حينما تجرّعتُ ألم الفقد مرتين..

بواسطة مريم الهاجري #العدد 41 عرض في المتصفح
"لم يقتلني الحزن.. بل أخذ بيدي إلى حياةٍ أخرى". مريم الهاجري

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

صورة تعبيرية عن الفقد ومشاعره.. من بنترست

صورة تعبيرية عن الفقد ومشاعره.. من بنترست

فعينيَّ هلاّ تبكيانِ لمالكٍ 😭

‏ اذا أذرَتِ الريحُ الكنيفَ المرفَعا

وانّي متى ما أدعُ باسمكَ لا تُجِب

وكنتَ جديراً ان تجيبَ وتُسمِعا

وكان جناحي إن نَهضتُ أقلّني

ويحوي الجناحُ الريشَ أن يتنَزعا

وكُنّا كنُدماني جُذيمةَ حُقبةً

من الدهرِ حتى قيل لن يتصدعا

‏فلمّا تَفَرّقنا كأني ومالكاً

لطول اجتماعِ لم نَبتْ ليلةٌ معا 💔

سيصلك هذا العدد على غير المُعتاد.. لا في توقيته ولا فنّه ولا رَسْمِه! بالرغم من أني أمرُّ بظرفٍ استثنائي؛ إلا أن هذا موضوع مهم يجب أن نتحدث فيه، لقد أجّلتُ الحديث عنه كثيرًا.. واليوم أرى أنه قد وجب! إنه أمرٌ يكاد أن يُعدُّ الحديث عنه من المحظورات، مع أنه لا عيب فيه ولا جُرم!

يُباح للمظلومين أن يتحدثوا بعمقٍ عن ظلمهم. وللعُشّاق أن يعبروا عن عشقهم، وفنون حبهم وعذابهم. وللناجحين أن يتفنّنوا في قصِّ معاناتهم، وآلامهم، وفشلهم حتى حققوا النجاح الذي يفخرون به.. وعيبٌ على المكلومين والفاقدين أن يتحدّثوا عن حزنهم ووجعهم وحبهم! أن يتذكروا -في لحظات الفقد الأولى- تلك المواقف الجميلة، واللحظات الصادقة التي جمعتهم بالراحلين 😢

يُمنع الفاقدون من البكاء.. ولا أدري، هل يرونه جزعًا وقد دمعتْ عينا خير البرية -صلى الله عليه وسلم- لفقد ابنه! أم يرونه تثبيطًا لعزائم الآخرين 😟 وهكذا.. تتكدّس بنا، وحولنا أجسادٌ صلبة فولاذية من الخارج، هشّة من الداخل، تنهزم أمام أبسط المواقف، وأقسى الظروف على حدٍ سواء.

صورة معبرة عن الفقد من بنترست

صورة معبرة عن الفقد من بنترست

في نهايات 1433هـ مرض أبي -رحمه الله- 19 يومًا، علمتُ أنه مرض الموت يوم زرتهُ أول مرّة، ولكني وككل الأبناء.. تشبثتُ بالأمل أن يعود طيبًا معافى من جديد.. ولم يكن  😭

في العزاء، كان ينبغي أن نكون متماسكين! صمتٌ قاتل، دموعٌ ساخنة، ولا أكثر من ذلك.. قررتُ بعدها ارتداء شخصية أبي العصامية، وأن أفعل كل ما يمكن لأبي أن يفخر به لو رآني الآن.. وقد كان.. فأنا السيدة القوية الفولاذية، ولكنها وما لا يتوقعه الآخرون، تهزمها الذكريات ويكسرها الحنين 🫥 لا أجرؤ حتى على النظر لصورته -رحمه الله- التي أحضرها ابني من الإنترنت!

بعد 10سنوات على فقده رحمه الله، اكتشفت أنني أسير في الطريق الخطأ! لقد أغلقتُ باب الذكريات الذي لن يبقى موصدًا للأبد؛ والنتيجة أنني أصبحتُ هشّة، يتغيّر طقسي فجأة، ربما لا يُدرك محدثي سبب ذلك، ويبقى في حيرة من أمري، شخصية صلبة ذات دموعٍ منهمرة!

