عُمان؛ عز الدار والمقدار

بواسطة مودة #العدد 15 عرض في المتصفح

عزمت على هذه الرحلة منذ آخر لقاء بيننا أنا ومروج في الرياض شهر مايو الماضي، قالت لي بأن مهرجان الرمان التي تقيمه صديقتها في الجبل الأخضر سيكون خلال يوليو حتى سبتمبر، واتفقنا على أن نرتّبها بالتياسير وسأخطط للرحلة بعد أنتهي من مشروع العمل، مضت الأيام لأستقيل ولم أعد مُعلقة بمواقيتهم، لتبدأ رحلتي مع مشاريعي الذاتية. 

عن مروج

في حياتنا نلتقي بأشخاص كُثر، ويندر أن نلتقي بأرواح أصيلة كريمة متخففة، ومتجاوزة زمانها ومتجذرة في انتمائها، وأنا المحظوظة بهذه الأرواح التي عرفتها عن قرب، ومروج إحداهن؛ لم يكن تعارفنا العابر عن طريق زميل مشترك، إلا امتداد لصداقة عميقة، نتفقد بعضنا بين الفترة والأخرى، نحكي طويلا عن همومنا، وأحلامنا وفلسفاتنا حول العمل والحياة والعائلة، لم تبخل بدعوتي المستمرة لمسقط، وكانت زياراتها المتتالية للرياض محطة نُعيد خلالها تساؤلاتنا حول مراحلنا. مروج التي أكرمتني بالتعرف على أخواتها مزن ومريم وأمها، وصديقتها زينة التي تزينّا بحُليها "حِيس" خلال الرحلة، وأحاديثنا الطويلة حول تاريخ عمان وقصص عوائلها. لو كان لي أن أسمّي هذه الرحلة، ستكون "الأخوة"، شعرت كأنني مع أختي نورة. 

٣٠ أغسطس، الساعة ١٠ ص، مسقط

أستيقظ في صباحي الأول بهدوء ونفس عميق. مسقط التي أتيتها قبل خمس سنوات أنا وأمي كسائحين أغراب في المكان، مفتونين بالتفاصيل، وعزمت في داخلي "سأعود إليك مرة أخرى بعيون أهلها" لم أكن وقتها أعرف أحدا من أهلها، ومتى سأعود إليها. 

خرجت مع مروج لإفطار في مقهى أرام، الذي ينضم على جوانب باحة دار الأوبرا السلطانية، بتصميمه المتخفف والمتكامل في تناسقه، أتحسس الجو الغائم واللطيف برطوبته، وبعفوية أقول "الجو رايق" تضحك علي مروج "هذا حر يا مودة" لا تعرفين يامروج كيف تليّن عظامي الرطوبة ويهدأ هياج الجفاف في عيني. لنتفق بعدها "لا يعوّل على مودة في تقييم حالة الطقس" 

 بعد أن تجمعنا في منزل زينة منطلقين لرحلة الجبل الأخضر، كانت أحاديث الطريق عن تاريخ عائلتها الممتدة وكيف تشكّل وعيهم خلال هذه السنين في الغربة عن عُمان والعودة إليها، وكيف أثّر على وعيهم كأجيال معاصرة تعيش رفاه الحياة وتستعد لمواجهة تحديات جديدة للمراحل القادمة. 

ضحكنا كثيرا، وتأثرت أكثر بهذه القصص التي تناقلتها الأجيال عبر مجالس الأجداد، رغم تحفظ الآباء عن روايتها أو إعادة الخوض بها. شعرت بالحاجة للعودة إلا أنفسنا وانتماءاتنا من جديد، لنعرف كيف تشكلنا، وماهي تساؤلاتنا التي سنبني بها مستقبلنا. أمور لا نستطيع أن نفهمها كاملة الآن، وإنما علينا أن ندوّن ملاحظاتنا، بعدها سنعرف، وربما لن نصل لنتيجة محددة، لكن سيصل لها الأجيال القادمة، وهذا السعي إنما محاولة الفهم والعودة لدواخلنا. لم تكن حياتنا المعاصرة لتفصلنا عن هذه الذاكرة المتناقلة في جيناتنا، والموشومة على ملامحنا وطباعنا. 

