نشرة خواطر مفكرة البريدية - العدد #18 الأسر متوسطة الدخل وصراع إثبات الذات تحت شعار (الحرية المالية)!

بواسطة عبدالعزيز ال رفده #العدد 18 عرض في المتصفح
الأسر متوسطة الدخل وصراع إثبات الذات تحت شعار (الحرية المالية)! 


هناك دعاوى كثيرة، ومجحفة جدا، تصيب في الأغلب أصحاب الأسر ذوي الدخل المتوسط، أو ما دون ذلك، وهي تلك المتعلقة بالحرية المالية، والحث الكبير من أصحاب هذه الدعاوى الغير منطقية في الخروج من عباءة الوظيفة والإنطلاق نحو ريادة الأعمال، والتحرر من الوقت الذي يجبرك في البقاء داخل مؤسستك الحكومية أو الخاصة، نحو ذلك العالم المالي الذي سيدر لك دخلا يوازي خمسة أو عشرة أضعاف دخلك الذي تتواجد فيه حتى اللحظة، مع ترديد تعليقات مثل (الوظيفة فقر!) ، أو (ما توكل عيش) أو الأسوأ منها كلها (ترضى تكون عبد!).

فمن خلال العودة لمطلقي هذه الحملات أنفسهم لو شاهدت جيدا خلفيتهم (المالية، أو العائلية، أو الجغرافية، أو حتى اللغوية) لفهمت جيّدا أنهم يقعون في كوكب مدارّي مختلف عن الذي يعيش فيه باقي سكان الكواكب الأخرى.

أصبحت لدي الأحكام، بتركيزي عليها أكثر من ذي قبل، مختلفة بعد قرائتي لكتاب Outliers (استثنائيون) للكاتب مالكوم قلادويل، ففي كتابه الرائع بحث بحثا مستفيضا عن خلفيتهم (الثقافية) والذي أدّى في نهاية المطاف كونهم "مميزين جدا" ولا يمكن الوصول لهم، فلك أن تتخيل بأن الأطفال في أمريكا الذين يولدون في أشهر (يناير، فبراير، ومارس) وهي الشهور الميلادية الثلاث الأوائل من السنة هم في الغالب الأكثر نجاحا في الرياضات التنافسية مثل (كرة السلة، وكرة القدم، والطائرة) عن أولئك الاطفال الذين يلدون في أشهر (أغسطس، سبتمبر، ونوفمبر) وهي الثلاث شهور الأخيرة من السنة، ويعود ذلك لسبب بسيط ربما لا يلفت الأنتباه في أول مرة، وهو أن هؤلاء الطلاب الذين يكونوا في صف واحد ويريدوا أن يلعبوا ويشاركوا في لعبتهم التنافسية أيا كانت، سيكون الطلاب الذين ولدوا في الثلاث شهور الأولى من السنة الأكثر نموا جسديا، وعقليا، وممارسة لرياضتهم عن أولئك الذين ولدوا خلفهم بعد ما يقارب ٧ أشهور على الأقل وهي بالأرقام ٢١٠ أيام، وقد يكون خلالها من التمرين ٨ ساعات بشكل يومي وهو ما يعادل 1,680 ساعة إضافية من التمرين المتواصل، ولهذا تختلف النتائج ويكون من ولد في الشهور الأربع منهم الأكثر تميزا لتمثيل مدرسته، أو منطقته، أو دولته في محافل رياضية أضخم!