وبعناية الله التي تحيط بي وتنتشلني من الضياع والألم في كل مرّة، وجدت من تشاركني ذات الألم، وتعيش نفس الحنين، والحيرة ذاتها.. ولكنها -لطبيعتها وثقافتها- اكتشفتْ السّرَّ مبكرًا، وشاركته الآخرين، لكي يتعافوا من ألم الفقد، إنها لُبنى الخميس.

لذلك اسمح لي ومن واقع تجربة أن أقول لك: عبّر عن مشاعرك، عن حزنك، عن ألمك، وابكِ.. لا تخجل من ذلك.. عبّر أنك حزين، وأنك تُحبُّ الفقيد، وكانت له معك مواقف جميلة، ومؤلمة، وحزينة، تحدّث عن وجعك، وصدمتك، وحزنك، اسمح للآه أن تنطلق من صدرك ويسمع صداها الكون.. أنت لم تجزع.. ولكنها مشاعرك، ونارٌ تتأجج في داخلك.. اسمح لها أن تتنفس، ولا تكبتها في صدرك فتظل متوقدة تحرقك كلمّا مرّ طيف الحبيب، أو انتثرت رائحته في الأرجاء!

على غير عادتي.. تابعتُ كل الأيام التي تحدثتْ فيها لبنى عن فقد أخيها محمد الخميس رحمه الله، لقد كنتُ أتعافى معها.. أشكرها من كل قلبي، وهي لا تعلم عمق الأثر الذي أحدثته فيّ. 

تحدثت لبنى كثيرًا عن ألم الفقد، وكيف ينبغي أن نسمح لأنفسنا بأن تعيشه كاملاً، حتى نتجاوزه بنجاح.. وكيف يُعتبر من الطبيعي أن تبقى ذكرى الراحلين معنا في كل حين، مع فنجان القهوة، وطعام الإفطار، ورحلات التنزّه، وأروقة المستشفيات والأسواق، الزيارات الرسميّة والجلسات العامة والسهرات الخاصة، لحظات الفرح وأنين الشكوى.

استفدتُ كثيرًا من ذلك.. ثم من طريقتها في التفريغ العاطفي*: كتابة 3 صفحات في الصباح، تُعبّر فيها عن مشاعرك، مخاوفك، آلامك، خططك وأفكارك، لكي تُفرّغ عاطفتك المكبوتة لتستعيد توازنك الطبيعي.. بدأت بهذه الطريقة في 25 من سبتمبر هذا العام 2024، ووجدت أثرها السحري بشكل أدهشني، مما كان له التأثير الجميل في تقبلي لخبر وفاة خالتي رحمها الله فجر الـ 30 من أكتوبر الماضي.

فور سماعي للخبر المتوقع، لم أبكِ! عجبتُ من نفسي.. كنتُ متماسكةً بشكل يدعو للاستغراب أكثر من كونه طبيعيًا.. اكتفيت بالحمد.. -ولله الحمد على التثبيت- كان الحِمْلُ الأكبر أنني من سيصعق أمي بذاك الخبر الثقيل، ولا أحد غيري.. علاوةً على مرارة الخبر.. ستظل ذكراه المؤلمة في ذاكرة أمي: (يوم أن جاءتني مريم وقالت!)

قررتُ أن أتماسك حتى أنتهي من مهمتي الصعبة بعد الظهر.. ثم بعدها لن أحبس دمعًا قدّر الله له أن يجري، فليعلم الجميع أني لا زلتُ أبكيها.. لا مزيد من القوة الزائفة، لنعترف أننا نمرُّ بلحظات ضعف، ولحظات صبر، ولحظات وعد جميل بأن نلقاهم في الجنة.

صورة لبيت من الشعر عزاء للفاقدين

صورة لبيت من الشعر عزاء للفاقدين

عجبتُ من كثرة بكائي عليها -رحمها الله- قلت لزوجي بعد أسبوعٍ من وفاتها: "لم أتخيل أنني سأحزن على أحد مثل هذا الحزن بعد أبي؟" فقال: "لا يا مريم.. أنت تحبين الجميع.. تحبين الكثير.. وستحزنين لا ريب" هذا هو الطبيعي.. لماذا نُخبئ أحزاننا.. ولماذا نخجل منها.. لماذا يكون العزاء وجوه شاحبة تستكثر حتى الدموع والأنين؟!