وصلنا للمنطقة المحددة في الجبل، وتناولنا غدائنا من لؤلؤة اليمن السعيد "رز مندي" ولحم مدفون، ودجاج شواية ومندي، أخذنا بعدها شاي بالنعناع وكرك. 

عندما حطت رحالنا في الفندق الساحر "أنتارا" بتصميمه الأرضي والمتناغم مع هيبة الجبال من حوله. استرحنا قليلا واتجهنا بعدها لمهرجان الرمانة. 

شاركت حِيس "وهي علامة عمانية للمجوهرات الأصيلة صاحبتها زينة" قدمت مجموعة مجوهرات خاصة بالمهرجان أسمتها " من خيرات الجبل" استلهمت تصاميمها من بديع الرمان وفلقتها وحباتها، وجمال حبيبات التوت المزركش، ومجموعة المروج الفاتنة. 

عدنا للفندق في حالة من الإرهاق تجمعنا في غرفتنا نثرثر عن لا شيء و كل شيء، بعدها نام نصفنا ونصفنا استمتع بمشاهدة فلم Lala land وتناول البيتزا منتصف الليل. 

٣١ أغسطس، العودة من الجبل الأخضر

استيقظت وقت الفجر، صليت وخرجت بين ساحات الفندق أتأمل السكون، وشروق الشمس في الجهة المعاكسة من المطل تكشف الجبال حولنا، بعد أن شرقت الشمس، تمددت عند المسبح أقرأ كتابي حتى بدأت أحس بلسع الشمس، عدت للغرفة وخرجنا سويا للإفطار والاستعداد للخروج.

في طريق العودة مررنا على قرية الشريجة هذه القرية المتفرعة من وسط الجبال، تنزل إليها  بهيبة، تمشينا على امتداد أفلاجها، واستمتعنا بمشاهدة الجبال، وأثمارها الزيتون، والرمان، والعنب، والتين الشوكيّ، وعلامات التوجيه المرسومة على أماكن متفرقة كمسار للجري الجبلي، شُجاع حقا من يحاول الصعود لهذا المسار. 

كانت العودة أكثر هدوءا من الصعود، يبدو أنا بنت نجد ينخفض ضغطي مع المرتفعات والهبوط منها فأختار النوم حتى نعدي هذه المنحدرات. 

١ سبتمبر، شاطئ القرم

زرنا شاطئ القرم هذا الصباح، وتناولنا في مطعم ناناز فطور عماني: دنقو، بيض بالطماط، سيويا ، وجولة وعسل، وخبز رخال، واللولا.

بعدها ذهبنا لمول عمان، لتعمل صديقتي مع فريقها في مساحة عمل مشتركة، وأنا جلست أقرأ وأستكشف المكتبة في الجهة المقابلة للمقهى ولم أقاوم اختيار عدد من الكتب، من بينها رواية حرير الغزالة للروائية العمانية جوخة الحارثي، أحب سرد جوخة وقدرتها الرشيقة في السرد والتنقل بين الأحداث بتشوق يجعلك لا تترك الكتاب سريعا. بعدها أخذتني مريم لاكتشاف العطور مررنا على أمواج العلامة العمانية المميزة التي تتخلى بعدها عن العلامات الفرنسية وتشعر أنها ماء، لم أقاوم باختيار عينات صغيرة، بعدها مررنا على عبدالصمد القرشي لأخبرها عن نوع المسك المفضل لدي، لأجد منتج خاص بعمان "مسك باللبان" لم أقاوم الرائحة واشتريت تولة وزعتها على أرباع لأهديها أحبابي. 

رائحة اللبان العماني لها سحرها وعبقها لم أشعر به من قبل، عادة أحب العود الكمبودي الذي يختاره والدي، ولا أستسيغ الأنواع الأخرى، لكن اللبان ربما من كثرة تعرضي له ستُضاف في القائمة المفضلة. 

 الغداء في مطعم البيت العماني تناولنا المالح وهو سمك مجفف ومطبوخ مع البصل، وصالونة البابلوه بالسمك، ورز أبيض، وسلطة عربية، والتحلية "خبيصة وقهوة عمانية" هذه المائدة كانت مذاق من طرف المائدة الممتدة للمطبخ العماني، أعجبني البابلوه سأتعلمه وأضيفه ضمن قائمة الوصفات المفضلة. 