هذه المفارقة العجيبة تستمر في الكتاب، ولكن هذه المرة مع بيل قيتس المؤسس لشركة مايكروسوفت، هذا الطفل الذي ولد وترعرع في أسرة غنية، هو الذي إمتلك في فترة مبكرة جدا جهاز كمبيوتر وذلك في العام ١٩٦٨ م، ولأنه كان شغوفا، وراغبا بشدة في إكتشاف الحاسوب، تميّز لاحقا، ليصبح أيقونة في العالم المحوسب، بل ومن الأكثر ثراء في العالم، ولأنه إمتلك الدقائق والساعات في كونه شغوفا فقد إستطاع لحُّبه للحاسوب في أي يبذل ١٠ الالاف ساعة من الممارسة المستمرة، بل وربما أبعد من ذلك الرقم مما جعله خارقا وغير قابل للمنافسة عن باقي أقرانه هذا إن وجدوا أصلا خلال تلك الفترة، ولأن عائلته في المقام الأول صرفت عليه الغالي والنفيس ليكون في مدرسة لائقة، حتى في الفترة الصيفية سيكون متاحا لأن يصرف وقتا إضافيا عائدا للحاسوب وممارسا فيه ساعات أكثر بعكس من هم في نفس عمره والذين هم بالعادة يتفرغون للعب، بدلا من إنشغالهم في ذلك الوقت (بجهاز الكمبيوتر)، هنا بالضبط يجب أن نعود لتلك النقطة لإبن ولد في ظروف زمانية مختلفة كون عائلته في الأصل (غنية) إضافة لشغفه بحب الحاسوب والذي كانا نادرا جدا خلال تلك الفترة.

وربما لو أسقطت حادثة بيل قيتس على الصعيد المحلي سيكون الأشخاص الذي انطلقوا للمدن الكبرى في سن صغيرة وأعني هنا في السبيعينات أو الثمانينات الميلادية، كانوا أكثر قابلية في صناعة الفرص، واتخاذ قرارات أكثر جرأة في تلك الفترة الزمنية وذلك في وظائف مرموقة في الوزارات الحكومية، أو في شركات مثل أرامكو وسابك، فمن خلال الاقتراب من الاشخاص ذوي النفوذ، بالاضافة تعلم اللغة الانجليزية من أصحاب التخصصات أنفسهم (أمريكا، أو بريطانيا) ربما قد انعكست بالضرورة على أبناء من عاشوا في مدن مثل (الجبيل، الظهران، الرياض، جدة) مما جعل أبنائهم في المقام الأول ثم أحفادهم لاحقا، أكثر قابلية عن باقي أقرانهم في الدولة في التميز وصناعة الفرص المتعلقة بالتعلم والتجارة ومخالطة الفكر القادم من الخارج، فبالتعلم، واللغة الجديدة، والعالم المتسارع في وجود (النفط) جعلهم أكثر صرفا لساعات أكبر في التجارة، والابتعاث، وصناعة فرص غير متوقعة أهلتهم للنجاح لاحقا وربما بصرفهم عشرة آلالاف ساعة في تخصص عشقوه!

الكتاب المذهل يستمر في كل فصل يعكس لك كيف أن الخلفية التي يلد فيها الشخص تؤثر في عملية نجاحه بشكل كبير، وهذه المرة شرق آسيا، فهم المتميزون دائما في الأعمال التي تتطلب مزيدا من الحركة الدؤوبة والمتواصلة، وهذا السبب يعود في جغرافية منطقتهم، فدول شرق آسيا في العموم في العصر القديم، " عصر الأجداد" كانت لديهم مزارع الأرز، والتي يحرص عليها الجد وعائلته في متابعتها كل يوم ٣٦٥ يوما في السنة، وعنايتها من الأجواء العاصفة أو الممطرة وهو يعني ٣٠٠٠ الالاف ساعة يصرفها الشرق آسيوي سنويا في الاهتمام بالزراعة وحصادها، فحتى تلك الشهور التي لا يوجد فيها موسم حصاد كالشتاء، يقود الأجداد أبناؤهم في القيام بالاعمال الحرفية، مثل صناعة القبعات مثلا، أو الاستعداد في صناعة الادوات التي تساعد في الحصاد، وبالتالي عمل لا يتوقف طوال في السنة، في ظنك الآن هل ستمرر هذه التربية المستمرة في العمل نحو الأحفاد؟ حتما هذا هو ما سيحدث، تميز الاحفاد لاحقا في تخصصات أخرى مثل (صناعة المصانع، والمباني، والطرق) وفي العلوم أيضا (العلوم، والرياضيات) والسبب يعود لإرث ثقافي مُرر عبر الأجيال وسوف يستمر لأكثر من ذلك نحو الأجيال المتعاقبة التالية أيضا.

