لا للعمل: استراحة بطل

بواسطة مودة #العدد 13 عرض في المتصفح
قضيت نهاية الأسبوع الماضي في أبها، وكان القانون الرئيسي خلال الرحلة "ممنوع العمل، والحديث عن العمل" وذلك لتحقيق الراحة والهدوء 

دُعيت من صديقاتي حصة البواردي وأثير الموسى وآلاء الحسيني المؤسسات لجمعية كون، للمشاركة ضمن مخيم خاص لمجموعة مختارة من المشاركات في برنامج "نقش"، كان هدف الرحلة مكافأة للمشاركات بعد سنتين من العمل، وأيضا كانت أجمل مكافأة لي. 

كان عددنا عشرين من النسوة، والمشاركات مابين مواليد ٩٤-٢٠٠٥، جيل ستتغير نظرتك تجاهه وتحترمه.

وصلنا إلى النزل على الظهيرة، أخذنا جولة في المكان فيلا من طابقين تستقبلك بحديقة واسعة وجلسات خارجية متنوعة، بعد أن توزعنا الغرف واسترحنا قليلا تناولنا الغداء، ثم بدأ افتتاح المخيم بالاجتماع في المجلس الكبير  رحبت حصة بالمشاركات، وقدمت ضيفة المخيم "مودة"، بدأتها بفقرة إبداعية تفاعلية، قمت بتوزيع علب صغيرة تحتوي على تساؤل مثل: ما هي أغرب موهبة لديك؟ إذا كان بإمكانك تناول وجبة واحدة لبقية حياتك، فماذا ستكون؟ ما هو الشيء الذي يجعلك تضحك دائمًا؟ بعد أن استمعنا للإجابات، طلبت من المشاركات الاطلاع على العنصر الموجود في العلبة مثل: "ورقة لعب، كرستال، مطاط، مشبك.." وطلبت منهم تأليف قصيدة وإدخال العنصر في كلماتها، أو كتابة ١٥ فكرة إبداعية حولها، كانت الإجابات شاعرية أحيانا، ومضحكة في أخرى.

بعدها خرجنا مشيا على الأقدام في مسافة قريبة إلى مطل على جبال السودة، ومشهد سحري للضباب والغيوم وهو يصعد إلينا، لحظات التفكر والذكر يمنحك إحساس عميق بالطمأنينة.

عدنا للنزل وأكملنا أحاديث القهوة في الحديقة وسألتنا حصة " ما الذي يجعلنا نبتعد عن العمق؛ عمق المعنى، عمق الشعور، عمق التجربة؟" كنت أتأمل الإجابات بإعجاب، ولاحظت أن ما يغلب على الإجابات أفكار تدور حول الانغماس في العمل، بيئات العمل المزعجة، الهوس بجمال المظهر الخارجي والماديات، تفاهة المشاهير وانشغالنا بهم في جمعاتنا. ثم جاء لي الدور وسألت المجموعة: " ماهي المرحلة التي تمرين بها سواء كانت بدايات أو نهايات، وما نوع الدعم الذي تحتاجين إليه؟" كنت حريصة على أن يكون السؤال يعبر عن المرحلة الحالية لأن الإجابات ستركز على مايشغل بالهم الآن، وخلال الإجابات سيدرك البعض كيف آل به الحال لهذا الوضع، أو هي فرصة للتنفيس عن المخاوف المستقبلية، كانت الإجابات متنوعة جدا، والواضح فيها أن الكل منغمس في انشغالات الحياة؛ العمل، الدراسة، وقليلا من الوقت للذات والعائلة، ويغلب على الإجابات بأن هذا المخيم أتى لينقذهم من الغرق، وهي محطة لراحة الذهن، ومحاولة للاتزان.

كانت الجلسة مريحة وصادقة سمحت للكثير بالتنفيس عن دواخلهم، بعدها تناولنا وجبة العشاء اللذيذة، وختمنا اليوم بالتعاون وتجهيز الخيام لمن يرغب بالنوم في الحديقة.

مضى اليوم الأول كمعزوفة خالدة؛ يستقبلك الجو بالضباب، ثم تنشق السماء بالمطر الغزير، لتعود الشمس قليلا، ثم تصفو السماء، وعند الغروب يعود الضباب يغطي المكان، وننام على زخات المطر. 

في اليوم الثاني استيقظنا باكرا واستعدينا لتناول الإفطار في مطعم على ممشى الضباب، بعدها أخذنا جولة سريعة في الممشى وتزينت رؤوسنا بأطواق زهرة النرجس البرتقالية.

بعدها اتجهنا لشارع الفن كان الجو هادئا ومشمسة، أخذنا قهوة وتجولنا في المكان، وعند صلاة الجمعة استرحنا في حديقة عامة، صلينا وجلسنا في ذكر فضل سورة الكهف، بعدها انطلقنا لبدء رحلة الهايكنق، أخذنا غداء سريع من كودو، والتقينا بناصر وعلياء أخوين من قرية جرف ريدة وهي محمية طبيعية تنحدر ٣٠ كيلو نزولا لايدخلها إلا أهلها والمسؤولين عن حماية البيئة، مشهد النزول بين الضباب يقشعر البدن، توقفنا في محطات زاح فيه الضباب ليمتد بصرك على خضرة الجبال، ونقاء الهواء، وصلنا لنقطة بداية المغامرة؛ المرور على الحصن ثم القصر، بعدها الصعود للكهف، والتأمل في جمال الطبيعة، وامتداد غابات العرعر، وأشجار العتم، والطلح، وأنواع مختلفة من الصبار، وأشجار الموز. مشهد الجلوس على أطرافها والتفكر في بديع خلق الله، والدعاء آخر ساعة من الجمعة شيء يشبه الجنة. 

