أن تعيشه. لأن الحكمة الحقيقية لا تُمنح، بل تُستخرج من داخلك، حين تكون مستعدًا لأن تراها.

Shekha almم. طارق الموصللي2 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة مودة البريدية

نشرة مودة البريدية

هذه نشرة شخصية أكتبها للأصدقاء حول تأملات تلامس سعينا للحياة الطيبة، وأطرح التساؤلات التي تزعجني أو تلهمني للتفكر بها، أنشر أسبوعيا

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مودة البريدية