وقد إجتهدت على وجه تنظيري بحت في إسقاط هذه النظرية في الشأن الداخلي ربما وأقول (ربما)، بأن التميز الذي يظهره سكان الريف متمثلة (بالقرية) والتي تعني كثيرا الاعتناء بالمزرعة في أعالي الجبال مثل (مرتفعات عسير، والطائف، والأحساء، والقصيم، وباقي مدن الحجاز) أو أولئك الذين يقطنون في الساحل مثل (جازان، وجدة، وينبع، والخبر) بحكم جغرافية مناطقهم في الستينات أو السبيعنات الميلادية كان إنعكاس ذلك كبيرا على الابناء والأحفاد بعد ذلك، في كونهم متميزون جدا، ومجتهدون كثيرا، ويسعون دائما للتفوق، وقد يعكس ذلك الاهتمام بالزراعة، أو بالصيد والصبر على مشقته طوال السنة، في صفات الابناء والاحفاد حتى يومنا هذا! ومن يعلم ربما يكون (للحضارم) أو (القصمان) تميزا خاصا بهم جعلهم ممن يشار لهم بالبنان دائما، ويعود ذلك بسبب الإرث الثقافي الذي كان الحضارم يعيشون به مما جعلهم يعملون لاحقا بلا كلل أم ملل، أو القصمان في إمتلاكهم الرابطة الأسرية القوية والتي تزرع في أبنائهم الاستقلال والثقة المبكرتين وفي عمر صغير جدا!

حتى وإن فشل (الحضرمي) أو (القصيمي) فسوف يكون هناك دعم عائلي كبير لن يجعله يستدين ما وراءه وما دونه كي يسدد أتعاب فشله الذريع، بل سيلجأ لتلك التجمعات العائلية والتي سوف تدعمه، وتجعله يقف علي رجلّيه من جديد، حتى وإن كان قاب قوسين أو أدنى من الافلاس، أو إنهيار مشروعه بالكامل، فسوف يملك (الحضرمي) أو (القصيمي) من الخبرات العائلية، وبعد النظر، والاستشارات ما ستنقذه، قبل أن يغرق بشكل كامل، ليدفعوا به دفعا نحو القمة من جديد!

وهذا لا ينطبق على الأسر متوسطة المستوى، والتي تكون فيها الأسر في هذه الفئة ممن يُرغبون أبنائهم في صرف ساعات أكثر على الدراسة والاجتهاد فيها، ذلك كونها طوق نجاة الفرد في الأسرة مستقبلا، وأعني بذلك الوظيفة أيا كانت، وقد تشدد الاسرة كثير في فكرة دخول الإبن في تخصص مرموق سابقا مثل (الطب، والهندسة) كونهما التخصصين الذين سيدران دخلا مجزيا لأبناء تلك الطبقة، ومن سيفشل في بلوغ تلك المهمة فسيحتم على نفسه أن يعيش في حياة بائسة غير ميسورة الحال، وقد تتكبد الأسرة نفسها هذا الفشل، وذلك بالصرف على الابن سنينا طويلا وربما قد لا تنتهي، فيكون طوق النجاة الوحيد تعليق الأمل في الاجتهاد الدراسي وبذل الغالي والنفيس كي ينال النجاح، ومن ثم الوظيفة الثابتة والتي تجعله مكتفيا ومستقلا بنفسه مستقبلا.