يوم وفاة سيدنا جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- حزن النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحزن، وأدرك بحسه الاجتماعي شعور الفقد، وألم الفراق الذي يغزو أهل جعفر ولا يرحمهم، وفي مواساة عميقة لهم قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي{اصنَعوا لأهْلِ جعفرٍ طعامًا، فإنَّهُ قد جاءَهُم ما يشغلُهُمْ}. لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على آل جعفر، وأدرك عمق الحزن الذي يمرون به، كما يمرّ هو به بأبي هو وأمي 💔 وفي إشارة بليغة لمواساتهم وجّه بصُنع الطعام لهم، مع أنهم ربما لا يأكلون، وفي ذلك لفتة لطيفة إلى كافة أنواع المواساة المعنوية والمادية.

المواساة.. أن تسمعني.. وتقف بجانبي.. تربت على كتفي وأنا أبكي.. وتبكي معي أيضًا.. ففي حادثة الإفك، تقول السيدة عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها- في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: {وقدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ ويَوْمًا حتَّى أظُنُّ أنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، قَالَتْ: فَبيْنَا هُما جَالِسَانِ عِندِي وأَنَا أبْكِي، إذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ، فأذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي} فهذه الأنصارية -رضي الله عنها- لم تنطق بكلمة، ولكنها واستها بدموعها.. فلم تنسَ ذلك لها السيدة عائشة.

حينما تفقد عزيزًا.. وكلنا فَقَد.. اسمح لنفسك بالتعبير.. بالبكاء، بالدعاء بالثبات له، ولك، تحدّث عن مشاعرك، اكتبها، ارسمها، عبّر بالطريقة التي تناسبك.. المهم أن لا تكبت مشاعرك.. ولا تتجاوز إلى النياحة والجزع، فلا البكاء برادّ حبيب، ولا النوّاح بجامعك به من جديد.. ولكنه مجرد تنفيس عمّا بداخلك، لتستعيد توازنك من جديد، ويُعينك على الصبر الجميل.

قصائد الرثاء في التاريخ العربي، وفي العصر الحديث، هي نوعٌ من التفريغ العاطفي الذي يشدو به كل محزون مرّ بحالة فقد؛ ولقد أُعجبتُ برثاء الخنساء لأخيها صخر، ولكني لم استشعر ذلك حقيقةً إلا حينما فقدت أبي رحمه الله.. فلقد فهمت حقيقةً ما كانت تعنيه بقولها:

وما يبكونَ مثلَ أخي ولكن

أُعزّي النفس عنه بالتأسي..

وحينما تتحدث الخنساء عن ذكرى الفقيد.. ابتسم ابتسامةً حزينة:

يُذَكِّرُني طُلوعُ الشَمسِ صَخراً

وَأَذكُرُهُ لِكُلِّ غُروبِ شَمسِ

وكذا قصيدة مُتمّم اليربوعي في رثاء أخيه مالك بن نويرة، والتي استفتحتُ بأبياتٍ منها هذا العدد.

ويبقى السؤال الذي أبحث عن إجابته: هل تتحدّث المصادر العربية عن التفاعل العاطفي مع مشاعر الفقد؟! هل مِن مُرشدٍ إلى التوجيه الصحيح للمشاعر المكبوتة نتيجة الفقد، والتي قد يؤثر كبتها على المدى البعيد؟ تتحدث لُبنى الخميس عن شُحّ المصادر العربية في هذا الباب.. ويتراءى لي السؤال: إذا كنتُ أنا ولبنى وأنت نبحث ونعاني، فمن المفترض أن يكتب لنا؟.. الأدباء والعلماء المختصون.. انظروا لنا بعين العطف وأنقذونا.

إذا كنتَ مثلي.. لا زلتَ حزينًا لفقد حبيب.. فقد يكون في (لست وحدك.. رحلة الفقد) لـ لبنى الخميس، تسليةً لك.

حفظ الله لنا ولكم أحبابنا.. دمتم في حفظ الله ورعايته..

_____

* هذه الطريقة اكتسبتْها لُبنى الخميس من جوليا كاميرون في كتابها The Artist's Way من يدلُني على نسخة ورقيّة معربة منه فله الشكر.

مشاركة
عـمـــــــــق

عـمـــــــــق

على سبيل الفضول والبحث والطموح كل اثنين ستشرق "عمــق" بها شيئًا من قناعاتي وقراءاتي وعاداتي كي نرتقي معًا

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من عـمـــــــــق