بعد أن انتهت صديقتي من العمل، اتجهنا لمطرح مرورا بالسوق الشعبي، وسوق السمك، واستأنسنا بالغروب عند ساحة "بيت البركة" وهو قصر إقامة السلطان، بعدها أخذنا قهوة من قلعة الميراني، وانتهت رحلتنا نترقب "المنخفض" على المرفأ الذي حذرت الأخبار منه وهو تغير في المناخ يؤثر على المنطقة بهطول الأمطار والرياح القوية وتصاحبها انخفاض في درجات الحرارة، كان البحر هائجا والشعب يمرح تحت صفعات الأمواج التي تجاوزت الحواجز على الكورنيش، متجاهلة التحذيرات. 

٢ سبتمبر الساعة ٨:٣٢ص، مسقط

عند مدخل الفندق تنتظرني مروج ومريم للذهاب إلى البحر، اتفقنا في الطريق على اختيار قهوتهم المفضلة "سبيشيال" ضحكوا لاختياري المقهى المفضل لهم، وأنا أحب الألفة مع أصحابها.

اتجهنا لشاطئ القرم الذي يُطل عليه فندق جراند حياة، لم يكن البحر هائج وأنما منحسر في جزر لا نعلم إن كان المنخفض حدث داخل البحر أم لم يحدث، فرحلتنا البحرية التي أُلغيت بسبب الطقس وتحسرت مروج عليها، لم تكن إلا خيره لنا حتى نحظى بفسحة الوقت لزيارة دار الأوبرا السلطانية. 

دار الأوبرا السلطانية؛ عن العمارة التي تُخلد الثقافة

هذه التحفة المعمارية، استمع لرأي مُزن واختر سعة من الوقت ٤ ساعات على الأقل، للأسف لم نستمع لرأيها وذهبنا في آخر ساعتين لنلحق على معرض عمان والعالم وهو معرض تفاعلي يأخذك خلال ستة قاعات في قصة موسيقية ومعزوفة خالدة من الجمال والجلال. لم يكفيها ساعة، فلحقنا على الساعة الأخيرة لنرى قاعة الأوبرا، وممراتها والمسرح، عبق خشب الساج المنقوش منه وفيه زخرفات إسلامية وعمانية، وحين اطّلعت على موسم ٢٠٢٤\٢٠٢٥ فهمت معنى الارتقاء بالثقافة حين تُتقن اختيار الحفلات، أنصحكم بالاطلاع عليه، فالموسم الثقافي القادم في عمان.

خرجنا "مطرودين" لانتهاء الوقت، ونحن نحاول بالواسطات استكمال الجولة، لكن العودة قريبة بإذن الله. 

أنهينا اليوم بوجبة هانئة في منزل مروج قابلت والدتها، وحديث قصير لا يُمل معها خرجت بعدها لارتباطها بعزيمة، أما نحن فكنا من فطور الصباح نحاول أن نقاوم الجوع، وكان الغداء/ العشاء مائدة عمانية كريمة: مقلاي "لحم المقلقل"، مشاكيك مع الصِبار، بطاطس كتشوري، سيويا، خبز رخال،وفطائر السبانخ والدجاج، وقطايف، ولقيمات بالزعفران، بعدها أتت مائدة التحلية: كيكة التيراميسو الخاصة من أم مروج، وكيكة التمر، وبودينق المانجو الخاص. التخمة اللذيذة التي أرتضي بعدها الصيام. 

٣سبتمبر، الفندق

بعد الليلة الحافلة، أخبرت مروج برغبتي في الجلوس لهذا اليوم في الفندق، تمددت، قرأت، شاهدت المسلسل اليوناني، بعدها كتبت قليلا، قرأت كتابا آخر، حتى شعرت بالحاجة للحركة، اتجهت لنادي الفندق في العليّة تمرنت لنصف ساعة بعدها جلست عند المسبح أكمل قرائتي لرواية حرير الغزالة، مر الوقت سريعا، بعدها استعديت للخروج مع مروج للقاء إبتهال أخت زوج صديقتي سارة السعودية والتي هام بها يحيى من عمان. لقاء إبتهال بمثابة بلسم لأرواحنا تناقشنا كثيرا حول تخصصها كأخصائية نفسية، والاحتياج للدعم الذي يمر به المعالج والأخصائي، وتناولت مروج عن تحديات المرأة في ريادة الأعمال خصوصا في المجالات التقنية التي تعمل بها، كانت الأحاديث مابين التعارف على بعضنا وتداول الأفكار حول التكيف مع تغير متطلبات واحتياجات العصر، كان العشاء عُمانيا بامتياز في مطعم روزنك واخترنا الأطباق التي لم نجرّبها سابقا: العرسيّة باللحم، الهريس بالدجاج، القبّولي باللحم، وعصير ثمرة جوز الهند، واختتمنا الليلة بامتنان عميق. 