وعودة مرة أخرى للكتاب بدول شرق آسيا ولكن هذه المرة من بوابة الخلفية (اللغوية) ففي اللغة الصينية هناك تميز واضح في الرياضيات عن باقي دول العالم ويعود ذلك لسبب لغوي بحت وذلك في كون لغتهم سهلة النطق بها خصوصا (في الأرقام) بكونها سلسة وغير صعبة التذكر، فمثلا عن النطق بالعربية للرقم (١٢) اثني عشر، ستجد أنها طويلة جدا مقارنة باللغة الصينية (شار) وعليها فقس باقي الأرقام، هذه الأرقام حتى وإن كانت معقدة للحفظ مثلا (٥٩٢٦٠٩١٦٤٢) لتحفظها الآن في مخيلتك، ستكون بالنسبة للصيني محفوظة في أقل من ثانيتين في ذاكرته، والسبب يعود في ذلك جانب (اللغة) المساعد في العملية المتميزة للصينين في الرياضيات.

يجب أن تتوقف لبرهة حينما تسمع رأيا يريدك أن تتجرد من كينونتك الطبيعية، وأن تتحقق وتتفحص جيدا الشخص الذي يلقي عليك نصائحه، عن خلفيته (العائلية، والثقافية، والجغرافية، واللغوية) لتعلم حقيقة بأن الكل لم يلد وفي فمه ملعقة من ذهب، وأن تعلم جيدا بأنه كل مُيّسر لما خلق له وألا تتوارى عن حقيقتك التي تمثلك في المقام الأول، وأن تتقبلها مثلما هي دون تحريف أو رغبة في التملص منها، بحجة إرضاء الآخرين، وتحقيق أمانيّهم الواهية بك!

إليك أيضا: 

نشرة خواطر مفكرة البريدية - العدد #16 مفهوم زيادة الحمل التدريجي، وعن مدى قابلية تطبيقها في باقي شؤون الحياة! - نشرة خواطر مفكرة البريدية | هدهد

مفهوم زيادة الحمل التدريجي، وعن مدى قابلية تطبيقها في باقي شؤون الحياة! 
gohodhod.com

نشرة خواطر مفكرة البريدية - العدد #16 كيف ترد على سؤال (سعركم غالي!) عن الهيمنة الأزلية للمشتري، وكيفية قلب مفاوضة المبيعات لصالح البائع دوما! - نشرة خواطر مفكرة البريدية | هدهد

كيف ترد على سؤال (سعركم غالي!) عن الهيمنة الأزلية للمشتري، وكيفية قلب مفاوضة المبيعات لصالح البائع دوما! 
gohodhod.com

‎خواطر مفكرة: ‎⁨ثقافة الإمتنان ⁩ on Apple Podcasts

في رحلتي القصيرةِ؛ بحثا عن معاني السعادةِ في حياةٍ حُبلى بالطبيعيِّ مِن المنغصاتِ … مارستُ ثقافةَ الامتنانِ والشكرِ، منذُ أنْ تتفتحَ عيناي معَ بدايةِ كلِّ صباحٍ جديدٍ مؤذِنٍ بيومٍ إضافيٍّ آخرَ في حسابِ الحياةِ، تلكَ الحياةُ التي كلَّما تنفستَ منها نفسا كانَ أقربَ إلى أجلِك كما قالَ عليٌّ بنُ أبي طا…
podcasts.apple.com
مشاركة
نشرة خواطر مفكرة البريدية

نشرة خواطر مفكرة البريدية

هنا أستعرض لك آخر ما أقوم به من تدوينات، لاشاركك آخر قراءاتي 📚 أفكاري 💭 استماعاتي 📻 مشاهداتي 📺 آرائي الخاصة 💡 أنقلها لكم بأسلوبي وبشكل مبسط، واضح، ومفهوم، اشترك الآن لتصلك هذه النشرات فور إصدارها 🙏🏼

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة خواطر مفكرة البريدية