كانت التوجيهات صارمة للخروج قبل الغروب، وإلى أن تجمعنا كان الوقت يضيق علينا، وفي طريق العودة بسيارة الجمس والباص الصغير، وعند منعطف "النحر" يأتينا اتصال بأن الباص توقف فجأة، والمطر يزداد، عاد ناصر ليتفاهم مع السائق، ويحاول التعامل مع الموقف، ومن تسخير الله توقفت سيارة وانيت يسألنا "عسى ماشر" متفاجئا من ظلال ١٥ إمرأة على الطريق، وقدم مساعدته بحملهن في الصحن، المشاعر لحظتها مختلطة مابين الضحك والخوف والثبات. 

وصلنا سالمين حمدا لله، وأخذنا من المحطة خيرات الفاكهة المحلية؛ البرشومي، التين، الرمان، الخوخ.

قبل العودة للنزل توقفنا عند سوبر ماركت لشراء مقاضي الفطور، وذلك بتقسيم الفريق إلى مجموعات بميزانية ٥٠ ريال لكل مجموعة، وليتفق الجميع على تحديد الوجبات والتعاون في شراء المقاضي خلال ٢٠ دقيقة، مشهد النزول سريعا والبحث عن المكونات، والنداءات العفوية فيما بينهم، لم نستوعبها إلا بعد عودتنا للنزل والضحك على أنفسنا، ولعل "مودة" من فرط الحماسة والسعادة أخبرت الجميع بأنها ستعد السليق بالدجاج، لم أفكر كثيرا بالعدد والوقت قررت وتورطت، وصلنا للنزل وأنا أبحث عن المعدات، يبدو أن صاحب الفيلا اجتهد في رمي الأجهزة التالفة من منزله ووضعها في المطبخ، لأن كل شيء موجود لكن لا تضمن إن كان سيعمل أو لا، ومن هنا استعنا بالحكمة الشهيرة "الحاجة أم الاختراع"، قمنا باختراع طرق وأساليب للتعامل مع الموقف، الأحاديث العفوية خلال الإعداد و"المحارش" على بعضنا حين نُخفق في أمر ما، ومحاولة وزنية الملح، وطرد أي أحد لا يقدم المساعدة من المطبخ.

قدمت العشاء بعد منتصف الليل "حتى سندريلا راحت عليها"، الطبق لذيذ مع بعض الملاحظات الذاتية، ومجاملات حنونة من البنات، ثم نام الجميع في خدر وتخمة. 

في اليوم الأخير، جهزت المجموعات الفطور، كانت سفرة هنية، بعدها قمنا بفك الخيم، وجمع الحاجيات، وفي آخر نشاط للرحلة قدمت كتاب "لماذا تلاحظ أشياء أكثر من أشياء أخرى؟ لداليا تونسي ونوف العصيمي، وهو كتاب يجمع لوحات عالمية وتساؤلات فلسفية،  مررنا الكتاب فيما بيننا وبدأت كل واحدة باختيار عشوائي للوحة ووصفها ثم الإجابة على التساؤل، ختمنا الجلسة بالنقاش حول تيسير الجلسة، كان مُلاحظا على المجموعة مقاطعاتهم المتكررة لبعضهم، وإضافة التعليقات الجانبية، كنت أركز على مهارة الإنصات كحالة ذهنية تسمح لك بالحضور أكثر وفهم الآخر دون الالحاح في داخلك بأن تجيب أو تعقب على كل فكرة، ضحكنا كثيرا على أنفسنا، وضحت في بداية الجلسة الوصايا: "نستمع لمن يجاوب على السؤال، ارفعي يدك إذا رغبت بالمشاركة، إذا أعجبك سؤال احتفظي به للإجابة عليه لاحقا عندما يحين دورك. كانت الجلسة مليئة بالتفكر حول مهاراتنا في التواصل "درس تهذيبي" تعلمنا منه جميعا. 

ختمنا اليوم بزيارة السوق الشعبي "سوق الثلاثاء" وسوق المفتاحة بعد التجديد، وأخيرا أكلنا وجبة العشاء واتجهنا للمطار. 

أستريح الآن، وأتأمل أثر هذه الرحلة البديعة على روحي، كيف لمثل هذه الرحلات أن تجدد فيك العفوية، وتوقف تسارع التفكير في ذهنك، وتُحيي فيك الاحتفاء بالتفاصيل الصغيرة. 

 ممتنة لوجود صحبة طيبة، سمحة، كريمة، ووسيعة صدر جددت فيّ الكثير.

آية استوقفتني كثيرا ذكرتها أثير خلال الحوارات، وتعمقت خلال قراءة سورة الكهف: 

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [ الكهف: 28]

Reema Ghofailyسلوى2 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة مودة البريدية

نشرة مودة البريدية

هذه نشرة شخصية أكتبها للأصدقاء حول تأملات تلامس سعينا للحياة الطيبة، وأطرح التساؤلات التي تزعجني أو تلهمني للتفكر بها، أنشر يومي الأحد والأربعاء.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة مودة البريدية