٤ سبتمبر، الساعة ٨:١٦ صباح

استيقظ على أحلام متداخلة، ونوم خفيف كنت قد استيقظت لأول مرة في السادسة صباحا، يبتسم قلبي على هذه الرحلة الحنونة والكريمة، ممتنة لكل التفاصيل التي لم أتوقعها، صليت الفجر التي فاتتني من الارهاق، قرأت أذكاري، تكحلت واستعديت للفطور الأخير مع جمانة صديقة مروج تعرفت عليها في الرياض. لم يحصل لنا الفرصة أن نلتقي خلال هذه الرحلة، والحمدلله كسبت ختام الرحلة بلقائها. كنت في انتظارها عند الاستقبال وأنا أقرأ كتاب "تعليم المقهورين" الذي أوصتنا به إبتهال ليلة البارحة، وأتوقف عند هذه الاقتباس لهيقل في ظاهرة العقل "إنه فقط و بالمخاطرة بالنفس تتحقق الحرية للإنسان، وعلى الرغم من أن الإنسان الذي لا يجرد حياته قد يعترف به الإنسان "شخصا" فإن هذا الإنسان لا يستطيع أن يمارس حقيقة وجوده كشخص إلا حين يتحلى بالوعي الذاتي" تنهدت وأنا أتفكر في رحلاتنا الذاتية التي نخوضها في هذه الحياة، ويصعب علينا وصفها في كل مرة لأنها لازالت تصوّغ بمرور الوقت، لذا أتحلى بالصبر الجميل تجاه رحلتي الذاتية، وأسمح لها بأن تصقلُها الحياة. لم يقل روعة الحديث مع جمانة عن الأحاديث التي تناولناها خلال الرحلة. كم كنت مزهوّة بهذه الأرواح الطيبة التي التقيت بها والحوارات التي وسّعت من مداركي.

ضحكت على مفارقة الأقدار لو أنني كنت لا أزال محمومة بالعمل على المشروع السابق، وكم هي قيمة الرحلات التي تختارها بنفسك لتفتح لك الأبواب، وترويك التجربة من أفلاجها. 

 هاهي عمان العزيزة أودعها كقصة مستمرة لا تنتهي. 

 قائمة الأغاني المفضلة العمانية التي استمعنا إليها خلال جولاتنا وصولاتنا:

- مليان قلبي مليان- موزة خميس

- اوه يا زينة يا زينة- صلاح الزدجالي

- اغاني ظفارية: مؤيد حبراص 

- عطونا بنيتنا يو عرب 

- يو سامع الصوت صل على النبي- ام ابراهيم

- هب يو نسيم الليل ساري

- عالمعرس ياسين- زفة العروس

عدت محملة بالهدايا العمانية:

قماش لزي ظفاري، ليسو أخضر مزخرف "الخمار التي ترتديه النساء"، بخور لبان، مبخرة فخارية أصيلة، صحن من فاكهة الجبل الأخضر: تين، كمثرا، تفاح ، نوعين من تمر مزرعة عائلة مروج.

تذكرني مروج من بين كل الصديقات بكرم الجدات، هذا الكرم الذي يُخجلك.

لقطات من الأطباق العمانية

لقطات من الأطباق العمانية


مروجMaryam Al Saadi2 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة مودة البريدية

نشرة مودة البريدية

هذه نشرة شخصية أكتبها للأصدقاء حول تأملات تلامس سعينا للحياة الطيبة، وأطرح التساؤلات التي تزعجني أو تلهمني للتفكر بها، أنشر يومي الأحد والأربعاء.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مودة البريدية